موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (100-101)

ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ

غريبُ الكَلِمات:

يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ: أي: يَمتنعْ بالله، وأصْل العِصمة: المنعُ- ومنه يُقال: عصَمَه الطَّعامُ، أي: منَعه من الجوعِ- والإمساكُ، والمُلازَمةُ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 108)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/331)، ((المفردات)) للراغب (ص: 570)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 127). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخاطِب اللهُ المؤمنين مُحذِّرًا إيَّاهم من طاعة طائفةٍ من أهل الكتاب حريصةٍ على ردِّهم إلى الكُفْر، فإنَّهم إنْ أطاعوهم وقَبِلوا منهم ما يَدْعونهم إليه، فإنَّهم سيُحقِّقون لهم مُرادَهم وسيَكْفُرون بالله، لكن كيف يَتركون هذا الدِّينَ ومعهم القرآن الكريم، الذي يُقرأ عليهم فيُثبِّتهم على هذا الدِّين، وفيهم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبيِّنه لهم، ثم أَخبَر تعالى أنَّ مَن يتمسَّك بدِين الله، فقد وُفِّق لطريقٍ واضحٍ غير مُعوجٍّ سيُوصِله إلى جنَّات الله ونعيمه.

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا وبَّخ أهلَ الكتاب على كُفْرهم وصدِّهم عن سبيل الله- وهو الإسلام- وتَمَّ إيذانُه بالسَّخَط على أعدائِه وأَبلَغَ في إنذارهم عظيمَ انتقامِه إنْ داموا على إضلالهم، وذلك إثْرَ إقامة الحُجَج عليهم وإزالة شُبُهاتهم؛ ناسَب أنْ يُخاطِب المؤمنين مُحذِّرًا إيَّاهم من الاغترارِ بالمُضلِّين، ومُبيِّنًا لهم أنَّ مَن كان هذا شأنَهم في الكُفْر، لا ينبغي أن يُطاعوا، ولا أن يُسمَع لهم قولٌ، فإنَّهم دُعاة الفِتْنة وروَّاد الكُفْر يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/308)، ((تفسير أبي حيان)) (3/281)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/13)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/16). ، قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100).
أي: يا أيُّها المؤمنون، إذا أَطعْتم تلك الفئةَ من أهلِ التَّوراة والإنجيل، الحريصةَ على ردِّكم إلى الكُفْر، التي تَسعى جاهدةً بكلِّ ما تَستطيع، وتبذُل محاولاتٍ مُضنِيةً في سبيل ذلك، فقَبِلتم منهم ما يأمرونكم به؛ فإنَّكم ستُحقِّقون لهم ما يَبْتغون بإخراجِكم من الإيمانِ الذي تَعتقِدون يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/631-633)، ((تفسير ابن كثير)) (2/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 141، 971)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/570-572). .
قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109] .
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ
أي: كيف تَرتدُّون عن إيمانكم- أيُّها المؤمنون- ومعكم ما يُثبِّتكم عليه، ويمنعكم من الارتداد عنه، وهو القرآنُ الذي تُقرأُ عليكم آياتُه، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي بين أَظْهُركم؛ إذ يُبلِّغه ويُبيِّنه لكم؛ فإنَّ الإيمانَ إذا تَغلَغل في شَغافِ القلب لا يَخرُج منه بإذن الله تعالى يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/633-634)، ((تفسير ابن كثير)) (2/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 141، 971)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/573-575). .
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
أي: إنَّ مَن يتعلَّق بأسباب الله مُتمسِّكًا بدِينِه مُتوكِّلًا عليه، فقد وُفِّق لطريقٍ واضحٍ غير مُعوجٍّ، فيستقيمُ به حتى يُوصِلَه إلى رِضوان الله، وإلى النَّجاة من عذابِه والفوزِ بجنَّته سبحانه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/634-636)، ((تفسير ابن كثير)) (2/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 141، 971)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/26). .

الفَوائِدُ التربويَّة:

1- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الحذرُ من طاعةِ أهل الكتاب والتَّلقِّي عنهم، واقتباسِ مناهجِهم وأوضاعِهم؛ فهم يُحاوِلون غايةَ المحاولة أنْ يردُّوا المؤمنين عن إيمانهم إلى الكُفْر؛ وذلك لِمَا انطوتْ عليه نفوسُهم من غِلٍّ وغِشٍّ وحسَدٍ وبُغْض للمؤمنين، فالمؤمنون إنْ لانُوا وقَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك حالًا بعد حال إلى أنْ يعودوا كُفَّارًا يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/309)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/576). .
2- معرفةُ فضْلِ الصحابة بالمَنْقبة العظيمة، والمِنَّة الجليلة، وهي وجودُ هذا الرسول العظيمعليه الصَّلاة والسَّلام بينهم، ومشاهدةُ أنواره؛ فكان وجودُه عِصْمةً من ضلالهم، تلك المَزيَّة التي فاز بها الصَّحابةُ المخاطَبون بهذه الآية وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/29). .
3- قوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فيه أنَّ الاعتصامَ بالله تعبُّدًا واستعانةً، والامتناعَ بقوَّته ورحْمته عن كلِّ شَرٍّ، والاستعانةَ به على كلِّ خيرٍ هو العمدةُ في الهداية، والعُدَّةُ في مُباعدةِ الغَواية، والوسيلةُ إلى الرَّشاد، وطريق السَّداد، ومُوصِل لصاحبه إلى غاية المرغوب يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/86)، ((تفسير السعدي)) (ص:141)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/585). .
4- أنَّ التَّمسُّك بكتابِ الله تعالى وسُنَّة رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والإقبال عليهما أعظمُ مانعٍ يَمْنع من الكُفْر، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/634)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/29)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/584). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- النِّداء في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، مُوجَّه للمؤمنين من بابِ الإغراء؛ لقَبُولِ ما يأتي تصديقًا به إنْ كان خبرًا، وامتثالًا له إنْ كان طلبًا (أمرًا ونهيًا)؛ لأنَّ وصْفَهم بالإيمان يَقتضي أنْ يقوموا بمقتضى هذا الخِطاب الموجَّه لهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/570). .
2- قولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ فيه تَفضُّلُ الله على المؤمنين بأنْ خاطَبهم بغير واسطة؛ فلم يأتِ بلفظ (قُلْ)؛ ليكون ذلك خِطابًا منه تعالى لهم وتأنيسًا لهم، بخلافِ خِطابه لأهلِ الكِتاب؛ إذ قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/27). .
3- قول الله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ؛ أَطلَق الطواعيةَ لتَدلَّ على عمومِ البَدل، أي: إن يَصدُر منكم طواعيةٌ ما في أيِّ شيءٍ كان ممَّا يُحاوِلونه من إضلالِكم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/281). .
4- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ؛ أَبرَز نهيَه عن موافِقتهم وطواعيتِهم في صورةٍ شَرْطيَّة؛ لأنَّه لم تَقَع طاعتُهم لهم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/281). .

بلاغة الآيتين:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صُدِّر هذا الحُكمُ بالنِّداء، وتصديرُ الحُكْم بالنِّداءِ يتضمَّن تنبيهَ المُخاطَب، والتَّنبيهُ لا يكون إلَّا لأمرٍ مُهمٍّ تَجِب العنايةُ به يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/570). .
2- قوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ: استفهامُ إنكارٍ وتعجُّب؛ لكُفْرهم في حالِ اجتمَعت لهم الأسبابُ الدَّاعية إلى الإيمان الصَّارِفة عن الكُفْر يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/393)، ((تفسير البيضاوي)) (2/31)، ((تفسير أبي حيان)) (3/283)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/28). .
3- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ:
- فيه تلوينٌ للخطاب، وتوجيهٌ له إلى المؤمنين؛ تحذيرًا لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفِتْنتهم إثرَ توبيخِهم بالإغواء والإضلالِ؛ ردْعًا لهم عن ذلك، وتعليقُ الردِّ بطاعة فريقٍ منهم؛ للمُبالَغة في التَّحذير عن طاعتِهم، وإيجابِ الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكُليَّة؛ فإنَّه في قوَّةِ أنْ يُقال: لا تُطيعوا فريقًا... إلخ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/64). .
- وقوله: بَعْدَ إِيمَانِكُمْ: فيه تأكيدٌ لِما أَفادَه قوله: يَرُدُّوكُمْ، والقصدُ من التَّصريحِ به توضيحُ فواتِ نِعمةٍ عظيمةٍ كانوا فيها لو يَكفُرون يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/28). .
4- قول الله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ جاء جوابُ الشَّرط هُدِيَ بصيغة الماضي، وقَدْ المحقِّقة؛ إشارة إلى أنَّ مَن يلتجئ إلى الله تعالى ويَعتصِم بحبْله، فقدْ تَحقَّقت هِدايتُه وثَبَتت استقامتُه سابقًا وواقعًا، سابقًا في اللَّوح المحفوظ، وفي الكتابةِ حينما تُنفَخ فيه الرُّوح في بطن أُمِّه، وواقعًا؛ لأنَّه اعتَصَم بالله يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/16)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/575). .
- وقوله تعالى: فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: فيه حذْف الفاعلِ؛ ليشملَ كلَّ الهُداة؛ وذلك لتعدُّد طُرُق الهِداية، فأعْلى الهُداة الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام، ثمَّ وَرَثةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهم العلماءُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/575). .