موسوعة التفسير

سورةُ البُرُوجِ
الآيات (17-22)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات:

مُحِيطٌ: أي: عالِمٌ بهم، وقادِرٌ عليهم، وهم لا يُعجِزونَه ولا يَفوتونَه، وأصلُ (حوط): يدُلُّ على الشَّيءِ يُطيفُ بالشَّيءِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/378)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/120)، ((المفردات)) للراغب (ص: 265). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا ما يدُلُّ على شدَّةِ بَطْشِه: هل بلَغَك -يا محمَّدُ- خَبَرُ الجُنودِ الَّذين بَطَش اللهُ بهم فأهلَكَهم؛ فِرْعَونَ وثمودَ؟! ولا يَعتَبِرُ كُفَّارُ قُرَيشٍ بما حَلَّ بفِرعَونَ وثَمودَ، بل هم في تكذيبٍ بالقُرآنِ والبَعْثِ والحسابِ، واللهُ مُطَّلِعٌ على أعمالِهم، وسيُجازيهم عليها. ثمَّ يردُّ الله على المكذِّبينَ بالقرآنِ، فيقولُ: بل هو قُرآنٌ عَظيمٌ، واسِعُ المعاني والعُلومِ والهِداياتِ، كامِلُ الصِّفاتِ، كَثيرُ الخَيراتِ والبَرَكاتِ، في لَوحٍ مَحفوظٍ مَصُونٍ عن التَّغييرِ والتَّبديلِ، وعن وُصولِ الشَّياطينِ إليه.

تفسير الآيات:

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لمَّا ذكَر الله تعالى قصصَ أصحابِ الأخدودِ وبيَّن حالَهم، ووصَف ما كان مِن إيذائِهم للمؤمنينَ- أردَف ذلك ببيانِ أنَّ حالَ الكفَّارِ فى كلِّ عصرٍ كذلك [155] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/115)، ((تفسير المراغي)) (30/106). .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17).
أي: هل بلَغَك -يا محمَّدُ- خَبَرُ الجنودِ الَّذين بَطَش اللهُ بهم فأهلَكَهم؛ لكُفْرِهم باللهِ ورُسُلِه [156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/285)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/250). قال ابنُ كثير: (هذا تقريرٌ لِقَولِه: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] ، أي: إذا أخَذَ الظَّالِمَ أخَذَه أخذًا أليمًا شديدًا، أخْذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/372). وممَّن قال بأنَّ الخِطابَ هنا لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ جرير، والقُرطُبيُّ، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/285)، ((تفسير القرطبي)) (19/297)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/363). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (30/250). وقال ابنُ عثيمين: (الخِطابُ هنا موَجَّهٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو لكُلِّ مَن يَصِحُّ أن يَتوَجَّهَ إليه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 141). ؟
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18).
أي: فِرْعَونَ الَّذي كَذَّبَ هو وقَومُه بموسى عليه السَّلامُ، وقَومِ ثَمودَ الَّذين كَذَّبوا نبيَّهم صالِحًا عليه السَّلامُ [157] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/285)، ((تفسير السمرقندي)) (3/567)، ((تفسير القرطبي)) (19/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/251). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [الفجر: 9-10] .
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19).
أي: لا يَعتَبِرُ كُفَّارُ قُرَيشٍ بما حَلَّ بفِرعَونَ وثَمودَ؛ فسَجِيَّتُهم الدَّائِمةُ وعادتُهم المستَمِرَّةُ هي شِدَّةُ التَّكذيبِ بالقُرآنِ والبَعْثِ والجنَّةِ والنَّارِ، فهم مُنغَمِسونَ فيه؛ عنادًا منهم، واتِّباعًا لأهوائِهم [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/285)، ((تفسير ابن كثير)) (8/373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/252)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 141). قال البِقاعي: (لَمَّا كان التَّقديرُ: نعَمْ قد أتاني ذلك وعَلِمْتُ مِن خبَرِهما وغيرِه أنَّك قادرٌ على ما تُريدُ، ولكنَّ الكفَّارَ لا يُصَدِّقونَني؛ عطَف عليه قولَه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا). ((نظم الدرر)) (21/365). .
كما قال تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم: 29] .
وقال سُبحانَه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص: 2] .
وقال عزَّ وجَلَّ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: 22] .
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا طَيَّبَ سُبحانَه قَلْبَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بحِكايةِ أحوالِ الأوَّلِينَ في هذا البابِ؛ سَلَّاه بَعْدَ ذلك مِن وَجهٍ آخَرَ [159] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/115). ، فقال:
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20).
أي: واللهُ مُطَّلِعٌ على أعمالِهم، وسيُجازيهم عليها؛ فهُم في قَبْضتِه، وهو قادِرٌ على عَذابِهم، فلا يُعجِزونَه [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/285)، ((تفسير القرطبي)) (19/298)، ((تفسير ابن كثير)) (8/373)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/366)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 142). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة: 19] .
وقال سُبحانَه: وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال: 47] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 14] .
بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
تعلُّقُ هذا بما قَبْلَه هو أنَّ هذا القُرآنَ مَجيدٌ مَصونٌ عن التَّغَيُّرِ والتَّبَدُّلِ، فلمَّا حَكَم فيه بسَعادةِ قَومٍ وشَقاوةِ قَومٍ، وبتأذِّي قَومٍ مِن قَومٍ؛ امتنَع تغَيُّرُه وتبَدُّلُه؛ فوَجَب الرِّضا به، ولا شَكَّ أنَّ هذا مِن أعظَمِ مُوجِباتِ التَّسليةِ [161] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/116). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر أنَّهم في تَكذيبٍ، وأنَّ التَّكذيبَ عَمَّهم حتَّى صارَ كالوِعاءِ لهم، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد كَذَّبوه وكَذَّبوا ما جاءَ به -وهو القُرآنُ-؛ أخبَرَ تعالى عن الَّذي جاءَ به فكَذَّبوا، فقال [162] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/447). :
بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21).
أي: ليس الأمرُ كما يَزعُمُ الكُفَّارُ في القُرآنِ، وإنَّما هو قُرآنٌ عَظيمٌ، واسِعُ المعاني والعُلومِ والهِداياتِ، كامِلُ الصِّفاتِ، كَثيرُ الخَيراتِ والبَرَكاتِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/286)، ((البسيط)) للواحدي (23/398)، ((تفسير القرطبي)) (19/298)، ((تفسير ابن كثير)) (8/373)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/366، 367)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/254). .
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَفَه في نَفْسِه بما يأبَى له لَحاقَ شَيءٍ مِن شُبهةٍ؛ وَصَف محَلَّه في الملأِ الأعلى إعلامًا بأنَّه لا يَطرَأُ عليه ما يُغَيِّرُه؛ فقال تعالى [164] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/367). :
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: مَحْفُوظٌ بضَمِّ الظَّاءِ، صِفةً للقُرآنِ، أي: القُرآنُ مَحفوظٌ [165] قرأ بها نافعٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/137)، ((الحجة للقراء السبعة)) للفارسي (6/396). .
2- قِراءةُ: مَحْفُوظٍ بكَسْرِ الظَّاءِ، صِفةً للَّوحِ، أي: القُرآنُ في اللَّوحِ المحفوظِ [166] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/137)، ((الحجة للقراء السبعة)) للفارسي (6/396)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/255). .
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22).
أي: القَرآنُ مَكتوبٌ في لَوحٍ مَحفوظٍ مَصُونٍ عن التَّغييرِ والتَّبديلِ، والزِّيادةِ والنُّقصانِ، ومحفوظٍ وسالِمٍ مِن وُصولِ الشَّياطينِ إليه [167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/286)، ((الوسيط)) للواحدي (4/463)، ((تفسير القرطبي)) (19/298)، ((تفسير ابن كثير)) (8/373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 143). ممَّن قال في الجملةِ: إنَّ المرادَ: مَحفوظٌ مِن الزِّيادةِ والنَّقصِ، والتَّحريفِ والتَّبديلِ: ابنُ جرير، وابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/286)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 373)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 143). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: محفوظٌ عندَ الله تعالى مِن وُصولِ الشَّياطينِ إليه: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/298). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السَّابقَينِ: الواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والسعدي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/463)، ((تفسير البغوي)) (5/237)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919). قال ابن جرير: (وقوله: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يقولُ تعالى ذِكرُه: هو قرآنٌ كريمٌ، مُثبَتٌ في لَوحٍ محفوظٍ). ((تفسير ابن جرير)) (24/286). وقال الواحدي: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ عندَ الله، وهو أُمُّ الكتابِ، منه نُسِخ القرآنُ والكُتبُ، وهو الَّذي يُعرَفُ باللَّوحِ المحفوظِ مِن الشَّياطينِ، ومِن الزِّيادةِ فيه والنُّقصانِ). ((الوسيط)) (4/463). وقال ابنُ عاشور: (اللَّوحُ كائِنٌ قُدسِيٌّ مِن كائناتِ العالَمِ العُلويِّ المغَيَّباتِ... واقتَضَت هذه الآيةُ أنَّ القُرآنَ كُلَّه مُسَجَّلٌ فيه). ((تفسير ابن عاشور)) (30/253). وقال ابن عثيمين: (القرآنُ الكريمُ: هل هو مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ بهذه الآياتِ والحروفِ، أو أنَّ المكتوبَ في اللَّوحِ ذِكْرُه، وأنَّه سيَنزِلُ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّه سيَكونُ نورًا وهُدًى للنَّاسِ، وما أشْبَهَ ذلك؟ ففيه احتِمالٌ: إنْ نَظَرْنا إلى ظاهرِ النُّصوصِ، قُلْنا: إنَّ ظاهرَها أنَّ القرآنَ كلَّه مكتوبٌ جُملةً وتفصيلًا، وإنْ نَظَرْنا إلى أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يتكلَّمُ بالقرآنِ حينَ نُزولِه، قُلْنا: إنَّ الَّذي كُتِب في اللَّوحِ المحفوظِ ذِكرُ القرآنِ، ولا يَلزَمُ مِن كَونِ ذِكْرِه في اللَّوحِ المحفوظِ أن يكونَ قد كُتِب فيه؛ كما قال الله تعالى عن القرآنِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] ؛ يعني: كُتُبَ الأوَّلينَ، ومعلومٌ أنَّ القرآنَ لم يوجَدْ نصُّه في الكُتبِ السَّابقةِ، وإنَّما وُجِد ذِكرُه، ويمكنُ أن نقولَ مِثلَها في قولِه تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، أي: ذِكرُه في هذا اللَّوحِ). ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/197، 198). واختار في موضعٍ آخَرَ أنَّ المعنى أنَّه ذُكِر في اللَّوحِ المحفوظِ بالمَجْدِ وبالعَظَمةِ. يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/213). وقال أيضًا: (قولُه تعالى: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يعني بذلك اللَّوحَ المحفوظَ عندَ الله عزَّ وجلَّ، الَّذي هو أُمُّ الكتابِ، كما قال اللهُ تبارَك وتعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] . وهذا اللَّوحُ كتَبَ اللهُ به مَقاديرَ كلِّ شَيءٍ، ومِن جملةِ ما كتب به أنَّ هذا القرآنَ سيَنزِلُ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهو في لَوحٍ محفوظٍ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 143). .
كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 77 - 79] .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ كان مِن نبَأِ فِرعَونَ وثمودَ فائِدتانِ:
الأُولى: تسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَقْويتُه، وأنَّ الَّذي نَصَر رُسُلَه مِن قَبْلُ سوف يؤَيِّدُه ويَنصُرُه ويُعَزِّزُه، وهذا لا شَكَّ أنَّه يُقَوِّي العزيمةَ، ويَشحَذُ الهِمَمَ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وتبليغِ رِسالاتِه.
والفائدةُ الثَّانيةُ: تهديدٌ ووَعيدٌ شديدٌ لقُرَيشٍ الَّذين كَذَّبوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووَقَفوا له بالمِرْصادِ، وأنَّهم ليسوا أشَدَّ قُوَّةً مِن فِرعَونَ وثَمودَ، ومع ذلك أصابَهم الدَّمارُ والهلاكُ، ووقع عليهم كَلِمةُ العَذابِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 141). .
2- خَتَمَ الله تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بذِكْرِ فِعْلِه وعُقوبتِه بمَن أَشْرَكَ به وكَذَّبَ رُسُلَه؛ تحذيرًا لعبادِه مِن سُلوكِ سَبيلِهم، وأنَّ مَن فَعَلَ فِعْلَهم فُعِلَ به كما فُعِلَ بهم [169] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 98). .
3- أَخْبَرَ الله تعالى عن أعدائِه بأنَّهم مكذِّبون بتَوحيدِه ورِسالاتِه مع كَونِهم في قبضتِه، وهو محيطٌ بهم! ولا أَسْوَأَ حالًا ممَّن عادَى مَن هو في قبضتِه، ومَن هو قادرٌ عليه مِن كلِّ وجْهٍ وبكلِّ اعتبارٍ! فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ، فهل هناك أعجَبُ ممن كفَرَ بمَن هو محيطٌ به، وآخِذٌ بناصيتِه، قادرٌ عليه [170] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 98). ؟!
4- قال اللهُ تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ وَصْفُ القُرآنِ بأنَّه مَجِيدٌ لا يَعني أنَّ المجْدَ وَصْفٌ للقُرآنِ نفْسِه فقط، بل هو وَصفٌ للقُرآنِ، ولِمَن تحَمَّل هذا القُرآنَ فحمَلَه، وقام بواجِبِه مِن تِلاوَتِه حَقَّ تِلاوَتِه؛ فإنَّه سيَكونُ لهم المجدُ والعِزَّةُ والرِّفعةُ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 142، 143). . فمَن تمسَّكَ بهذا القرآنِ العظيمِ فلَه المجدُ والعِزَّةُ والكَرامةُ والرِّفْعةُ؛ فيَنبغي على الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ -أفرادِ شُعوبِها، ووُلاةِ أُمورِها- أنْ يتمَسَّكوا بالقُرآنِ العظيمِ، وألَّا يَغُرَّهم البَهْرَجُ المزَخرَفُ الَّذي يَرِدُ مِن الأممِ الكافرةِ، فيَنبِذوا كِتابَ اللهِ تعالى وسُنَّةَ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وراءَ ظُهورِهم! فإنَّ هذا واللهِ سَبَبُ التَّأخُّرِ، فلمْ تتأخَّرْ أُمَّتُنا الإسلاميَّةُ هذا التَّأخُّرَ إلَّا بسببِ تركِ ما به عِزَّتُها وكرامتُها، وهو التَّمَسُّكُ بهذا القُرآنِ العظيمِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 144). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ سؤالٌ عن الجَمْعِ بيْن لَفظةِ: «الجُنودِ» مع لَفظةِ «فِرْعونَ»؛ لأنَّ فِرعَونَ ليس جُندًا، وإنَّما هو رجُلٌ بعَينِه!
الجوابُ: أنَّ المرادَ بـ «فِرعونَ» هو وقَومُه، فاكتفى بذِكْرِه؛ لأنَّهم تَبَعٌ له، وتحتَ طاعتِه [173] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 256). .
2- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ مُشاكَلةٌ ومُشابهةٌ في اختيارِ فِرعَونَ هنا بعْدَ أصحابِ الأُخدودِ؛ إذ فِرعَونُ طغَى وادَّعَى الرُّبوبيَّةَ كمَلِكِ أصحابِ الأُخدودِ الَّذي قال لجليسِه: «ألَك رَبٌّ غيري؟!» [174] رواه مسلم (3005). ، ولتعذيبِه بني إسرائيلَ بتقتيلِ الأولادِ واستحياءِ النِّساءِ: وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49] ، ولتقديمِ الآياتِ والبراهينِ على صِدْقِ الدَّاعيةِ؛ إذ موسى عليه السَّلامُ قَدَّم لفِرعَونَ مِن آياتِ رَبِّه الكُبرى؛ فكَذَّب وعَصى، والغلامُ قَدَّم لهذا المَلِكِ الآياتِ الكُبرى: إبراءَ الأكْمَهِ والأبرَصِ بإذْنِ اللهِ، وعَجْزِ فِرعَونَ عن موسى وإدراكِه، وعَجْزِ الملِكِ عن قَتْلِ الغُلامِ؛ إذ نجَّاه اللهُ مِن الإغراقِ والسُّقوطِ مِن قِمَّةِ الجَبَلِ؛ فكان لهذا أن يَرعويَ عن ذلك ويتفَطَّنَ للحقيقةِ، ولكِنَّ سُلطانَه أعماه كما أعمى فِرعَونَ، وكذلك آمَنَ السَّحَرةُ لَمَّا رأوا آيةَ موسى، وخَرُّوا لله سُجَّدًا، وهكذا هنا آمَنَ النَّاسُ برَبِّ الغُلامِ؛ فوقع الملِكُ فيما وقع فيه فِرعَونُ؛ إذ جمَعَ فِرعَونُ السَّحَرةَ لِيَشهَدَ النَّاسُ عَجْزَ موسى وقُدْرتَه، فانقلب الموقِفُ عليه، وكان أوَّلَ النَّاسِ إيمانًا هم أعوانُ فِرعَونَ على موسى، وهكذا هنا كان أسرَعَ النَّاسِ إيمانًا الَّذين جمَعَهم الملِكُ لِيَشهَدوا قَتْلَه للغُلامِ! فظهر تَناسُبُ ذِكرِ فِرعَونَ دونَ غَيرِه مِنَ الأُمَمِ الطَّاغيةِ السَّابقةِ، وإن كان في الكُلِّ عِظةٌ وعِبرةٌ، ولكِنْ هذا منتهى الإعجازِ في قَصَصِ القُرآنِ وأُسلوبِه [175] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/488). .
3- في قَولِه تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ بيانُ أنَّ حالَ المُؤمِنينَ مع الكُفَّارِ في جميعِ الأزمِنةِ مُستَمِرَّةٌ على هذا النَّهْجِ [176] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/115). .
4- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ الوَعيدُ الشَّديدُ للكافِرينَ مِن عُقوبةِ مَن هم في قَبضتِه، وتحتَ تَدبيرِه [177] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 919). .
5- في قَولِه تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يعني: مِنَ التَّغييرِ والزِّيادةِ والنَّقصِ، ومحفوظٍ مِن الشَّياطينِ، وهو اللَّوحُ المحفوظُ الَّذي قد أثبتَ اللهُ فيه كُلَّ شَيءٍ، وهذا يدُلُّ على جَلالةِ القُرآنِ وجَزالتِه، ورِفعةِ قَدْرِه عِندَ اللهِ تعالى [178] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 919). .
6- في قَولِه تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ إشارةٌ إلى أنَّ الشَّياطينَ لا يُمكِنُهم التَّنَزُّلُ به؛ لأنَّ مَحَلَّه محفوظٌ أنْ يَصِلوا إليه، وهو في نفْسِه محفوظٌ أنْ يَقْدِرَ الشَّيطانُ على الزِّيادةِ فيه والنُّقصانِ؛ فوَصَفَه سُبحانَه بأنَّه مَحفوظٌ في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، ووَصَفَ مَحَلَّه بالحِفْظِ في هذه السُّورةِ؛ فاللهُ سُبحانَه حَفِظَ مَحَلَّه، وحَفِظَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ والتَّبديلِ، وحَفِظَ معانيَه مِن التَّحريفِ كما حَفِظَ ألفاظَه مِن التَّبديلِ، وأقام له مَن يَحْفَظُ حُروفَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ، ومَعانيَه مِن التَّحريفِ والتَّغييرِ [179] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 99). .
7- وَصَفَ الله تعالى كلامَه بأنه مجيدٌ -وهو أحقُّ بالمَجدِ مِن كلِّ كلامٍ- كما أنَّ المتكلِّمَ به له المجدُ كلُّه، فهو المجيدُ، وكلامُه مجيدٌ، وعَرشُه مجيدٌ [180] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 99). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
- قولُه: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ استِئنافٌ مُقرِّرٌ لشِدَّةِ بَطْشِه تعالَى بالظَّلَمةِ العُصاةِ، والكَفَرةِ والعُتاةِ، وكَونُه فَعَّالًا لِما يُريدُ مُتضمِّنٌ لتَسلِيتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالإشْعارِ بأنَّه سيُصيبُ قَومَه ما أَصابَ الجُنودَ، أي: هل أتاك يا مُحمَّدُ خَبرُ الجُموعِ الكافِرةِ المُكذِّبةِ لأنبِيائِهم [181] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/139)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/435، 436). ؟ فالخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ للاستِدلالِ على كَونِ بَطْشِه تعالَى شَديدًا بِبَطْشَينِ بَطَشَهما بفِرعَونَ وثَمودَ، بعْدَ أنْ عَلَّلَ ذلك بقَولِه: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: 13] ؛ فذلك تَعليلٌ، وهذا تَمثيلٌ ودَليلٌ [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/250). .
- وأيضًا قولُه: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ تَقريرٌ لحالِ الكَفَرةِ، أي: قد أتاك حَديثُهم، وما جَرَى لهم مع أنبِيائِهم، وما حَلَّ بهم مِن العُقوباتِ بسَببِ تَكذيبِهم، فكذلك يَحُلُّ بقُريشٍ مِن العَذابِ مِثلُ ما حَلَّ بهم [183] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/446). . فـ هَلْ في قولِه: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ قيل: إنَّها بمَعنى (قدْ)، وضُمِّنَ معْنى التَّعجُّبِ؛ بدَلالةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ؛ ليُفيدَ التَّرقِّيَ مِن التَّعجيبِ إلى التَّعجيبِ في الإضْرابِ الأوَّلِ، والتَّرقِّيَ مِن التَّكذيبِ إلى التَّكذيبِ في الإضرابِ الثَّاني؛ فأمْرُهم أعجَبُ مِن أمْرِ فِرعونَ وثَمودَ؛ لأنَّهم سَمِعوا بقَصَصِهم وبِما جَرَى عليْهم، ورَأَوا آثارَ هَلاكِهم؛ ولم يَعتَبِروا، وكَذَّبوا أَشَدَّ مِن تَكذيبِهم [184] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/733)، ((تفسير البيضاوي)) (5/302)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/377). . والاستِفهامُ هنا مُستَعمَلٌ في إرادةِ تَهويلِ حَديثِ الجُنودِ بأنَّه يُسأَلُ عن عِلمِه، وفيه تَعريضٌ للمُشرِكين بأنَّهم قد يَحُلُّ بهم ما حَلَّ بأولئك. والخِطابُ لغَيرِ مُعيَّنٍ ممَّن يُرادُ موعِظتُه مِن المُشرِكين -على قولٍ-، كِنايةً عن التَّذكيرِ بخَبَرِهم؛ لأنَّ حالَ المُتَلبِّسينَ بمِثلِ صَنيعِهم، الرَّاكِبين رُؤوسَهم في العِنادِ، كَحالِ مَن لا يَعلَمُ خَبَرَهم، فيُسألُ: هل بَلَغَه خَبَرُهم أو لا؟ أو خِطابًا لغَيرِ مُعيَّنٍ، تَعجيبًا مِن حالِ المُشرِكين في إعْراضِهم عن الاتِّعاظِ بذلك؛ فيَكون الاستِفهامُ مُستَعمَلًا في التَّعجيبِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/250). .
- وفي قولِه: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أُبدِلَ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ مِن الْجُنُودِ بَدَلًا مُطابِقًا؛ لأنَّ المُرادَ بـ فِرْعَوْنَ هو وقَومُه، ولأنَّه أُريدَ العِبرةُ بهؤلاء، والكَلامُ على حَذْفِ مُضافٍ؛ لأنَّ فِرعَونَ ليس بجُندٍ، ولكنَّه مُضافٌ إليه الجُندُ الَّذين كَذَّبوا مُوسى عليه السَّلامُ وآذَوه؛ فحُذِفَ المُضافُ لنُكْتةِ المُزاوَجةِ بيْنَ اسْمَينِ عَلَمَينِ مُفرَدَينِ في الإبْدالِ مِن الجُنودِ [186] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/733)، ((تفسير البيضاوي)) (5/302)، ((تفسير أبي حيان)) (10/446)، ((تفسير أبي السعود)) (9/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/251). .
- واختصَرَ ما جَرى لفِرعونَ وثَمودَ؛ إذْ هُم مَذكورونَ في غيرِ ما سُورةٍ مِن القُرآنِ الكريمِ، وذكَرَ ثَمودَ؛ لشُهرةِ قِصَّتِهم في بِلادِ العرَبِ، وهي مُتقدِّمةٌ، وذكَرَ فِرعونَ؛ لشُهرةِ قِصَّتِه عندَ أهلِ الكِتابِ، وعندَ العرَبِ الجاهليَّةِ أيضًا [187] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/446). .
وأيضًا تَخصيصُ ثَمودَ بالذِّكرِ مِن بَقيَّةِ الأُمَمِ الَّتي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِن العَرَبِ مِثلَ: عادٍ وقَومِ تُبَّعٍ، ومِن غَيرِهم مِثلَ: قَومِ نُوحٍ وقَومِ شُعَيبٍ؛ قيل: لِمَا اقتَضَتْه الفاصِلةُ الجارِيةُ على حرْفِ الدَّالِ مِن قولِه: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] ؛ فإنَّ ذلك لَمَّا استَقامَتْ به الفاصِلةُ ولم يكُنْ في ذِكرِه تَكلُّفٌ، كان مِن مَحاسِنِ نَظْمِ الكَلامِ إيثارُه [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/251). . وقيل غيرُ ذلك [189] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/382). .
2- قولُه تعالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ
- قولُه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ إضْرابٌ عن مُماثَلةِ كُفَّارِ قُريشٍ لقَومِ فِرعونَ وثَمودَ، وبَيانٌ لكَونِهم أَشَدَّ منهم في الكُفرِ والطُّغيانِ، كأنَّه قيلَ: لَيسُوا مِثلَهم في ذلك، بلْ هم أشَدُّ منهم في استِحقاقِ العَذابِ، واستِيجابِ العِقابِ؛ فإنَّهم مُستَقِرُّونَ في تَكذيبٍ شَديدٍ للقُرآنِ الكَريمِ، أو قيلَ: ليستْ جِنايتُهم مُجرَّدَ عَدَمِ التَّذكُّرِ والاتِّعاظِ بما سَمِعوا مِن حَديثِهم، بلْ هُم مع ذلك في تَكذيبٍ شَديدٍ للقُرآنِ النَّاطقِ بذلك، لكنْ لا أنَّهم يُكذِّبون بوُقوعِ الحادِثةِ، بلْ بكَونِ ما نَطَقَ به قُرآنًا مِن عندِ اللهِ تعالى، مع وُضوحِ أمْرِه، وظُهورِ حالِه بالبيِّناتِ الباهِرةِ [190] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/139). ! فهو إضْرابٌ انتِقاليٌّ إلى إعْراضِهم عن الاعتِبارِ بحالِ الأُمَمِ الَّذين كَذَّبوا الرُّسُلَ؛ وهو أنَّهم مُستَمِرُّون على التَّكذيبِ، مُنغَمِسون فيه انغِماسَ المَظروفِ في الظَّرفِ، فجُعِلَ تَمكُّنُ التَّكذيبِ مِن نُفوسِهم كتَمَكُّنِ الظَّرفِ بالمَظروفِ. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ إحاطةَ التَّكذيبِ بهم إحاطةُ الظَّرفِ بالمَظروفِ، لا يَترُكُ لتَذَكُّرِ ما حَلَّ بأمْثالِهم مِن الأُمَمِ مَسلَكًا لعُقولِهم؛ ولهذا لم يَقُلْ هنا: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، كما قال في سورةِ (الانشقاقِ) [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/252). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ التَّكذيبِ هنا؛ لظُهورِه مِن المقامِ؛ إذ التَّقديرُ: أنَّهم في تَكذيبٍ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبالوحْيِ المنزَّلِ إليه، وبالبَعثِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/252). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ عَطْفٌ على جُملةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، أي: هم مُتَمَكِّنون مِن التَّكذيبِ، واللهُ يُسلِّطُ عليْهم عِقابًا لا يُفْلِتون منه [193] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/733)، ((تفسير أبي السعود)) (9/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/252). . وقوبِلَ جَزاءُ إحاطةِ التَّكذيبِ بالكافِرين بإحاطةِ العَذابِ بهم جَزاءً وِفاقًا؛ فقولُه: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ خَبَرٌ مُستعمَلٌ في الوَعيدِ والتَّهديدِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/252). .
3- قولُه تعالَى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ
- قولُه: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ إضْرابُ إبْطالٍ؛ ردٌّ لكُفرِهم، وإبْطالٌ لتَكذيبِهم، وتَحقيقٌ للحَقِّ؛ لأنَّ القُرآنَ جاءَهم بدَلائلَ بَيِّنةٍ، فاستِمْرارُهم على التَّكذيبِ ناشئٌ عن سُوءِ اعتِقادِهم في القُرآنِ؛ إذ وَصَفوه بصِفاتِ النَّقْصِ مِن قَولِهم: أَساطيرُ الأوَّلين، إفْكٌ مُفْترًى، قَولُ كاهِنٍ، قَولُ شاعِرٍ...؛ فكان التَّنويهُ به جامِعًا لإبْطالِ جَميعِ تُرَّهاتِهم على طَريقةِ الإيجازِ [195] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/252). .
- والإخْبارُ عن الوَحيِ المُنَزَّلِ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باسْمِ «قُرآنٍ»، إشارةٌ عُرفيَّةٌ إلى أنَّه مُوحًى به، تَعريضٌ بإبْطالِ ما اختَلَقَه المُكذِّبون أنَّه أساطيرُ الأوَّلينَ، أو قَولُ كاهِنٍ، أو نَحوَ ذلك [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/253). .
- وعلى قِراءةِ الجُمهورِ مَحْفُوظٍ بالجَرِّ، على أنَّه صِفةُ لَوْحٍ، وحِفظُ اللَّوحِ الَّذي فيه القُرآنُ كِنايةٌ عن حِفظِ القُرآنِ، وقرَأَ نافِعٌ وحْدَه برَفعِ مَحْفُوظٌ، على أنَّه صِفةٌ ثانِيةٌ لـ (قُرآنٌ)، ويَتَعلَّقُ قولُه: فِي لَوْحٍ بـ مَحْفُوظٌ، وحِفظُ القُرآنِ يَستَلزِمُ أنَّ اللَّوحَ المُودَعَ هو فيه مَحفوظٌ أيضًا؛ فلا جَرَمَ حَصَلَ مِن القِراءتَينِ ثُبوتُ الحِفظِ للقُرآنِ ولِلَّوحِ؛ فأمَّا حِفظُ القُرآنِ فهو حِفظُه مِن التَّغييرِ ومِن تَلَقُّفِ الشَّياطينِ، قال تعالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] . وأمَّا حِفظُ اللَّوحِ فهو حِفظُه عن تَناوُلِ غَيرِ المَلائكةِ إيَّاه، أو حِفظُه كِنايةً عن تَقديسِه، كقولِه تعالَى: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/254، 255). [الواقعة: 78-79] .