موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (41-44)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غَريبُ الكَلِماتِ:

ذُرِّيَّتَهُمْ: الذُرِّيَّةُ: الأولادُ، وأولادُ الأولادِ، مِن (ذَرَأَ)، أي: خَلَق؛ لأنَّ الذُّريَّةَ خَلْقُ اللهِ، أو لأنَّ الولدَ ذُرِئ مِن الأبِ، وقيلَ غيرُ ذلك. والذُّرِّيَّةُ أيضًا: الآباءُ؛ لأنَّ الذَّرَّ وقَع منهم، فهو مِن الأضْدادِ [432] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 230)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/352)، ((البسيط)) للواحدي (3/293)، (18/488)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/525)، ((المفردات)) للراغب (ص: 327)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 92). .
الْفُلْكِ: أي: السَّفينةِ، وواحِدُه وجمعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ (فلك): يدُلُّ على الاستِدارةِ، ولعلَّ السفينةَ تُسَمَّى فُلْكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [433] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
الْمَشْحُونِ: أي: المملوءِ، وأصلُ (شحن): يدُلُّ على المَلْءِ [434] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/251)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 315)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 320). .
صَرِيخَ: أي: مُغيثَ ومُجيرَ، ويُطلَقُ أيضًا على المستغيثِ المستنجِدِ، وهو مِن الأضدادِ، والاستِصراخُ: الإغاثةُ والاستِغاثةُ؛ وذلك أنَّ المُنْجِدَ إذا صَرَخ به المستنجِدُ صَرَخ هو مُجيبًا بما يطمئِنُّ له، وأصلُ (صرخ): يدُلُّ على صَوتٍ رَفيعٍ [435] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 365)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 301)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/348)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1071)، ((تفسير القرطبي)) (9/357) و(15/35)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 349)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 566)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/29). .
وَمَتَاعًا: أي: انتِفاعًا، والمتاعُ والمتعةُ ما يُنتفَعُ به انتفاعًا قليلًا غيرَ باقٍ، وأصلُ (متَع): يدُلُّ على المنفَعةِ، وامتدادِ مُدَّةٍ في خَيرٍ [436] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 46)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 757)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 69). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالَى: وعلامةٌ عَظيمةٌ لهم أيضًا دالَّةٌ على وَحدانيَّةِ اللهِ، وكَمالِ قُدرتِه على إحياءِ الموتَى: أنَّا حَمَلْنا آباءَهم الأقدَمينَ -الذين آمَنوا بنوحٍ عليه السَّلامُ- في السَّفينةِ التي أمَرْناه بصُنعِها، والتي كانتْ مَملوءةً، وخلَقْنا للعِبادِ سُفُنًا أمثالَ سَفينةِ نوحٍ يَركَبونَها، وإنْ نشَأْ نُغرِقْ مَن يركَبونَ هذه السُّفُنَ في البَحرِ دونَ أن يجِدوا مَن يُغيثُهم أو مَن يُنقِذُهم مِن الغَرَقِ سِوى رَحمتِنا بهم وفَضلِنا عليهم، وتمتيعِنا إيَّاهم بالحياةِ إلى وَقتٍ مُعَيَّنٍ تنقَضي عنده آجالُهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّها انتِقالٌ مِن عَدِّ آياتٍ في الأرضِ وفي السَّماءِ إلى عَدِّ آيةٍ في البَحرِ تَجمَعُ بينَ العِبرةِ والمِنَّةِ، وهي آيةُ تَسخيرِ الفُلكِ: أنْ تسيرَ على الماءِ، وتسخيرُ الماءِ لِتَطفوَ عليه دونَ أنْ يُغرِقَها [437] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/26). .
وأيضًا لَمَّا مَنَّ تعالَى بإحياءِ الأرضِ -وهي مكانُ الحيواناتِ-، بيَّنَ أنَّه لم يقتَصِرْ عليه، بلْ بيَّن للإنسانِ طَريقًا يتَّخِذُ مِن البَحرِ، ويَسيرُ فيها كما يَسيرُ في البَرِّ، فقال [438] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/282)، ((تفسير ابن عادل)) (16/224). :
وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41).
أي: وعَلامةٌ عَظيمةٌ لهم [439] قيل: المرادُ بهم: كفَّارُ مكةَ. وممَّن قال بهذا: مقاتِل بن سُليمان، والسَّمرقندي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/580)، ((تفسير السمرقندي)) (3/124). وقيل: المرادُ بهم: جميعُ النَّاسِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 150). قال الشوكانيُّ: (ثُمَّ قال: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فكأنَّه قال: وآيةٌ للعِبادِ أنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِ العِبادِ، ولا يلزَمُ أنْ يكونَ المرادُ بأحدِ الضَّميرَيْنِ البعضَ منهم، وبالضَّميرِ الآخَرِ البعضَ الآخَرَ، وهذا قولٌ حَسَنٌ). ((تفسير الشوكاني)) (4/427). يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/283). وقال الماورديُّ: (قوله عزَّ وجلَّ: وَآَيَةٌ لَهُمْ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدُها: عبرةٌ لهم؛ لأنَّ في الآياتِ اعتِبارًا. الثاني: نِعمةٌ عليهم؛ لأنَّ في الآياتِ إنعامًا. الثالث: إنذارٌ لهم؛ لأنَّ في الآياتِ إنذارًا). ((تفسير الماوردي)) (5/19). دالَّةٌ على تَوحيدِ اللهِ، وكَمالِ قُدرتِه على فِعلِ ما يَشاءُ، وعلى غيرِ ذلك: أنَّا حمَلْنا آباءَهم [440] ممَّن اختار المعنى المذكورَ في الجُملةِ، وأنَّ المرادَ بالذُّريَّةِ هنا: الآباءُ الأقدمون الذين ركِبوا السَّفينةَ معَ نوحٍ عليه السَّلامُ: ثَعلب، وابنُ جَرير، والسَّمرقندي، والواحدي، والبَغوي، وابنُ كثير، وجلال الدِّين المحلي، والعُليمي. يُنظر: ((مجالس ثعلب)) (ص: 157)، ((تفسير ابن جرير)) (19/442)، ((تفسير السمرقندي)) (3/124)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 900)، ((تفسير البغوي)) (4/15)، ((تفسير ابن كثير)) (6/579)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 583)، ((تفسير العليمي)) (5/485). قال الواحديُّ: (لأنَّ مَن حُمِلَ مع نوحٍ كان هؤلاء مِن نَسْلِهم، والذُّرِّيَّةُ تَقعُ على الآباءِ كما تقَعُ على الأولادِ). يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/514). والسَّفينةُ على هذا القَولِ: هي سَفينةُ نوحٍ عليه السَّلامُ، ونَسَب الرَّسْعنيُّ القَولَ بذلك إلى أكثَرِ المفَسِّرين. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/340). قال ابنُ الجوزي: (قال المفسِّرون: أراد: في سَفينةِ نوحٍ، فنَسَب الذُّرِّيَّةَ إلى المُخاطَبين؛ لأنَّهم مِن جِنسِهم، كأنَّه قال: ذُرِّيَّةَ النَّاسِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/525). وقال ابنُ جُزي: (وإنْ أراد بالفُلكِ سَفينةَ نوحٍ فيَعني بالذُّرِّيَّةِ مَن كان في السَّفينةِ، وسمَّاهم ذُرِّيَّةً؛ لأنَّهم ذُرِّيَّةُ آدمَ ونُوحٍ، فالضَّميرُ في ذُرِّيَّتَهُمْ على هذا النَّوعِ لبني آدمَ، كأنَّه يقولُ: الذُّرَّيَّةُ منهم). ((تفسير ابن جزي)) (2/183). وقال ابنُ عُثَيمين: (والصَّوابُ أن نقولَ: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، يعني: الذُّرِّيَّةَ التي كانوا منها؛ فالإضافةُ -كما يقولُ النَّحويونَ- لأدْنى مُلابَسةٍ، فآباؤُهم بالنِّسبةِ لِنُوحٍ ذُرَّيَّةٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 209). وقال الزمخشريُّ: (قيل: الفلكُ المشحونُ: سَفينةُ نوحٍ، ومعنى حَملِ اللهِ ذُرِّياتِهم فيها: أنَّه حمَل فيها آباءَهم الأقدمين، وفي أصلابِهم هم وذُريَّاتُهم، وإنَّما ذكَرَ ذريَّاتِهم دونَهم؛ لأنَّه أبلغُ في الامتنانِ عليهم، وأدخَلُ في التعجيبِ مِن قُدرتِه في حمْلِ أعقابِهم إلى يومِ القِيامةِ في سَفينةِ نوحٍ). ((تفسير الزمخشري)) (4/18). وقال الرازيُّ: (إِنْ كانَ المرادُ سفينةَ نُوحٍ عليه السَّلامُ ففيه وجوهٌ: الأَوَّلُ: أنَّ المرادَ أَنَّا حَمَلْنا أولادَكم إلى يومِ القِيامةِ في ذلك الفُلكِ، ولولا ذلك لَمَا بَقِي للآدميِّ نَسْلٌ ولا عَقِبٌ وعلى هذا فقولُه: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ بدلُ قولِه: «حَمَلْنَاهم» إشارَةٌ إلى كمالِ النِّعمةِ، أي: لم تَكُنِ النِّعمةُ مُقْتَصِرَةً عليكم، بلْ متعدِّيَةً إلى أعقابِكم إلى يومِ القِيامةِ، هذا ما قاله الزَّمخشريُّ. ويَحتمِلُ عِندي أنَّ يُقالَ على هذا: إنَّه تعالَى إنَّما خصَّ الذُّرِّيَّةَ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ الموجودينَ كانوا كُفَّارًا لا فائدةَ في وُجودِهم فقال: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ، أي: لم يَكُنِ الحملُ حَمْلًا لهم، وإنَّما كان حَمْلًا لِمَا في أصلابِهم مِن المؤمنينَ... الثَّاني: هو أنَّ المرادَ بِالذُّرِّيَّةِ الجِنسُ، معناه: حَمَلْنا أجناسَهم؛ وذلك لأنَّ وَلَدَ الحيوانِ مِن جِنسِه ونوعِه، والذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ على الجنسِ... فقولُه: أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ، أي: أمثالَهم، وآباؤُهم حينئِذٍ تَدْخُلُ فيهم. الثَّالثُ: هو أنَّ الضَّميرَ فِي قولِه: وَآَيَةٌ لَهُمْ عَائِدٌ إلى العِبادِ حيثُ قال: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ [يس: 30] ، وقال بعدَ ذلك: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] ، وقال: وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] ، وقالَ: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ؛ إذا عُلِم هذا فكأنَّه تعالَى قال: وآيةٌ للعبادِ أنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِ العبادِ، ولا يلزمُ أنْ يكونَ المرادُ بالضَّميرِ في الموضعَينِ أشخاصًا معيَّنينَ... قولُه تعالَى: وَآَيَةٌ لَهُمْ، أي: آيةٌ لكلِّ بَعضٍ منهم أنَّا حمَلْنا ذُريةَ كلِّ بعضٍ منهم، أو ذُرِّيَّةَ بعضٍ منهم). ((تفسير الرازي)) (26/283). وقيل: المرادُ بقولِه: ذُرِّيَّتَهُمْ: أولادُهم. وممَّن اختار هذا القولَ: الزمخشري، والخازن، والألوسي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/18)، ((تفسير الخازن)) (4/8)، ((تفسير الألوسي)) (12/26)، ((تفسير القاسمي)) (8/186). قال الألوسيُّ: (واستظهَرَ حَمْلَه على الأولادِ مُطلقًا أبو حيَّان، وجوَّز غيرُ واحدٍ أن يُحمَلَ على الكِبارِ؛ لأنَّهم المبعوثونَ للتِّجارةِ، أي: حمَلْناهم حينَ يَبعثونَهم للتِّجارةِ). ((تفسير الألوسي)) (12/26)، ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/69). وقال السَّمينُ الحلَبي: (وقيل: الأبناءُ، وذلك إذا أُريدَ بالفُلكِ جِنسُ السُّفُنِ لا سَفينةُ نُوحٍ). ((عمدة الحفاظ)) (2/40). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: جِنسُ السُّفُنِ: الرازي، وابن جُزي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/283)، ((تفسير ابن جزي)) (2/183)، ((تفسير الألوسي)) (12/26، 27). وقال الألوسيُّ: (وإرادةُ الجِنسِ مَرويَّةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، ومجاهدٍ، والسُّدِّي). ((تفسير الألوسي)) (12/26). وقال الرازيُّ: (هو أظهرُ؛ لأنَّ سَفينةَ نوحٍ لم تكُنْ بحضرَتِهم ولم يَعْلموا مَن حُمِل فيها، فأمَّا جِنسُ الفلكِ فإنَّه ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، وقولُه تعالَى في سفينةِ نوحٍ: وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15] ، أي: بوجودِ جِنسِها ومِثلِها، ويؤَيِّدُه قولُه تعالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] ). ((تفسير الرازي)) (26/283). وقال ابنُ جُزي: (والأظهرُ أنَّه أراد بالفلكِ جنسُ السُّفنِ، فيعني جِنسَ بني آدمَ، وإنَّما خَصَّ ذُريتَهم بالذِّكرِ؛ لأنَّه أبلغُ في الامتِنانِ عليهم). ((تفسير ابن جزي)) (2/183). وظاهرُ كلامِ ابنِ كثيرٍ الجمْعُ بينَ القَولينِ في المرادِ بالفُلكِ، حيثُ قال: (ودَلالَةٌ لهم أيضًا على قُدرَتِه تعالَى: تسخيرُه البحرَ ليحمِلَ السُّفنَ، فمِن ذلك -بل أوَّلُه-سَفينةُ نُوحٍ، عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (6/579). في السَّفينةِ المملوءةِ مِن الأَمتعةِ والحَيواناتِ: سَفينةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ [441] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/442)، ((تفسير السمرقندي)) (3/124، 125)، ((الوسيط)) للواحدي (3/514)، ((تفسير الزمخشري)) (4/18)، ((تفسير ابن كثير)) (6/579). .
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42).
أي: وخلَقْنا للعِبادِ مِن مِثلِ سَفينةِ نوحٍ ما يَركَبونَه مِن السُّفُنِ التي علَّمْناهم صَنعتَها [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/443، 446)، ((تفسير الرازي)) (26/285)، ((تفسير ابن كثير)) (6/579، 580)، ((تفسير السعدي)) (ص: 696)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 154-155). والقولُ بأنَّ المرادَ أنَّ الله تعالى خلَقَ لهم سُفُنًا مِن جِنسِ سَفينةِ نوحٍ نسَبه الرازي إلى الأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/285). وقال الزَّجَّاج: (الأكثرُ في التفسيرِ أنَّ مِنْ مِثْلِهِ مِن مِثلِ سَفينةِ نوحٍ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/288). وممَّن قال بنحوِ هذا القَولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عباسٍ في رِوايةٍ عنه، وأبو مالكٍ، والحَسَنُ في روايةٍ عنه، وأبو صالحٍ، والضحَّاكُ، وقَتادةُ في رِوايةٍ عنه، وابنُ زيدٍ، والسُّدِّيُّ في رِوايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/444)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/525)، ((تفسير ابن كثير)) (6/580). قال ابنُ القيِّم: (والأصَحُّ أنَّ المِثْلَ المخلوقَ هنا هو السُّفُنُ، وقد أخبَرَ أنَّها مَخلوقةٌ، وهي إنَّما صارتْ سُفُنًا بأعمالِ العِبادِ). ((بدائع الفوائد)) (1/152). وقيل: المرادُ بقوله: مِنْ مِثْلِهِ: الإبلُ. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والنَّسَفي، والسَّمين الحلبي، والعُليمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/18)، ((تفسير النسفي)) (3/105)، ((عمدة الحُفَّاظ)) للسمين الحلبي (4/70)، ((تفسير العليمي)) (5/485)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/28). قال السَّمين الحلبي: (وذلك أنَّها في حمْلِها الأشياءَ الثقيلةَ وصبرِها على عدمِ الماءِ والعلفِ كالسُّفنِ؛ ولذلك تُسمِّيها العربُ «سفنَ البرِّ»). ((عمدة الحفاظ)) (4/70). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عباسٍ في رِوايةٍ عنه، وعِكرمةُ، وعبد الله بنُ شدَّاد، ومجاهدٌ، والحسنُ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/446)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/525)، ((تفسير ابن كثير)) (6/579). وممَّن جمَع بينَ القولين: البقاعيُّ. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/134). ولكنْ قال ابنُ القيِّم: (أبعَدَ مَن قال: إنَّ المِثْلَ هاهنا هو سُفُنُ البَرِّ، وهي الإبِلُ؛ لوجهَينِ: أحدُهما: أنَّها لا تُسمَّى مِثْلًا للسُّفُنِ لا لُغةً ولا حَقيقةً؛ فإنَّ المِثْلَينِ ما سَدَّ أحدُهما مَسَدَّ الآخَرِ، وحقيقةُ المماثَلةِ أنْ يكونَ بينَ فُلْكٍ وفُلْكٍ، لا بينَ جَملٍ وفُلْكٍ. الثَّاني: أنَّ قَولَه: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ عَقِبَ ذلك: دَليلٌ على أنَّ المرادَ الفُلْكُ التي إذا رَكِبوها قَدَرْنا على إغراقِهم، فذَكَّرَهم بنِعَمِه عليهم مِن وَجهَينِ: أحدُهما: ركوبُهم إيَّاها. والثَّاني: أنْ يُسَلِّمَهم عندَ رُكوبهِا مِنَ الغَرَقِ). ((بدائع الفوائد)) (1/152). وقال أبو حيَّان: (قولُه: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ: يعني الإبلَ والخيلَ والبِغالَ والحميرَ، والمماثلَةُ في أنَّه مركوبٌ مُبَلِّغٌ للأوطانِ فقطْ، هذا إذا كانَ الفُلكُ جِنسًا. وأمَّا إنْ أُريدَ به سفينَةُ نوحٍ، فالمماثَلَةُ تكونُ في كونِها سُفُنًا مِثْلَها، وهي الموجودةُ في بني آدَمَ). ((تفسير أبي حيان)) (9/70). .
كما قال سُبحانَه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف: 12] .
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43).
أي: وإنْ نشَأْ نُغرِقْ مَن يَركَبونَ السُّفُنَ، في البَحرِ [443] قيل: المرادُ بهم هنا: المشركون. وممَّن قال بهذا: ابنُ جَرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/447). وقيل: مَن يَركبون السُّفُنَ عمومًا. وهذا اختيارُ ابنِ عطيَّة، وظاهرُ اختيار ابنِ كَثير. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/455)، ((تفسير ابن كثير)) (6/580). قال الشوكانيُّ: (والضَّميرُ يَرْجِعُ إِمَّا إلى أَصْحَابِ الذُّرِّيَّةِ، أوْ إلى الذُّرِّيَّةِ، أَوْ إلى الجميعِ عَلَى اختلافِ الأقوالِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/427). ؛ فلا مُغيثَ لهم يَطلُبونَ منه النَّجدةَ، فيَمنَعُ عنهم حُدوثَ الغَرَقِ، ولا أحَدَ يُنقِذُهم فيَنتشِلُهم مِن الماءِ بعدَ غرَقِهم فيه [444] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/286)، ((تفسير القرطبي)) (15/35)، ((تفسير ابن كثير)) (6/580)، ((تفسير أبي السعود)) (7/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/29). .
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44).
أي: إلَّا أن نُنجِّيَهم نحن مِنَ الغَرَقِ؛ رَحمةً مِنَّا بهم، ولِنُمتِّعَهم إلى مُنتهَى آجالِهم المعلومةِ عندَ اللهِ تعالَى [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/447)، ((الوسيط)) للواحدي (3/515)، ((تفسير الرازي)) (26/286)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/135)، ((تفسير الشوكاني)) (4/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 696)، (تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 157). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قولِه تعالَى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ أنَّ في حالِ النِّعمةِ يَنبغي ألَّا يُؤمَنَ عَذابُ اللهِ تعالَى [446] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (16/230). .
2- في قَولِه تعالَى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أنْ يَنْظُرَ إلى نِعَمِ اللهِ تعالَى -بالإنقاذِ مِن الشَّدائدِ، أو بحُصولِ المحبوبِ- على أنَّها فَضْلٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، وليستْ بكَسْبِه [447] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 158). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالَى: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ بيانُ نِعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بما أنْعَم على هؤلاءِ بتعليمِ السُّفُنِ التي يركبونَها في البحرِ، لولا هذه السفنُ ما استطاعَ أحدٌ أنْ يَعْبُرَ مِن يابسةٍ إلى أُخرَى بينَهما ماءٌ! ولكنَّ اللهَ تعالَى أعْلَمهم بصِناعةِ هذه حتَّى وصَلوا إلى ما وصَلوا إليه [448] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 154). .
2- في قَولِه تعالَى: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ أي: ذُريَّاتِ العِبادِ -على قولٍ في التفسيرِ-، ولم يقُلْ: «حملناهم»! لأنَّ سَكَنَ الأرضِ عامٌّ لكلِّ أحدٍ يَسكنُها؛ فقال: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ إلى أنْ قال: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] ؛ لأنَّ الأكْلَ عامٌّ، وأمَّا الحمْلُ في السَّفينةِ فمِن الناسِ مَن لا يركبُها في عُمرِه ولا يُحمَلُ فيها؛ ولكنَّ ذُريَّةَ العبادِ لا بدَّ لهم مِن ذلك؛ فإنَّ فيهم مَن يحتاجُ إليها، فيُحمَلُ فيها [449] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/283). .
3- في قَولِه تعالَى: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ سُؤالٌ: أنَّه قال: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] ، وقال: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 37] ، ولم يقُلْ: (وآيةٌ لهم الفُلكُ جعَلْناها بحيثُ تحمِلُهم)، وإنَّما قال: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا؛ وذلك لأنَّ حَمْلَهم في الفُلكِ هو العجَبُ، أمَّا نَفسُ الفُلكِ فليس بعجَبٍ؛ لأنَّه كبَيتٍ مبنيٍّ مِن خشَبٍ، وأمَّا نَفسُ الأرضِ فعَجَبٌ، ونَفْسُ اللَّيلِ عَجَبٌ؛ لا قُدرةَ عليهما لأحدٍ إلَّا اللهِ سُبحانَه [450] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/284). .
4- قولُه تعالى: أَنَّا حَمَلْنَا يُؤخذُ منه جوازُ أنْ يُقالَ: إنَّ اللهَ حمَل فلانًا، ومِثلُه في الحديثِ [451] أخرجه البخاريُّ (3133)، ومسلِمٌ (1649) واللفظ له، من حديثِ أبي مُوسى الأشعريِّ رَضيَ اللهُ عنه. : ((ما أنا حَمَلْتُكم، ولكنَّ اللهَ حمَلَكم)) [452] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (3/353). .
5- في قَولِه تعالَى: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ أنَّ اللهَ خالِقٌ لأعمالِ العِبادِ، ووَجهُه: أنَّ السُّفُنَ إنَّما يَنجُرُ خَشَبَها ويَركبُها بنو آدمَ؛ فالفُلكُ مَعمولةٌ لهم، فإذا كان اللهُ قد أخبَرَ أنَّه خَلَقَ الفُلكَ المشحونَ، وجَعَلَ ذلك مِن آياتِه وممَّا أنعَمَ اللهُ به على عبادِه؛ عُلِمَ أنَّه خالِقُ أفعالِهم [453] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/261). .
6- في قَولِه تعالَى: مِنْ مِثْلِهِ أنَّ المُماثَلةَ قدْ لا تقتَضي المساواةَ مِن كلِّ وَجهٍ؛ فليستِ السُّفُنُ الموجودةُ -التي كانتْ في عَهدِ نُزولِ القرآنِ- ليستْ كمِثلِ سَفينةِ نوحٍ مِن كلِّ وَجهٍ [454] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 155). .
7- في قَولِه تعالَى: وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ أنَّ اللهَ تعالَى قد يُنْقِذُ الإنسانَ مِن الهلاكِ إلى أنْ يأتيَ أجلُه؛ فالخلودَ في هذه الدنيا مُتَعَذِّرٌ ومستحيلٌ، وما كان له غايةٌ فلا بُدَّ أنْ يَنقضيَ [455] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 158). .
ولقد أحسَن مَن قال [456] البيت للمتنبي، يُنظر: ((ديوانه)) (ص: 485). :
وإنْ أسْلَمْ فمَا أبقَى ولكِنْ                سَلِمْتُ مِن الحِمامِ [457] الحِمامُ: الموتُ: والمعنى: وإنْ أسْلَمَ مِن مَرضِي لم أَبْقَ خالدًا، ولكنْ سَلِمتُ مِن الموتِ بهذا المَرضِ إلى الموتِ بمَرضٍ وسَببٍ آخَرَ! يُنظر: ((الوساطه بين المتنبي وخصومه)) للجُرجاني (ص: 121)، ((شرح ديوان المتنبي)) للواحدي (4/1820)، ((شرح ديوان المتنبي)) للبرقوقي (4/279). إلى الحِمامِ [458] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/18).

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ هذا انتِقالٌ مِن عَدِّ آياتٍ في الأرضِ وفي السَّماءِ، إلى عَدِّ آيةٍ في البَحرِ تَجمَعُ بَينَ العِبرةِ والمِنَّةِ، وهي آيةُ تَسخيرِ الفُلكِ أنْ تَسيرَ على الماءِ، وتَسخيرِ الماءِ لِتَطفُوَ عليه دونَ أنْ يُغرِقَها، وقد ذَكَّرَ اللهُ الناسَ بآيةٍ عَظيمةٍ اشتُهِرتْ حتَّى كانتْ كالمُشاهَدةِ عِندَهم، وهي آيةُ إلهامِ نُوحٍ عليه السَّلامُ صُنعَ السَّفينةِ؛ لِيَحمِلَ الناسَ الذين آمَنوا، ويَحمِلَ مِن كُلِّ أنواعِ الحَيوانِ زَوجَيْنِ؛ لِيُنجيَ الأنواعَ مِنَ الهَلاكِ والاضمِحلالِ بالغَرَقِ في حادِثِ الطُّوفانِ. ولَمَّا كانتْ هذه الآيةُ حاصلةً لِفائدةِ حَملِ أزواجٍ مِن أنواعِ الحَيوانِ، جَعَلتِ الآيةُ نفْسَ الحَمْلِ إدماجًا لِلمِنَّةِ في ضِمنِ العِبرةِ، فكأنَّه قيل: وآيةٌ لهم صُنعُ الفُلكِ؛ لِنَحمِلَ ذُرِّيَّاتِهم فيه، فحَمَلناهم [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/26 - 27). .
- وذَكَر الذُّرِّيَّاتِ في قَولِه: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ؛ لِأنَّ ذلك أبلَغُ في الامتِنانِ عليهم، وأدخَلُ في التَّعجيبِ مِن قُدرَتِه، في حَمْلِ أعقابِهم إلى يَومِ القِيامةِ في سَفينةِ نُوحٍ، ولأنَّه يَقتَضي أنَّ أُصولَ الناسِ والبَشَرِ مَحمولونَ بطَريقِ الكِنايةِ إيجازًا في الكَلامِ، وأنَّ أنفُسَهم مَحمولون كذلك، كأنَّه قيل: إنَّا حَمَلْنا أُصولَهم وحَمَلْناهم وحَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهم؛ إذْ لولا نَجاةُ الأصولِ، ما جاءَتِ الذُّرِّيَّات، وكانتِ الحِكمةُ في حَملِ الأُصولِ بَقاءَ الذُّرِّيَّات؛ فكانتِ النِّعمةُ شامِلةً لِلكُلِّ. وقيل: الذُّرِّيَّةُ مِن أسماءِ الأضدادِ عِندَ كَثيرٍ، تُطلَقُ على الآباءِ والأولادِ، والمُرادُ هنا: الفريقانِ. وقيل: وتَخصيصُ الذُّرِّيَّةِ بالذِّكرِ؛ لِأنَّ استِقرارَهم في السُّفُنِ أشَقُّ، وتَماسُكَهم فيها أعجَبُ [460] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/18)، ((تفسير البيضاوي)) (4/269)، ((تفسير أبي حيان)) (9/70)، ((تفسير أبي السعود)) (7/168- 169)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 473)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/27). .
- وفُهِم مِن دَلالةِ قَولِه: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ -صَريحًا وكِنايةً- أنَّ هذه الآيةَ مُستَمرَّةٌ لِكُلِّ ناظِرٍ؛ إذْ يَشهَدونَ أسفارَهم وأسفارَ أمثالِهم في البَحرِ، وخاصَّةً سُكَّانَ الشُّطوطِ والسَّواحِلِ، فيُفهَم منه: أنَّا حَمَلْنا ونَحمِلُ وسنَحمِلُ أسلافَهم وأنفُسَهم وذُرِّيَّاتِهم [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/28). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هاهنا: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ؛ فمَنَّ عليهم بحَملِ ذُرِّيَّتِهم، وقال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة: 11] ؛ فمَنَّ هناك عليهم بحَمْلِ أنفُسِهم؛ ووَجهُه: أنَّ مَن يَنفَعُ المُتعَلِّقَ بالغَيرِ يَكونُ قد نَفَعَ ذلك الغَيرَ، ومَن يَدفَعُ الضَّرَرَ عنِ المُتعَلِّقِ بالغَيرِ لا يَكونُ قد دَفَعَ الضَّرَرَ عن ذلك الغَيرِ، بل يَكونُ قد نَفَعَه. مثالُه: مَن أحسَنَ إلى وَلَدِ إنسانٍ وفَرَّحَه؛ فَرِح بفَرَحِه أبوه، وإذا دَفَع واحِدٌ الألَمَ عن وَلَدِ إنسانٍ يَكونُ قد فَرَّحَ أباه؛ ولا يَكونُ في الحَقيقةِ قد أزالَ الألَمَ عن أبيه، فعِندَ طُغيانِ الماءِ كان الضَّرَرُ يَلحَقُهم؛ فقال: دَفَعتُ عنكمُ الضَّرَرَ؛ ولو قال: دَفَعتُ عن أولادِكمُ الضَّرَرَ، لَمَا حَصَلَ بَيانُ دَفعِ الضَّرَرِ عنهم، وهاهنا أرادَ بيانَ المَنافِعِ، فقال: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ؛ لِأنَّ النَّفعَ حاصِلٌ بنَفعِ الذُّرِّيَّةِ، ويَدُلُّ على هذا أنَّه هاهنا قال: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ؛ فإنَّ امتِلاءَ الفُلكِ مِنَ الأموالِ يَحصُلُ بذِكرِه بَيانُ المَنفَعةِ، وأمَّا دَفعُ المَضرَّةِ فلا؛ لِأنَّ الفُلكَ كُلَّما كان أثقَلَ، كان الخَلاصُ به أبطَأَ، وهُنالِكَ السَّلامةُ، فاختارَ هُنالِكَ ما يَدُلُّ على الخَلاصِ مِنَ الضَّرَرِ، وهو الجَريُ، وهاهنا ما يَدُلُّ على كَمالِ المَنفَعةِ، وهو الشَّحنُ [462] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/284). ، وهذا على قَولٍ في تَفسيرِ الآيتَينِ.
2- قولُه تعالى: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ جُملةٌ مُعتَرِضةٌ في خِلالِ آيةِ البَحرِ، اقتَضَتْها مُراعاةُ النَّظيرِ؛ تَذكيرًا بنِعمةِ خَلْقِ الإبِلِ صالِحةً لِلأسفارِ -على قولٍ في التفسيرِ-، فحُكِيَتْ آيةُ الإلهامِ بصُنعِ الفُلكِ مِن حيثُ الحِكمةُ العَظيمةُ في الإلهامِ، وتَسخيرِ البَحرِ لها، وإيجادِها في وَقتِ الحاجةِ؛ لِحِفظِ النَّوعِ؛ فلذلك لم يُؤتَ في جانِبِها بفِعلِ الخَلْقِ المُختَصِّ بالإيجادِ دونَ صُنعِ الناسِ، وحُكِيَتْ آيةُ اتِّخاذِ الرَّواحِلِ بفِعلِ (خَلْقِنا)؛ فما يَركَبونَ هنا يصدُقُ على الرَّواحِلِ خاصَّةً؛ لِأنَّها التي تُشبِهُ الفُلكَ في جَعْلِها قادِرةً على قَطْعِ الرِّمالِ، كما جَعَلَ الفُلكَ صالِحًا لِمَخرِ البِحارِ [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/28). .
- قَولُه: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ على أنَّ المرادَ بقولِه: وَخَلَقْنَا الإنشاءُ والاختِراعُ؛ فالمُرادُ الإبِلُ وما يُركَبُ، وتَكونُ (مِنْ) لِلبيانِ، وإنْ كانَ ما يَصنَعُه الإنسانُ قد يُنسَبُ إلى اللهِ خَلْقًا، وإذا أُريدَ به السُّفُنُ، تَكونُ (مِنْ) لِلتَّبعيضِ [464] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/70). ؛ فـ (مِنْ) التي في قَولِه: مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ -على أنَّ المرادَ: الإبلُ- بَيانيَّةٌ، بتَقديمِ البَيانِ على المُبَيَّنِ، أو مُؤكِّدةٌ، ومَجرورُها أصلُه حالٌ مِن (ما) المَوصولةِ في قَولِه: مَا يَرْكَبُونَ، والمُرادُ المُماثَلةُ في العَظمةِ، وقُوَّةِ الحَملِ، ومُداوَمةِ السَّيرِ، وفي الشَّكلِ [465] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/28). . وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- قولُه: مِنْ مِثْلِهِ أي: ممَّا يُماثلُ ذلك الفُلكَ من السُّفنِ فجَعَلها مَخلوقةً للهِ تَعالى، معَ كَونِها مِن مَصنوعاتِ العِبادِ؛ ليس لِمُجرَّدِ كَونِ صُنعِهم بأقدارِ اللهِ تَعالى وإلهامِه، بل لِمَزيدِ اختِصاصِ أصلِها بقُدرَتِه تَعالى، وحِكمَتِه، حَسبَما يُعرِبُ عنه قَولُه عزَّ وجلَّ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [466] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/169). [هود: 37] .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ عبَّرَ عن مُلابَستِهم بهذه السُّفُنِ بالرُّكوبِ في قولِه: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ؛ لِأنَّها باختِيارِهم، وعبَّرَ عن مُلابَسةِ ذُرِّيَّتِهم بفُلكِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالحَملِ في قولِه: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ؛ لِكَونِها بغَيرِ شُعورٍ منهم واختِيارٍ [467] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/169). .
3- قولُه تعالى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ
- جملةُ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ مَعطوفةٌ على جُملةِ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ [يس: 41] ، باعتِبارِ دَلالَتِها الكِنائيَّةِ على استِمرارِ هذه الآيةِ. وهذه المِنَّةُ تَذكيرٌ بأنَّ اللهَ تَعالى الذي امتَنَّ عليهم إذا شاءَ جَعَل فيما هو نِعمةٌ على الناسِ نِقمةً لهم؛ لِحِكمةٍ يَعلَمُها، وهذا جَريٌ على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ التَّرغيبِ بالتَّرهيبِ، وعَكسِه؛ لِئلَّا يَبطَرَ الناسُ بالنِّعمةِ، ولا يَيْئَسُوا مِنَ الرَّحمةِ، وقَرينةُ ذلك أنَّه جيءَ في هذه الجُملةِ بالمُضارِعِ المُتَمحِّضِ في سِياقِ الشَّرطِ؛ لِكَونِه مُستَقبَلًا [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/29). .
- وهم مُعتَرِفونَ بمَضمونِ قَولِه: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ ...، كما يَنطِقُ به قَولُه تَعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان: 32] ، وفي تَعليقِ الإغراقِ بمَحضِ المَشيئةِ: إشعارٌ بأنَّه قد تَكامَلَ ما يُوجِبُ إهلاكَهم مِن مَعاصيهم، ولم يَبقَ إلَّا تَعلُّقُ مَشيئَتِه تَعالى به، أي: إنْ نَشَأْ نُغرِقْهم في اليَمِّ مع ما حَمَلْناهم فيه مِنَ الفُلكِ؛ فحَديثُ خَلْقِ الإبِلِ حِينَئذٍ كَلامٌ جيءَ به في خِلالِ الآيةِ بطَريقِ الاستِطرادِ؛ لِكَمالِ التَّماثُلِ بَينَ الإبِلِ والفُلكِ -على قولٍ في التفسيرِ-، فكَأنَّها نَوعٌ منه، أو مع ما يَركَبونَ مِنَ السُّفُنِ والزَّوارِقِ [469] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/169). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه هُمْ على المُسنَدِ الفِعليِّ يُنْقَذُونَ في قَولِه: وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ؛ لِإفادةِ تَقَوِّي الحُكمِ، وهو نَفيُ إنقاذِ أحَدٍ إيَّاهم [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/29). .
4- قولُه تعالى: إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ
- قَولُه: إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ قيل: فيه تَقسيمٌ، أي: إلَّا رَحمةً لِمَن عَلِمَ أنَّه يُؤمِنُ فيُنقِذُه اللهُ رَحمةً، ومَن عَلِمَ أنَّه لا يُؤمِنُ يَمنَعُه زَمانًا، ويَزدادُ إثْمًا [471] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/71). .
- وأيضًا في قَولِه: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ إلى قَولِه: وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بسَلامةِ الاختِراعِ، وهو الإتيانُ بمَعنًى لم يُسبَقْ إليه؛ فإنَّ نَجاتَهم مِنَ الغَرَقِ برَحمةٍ منه تعالَى هي في حَدِّ ذاتِها مَتاعٌ يَستَمتِعونَ به، ولكِنَّه على كُلِّ حالٍ إلى أجَلٍ مُقدَّرٍ يَموتونَ فيه، لا مَندوحةَ لهم عنه؛ فهُمْ إنْ نَجَوْا مِنَ الغَرَقِ فلنْ يَنجوا ممَّا يُشبِهُه أو يُدانيه، والمَوتُ لا تَفاوتَ فيه [472] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/206- 207). .