موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيتان (36-37)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

تَعْثَوْا: أي: تُفسِدوا، وتَسعَوا، وتَطغَوا، وأصلُ العيثِ: يدُلُّ على الفَسادِ [461] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/10)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/230)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546). .
الرَّجْفَةُ: أي: الزَّلزلةُ الشَّديدةُ، وأصلُ (رجف): يدُلُّ على اضْطِرابٍ [462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/302)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 237)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/491)، ((المفردات)) للراغب (ص: 344)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 119). .
جَاثِمِينَ: أي: موتَى، لاصِقينَ بالأرضِ على رُكَبِهم ووُجوهِهم، وقيل: مُلقًى بعضُهم فوقَ بعضٍ، والجُثومُ: البُروكُ على الرُّكَبِ، وأصلُ الجثومِ: هو أن يكونَ الإنسانُ مُنْكَبًّا على وجهِه، رُكْبَتاه في الأرضِ، وأصلُ (جثم): يدُلُّ على تَجَمُّعِ الشَّيءِ [463] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 169)، ((تفسير ابن جرير)) (10/303)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 175)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/505)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/307)، ((تفسير الشوكاني)) (2/251)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 357)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/533). .

المَعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: وأرسَلْنا إلى مَدْيَنَ أخاهم في النَّسَبِ شُعَيبًا، فقال شُعَيبٌ لِقَومِه: يا قومِ، اعبُدوا اللهَ وَحْدَه وارجُوا ثوابَ الآخرةِ، ولا تُفسِدوا في الأرضِ بالكُفرِ والعِصيانِ والبَغْيِ على النَّاسِ. فكذَّبوا نبيَّهم شُعَيبًا، فأهلكَتْهم رَجْفةُ العذابِ؛ فأصبَحوا في ديارِهم أجسادًا هامِدةً لا أرواحَ فيها!

تَفسيرُ الآيتينِ:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36).
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا.
أي: وأرسَلْنا إلى مَدْيَنَ [464] قال ابن عطية: (قيل في مَدْيَنَ: إنَّه اسمُ بلدٍ وقُطرٍ، وقيل: اسمُ قبيلةٍ). ((تفسير ابن عطية)) (2/426). وقال ابن عاشور: (مَدْيَنُ: اسمُ أحدِ أبناءِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، سكنَتْ ذُرِّيَّتُه في مَواطِنَ تُسمَّى الأَيْكةَ على شاطئِ البحرِ الأحمرِ جنوبَ عَقَبةِ أَيْلةَ، وغلَبَ اسمُ القبيلةِ على الأرضِ، وصار عَلَمًا للمكانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/221). أخاهم في النَّسَبِ شُعَيبًا [465] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/397)، ((تفسير القرطبي)) (13/343)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/435، 436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 630). .
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ.
أي: فقال شُعَيبٌ لِقَومِه: يا قَومِ، اعبُدوا اللهَ وَحْدَه، وذِلُّوا له بطاعتِه، وارجُوا اليومَ الآخِرَ خوفًا مِن العقابِ، وطمعًا في الثوابِ [466] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 630)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 180، 181). قال أبو حيان: (والأمرُ بالرِّجاءِ أمرٌ بفِعلِ ما يَترتَّبُ الرَّجاءُ عليه، أقام المُسَبَّبَ مقامَ السَّبَبِ. والمعنى: وافعَلوا ما تَرجُونَ به الثَّوابَ مِن الله، أو يكونُ أمرًا بالرَّجاءِ على تقديرِ تحصيلِ شَرطِه، وهو الإيمانُ بالله. وقال أبو عبيدةَ: وارجوا: خافُوا جزاءَ اليومِ الآخِرِ مِنِ انتِقامِ الله منكم إن لم تَعبُدوه). ((تفسير أبي حيان)) (8/356). ممَّن اختار أنَّ الرَّجاءَ على بابِه: ابنُ جرير، ومكِّي، وابن عطية، والثعالبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/397)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5627)، ((تفسير ابن عطية)) (4/316)، ((تفسير الثعالبي)) (4/294). وقال الرَّسْعَني: (قال عامَّةُ المفسِّرينَ: الرَّجاءُ هاهنا بمعنى الخشيةِ، المعنى: اخْشَوُا اليَومَ الَّذي تُجازَوْن فيه بأعمالِكم). ((تفسير الرسعني)) (5/613). وممَّن اختار أنَّ الرَّجاءَ هنا بمعنى الخَوفِ والخشيةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والبغويُّ، وذكر ابنُ الجوزي أنَّه قولُ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/382)، ((تفسير السمرقندي)) (2/632)، ((تفسير البغوي)) (3/556)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/407). وقال ابن عثيمين: (يجوزُ أن نحملَه على المعنيَينِ جميعًا، أي: ارْجُوه خوفًا مِن العقابِ، وطمعًا في الثوابِ...، والرَّاجحُ عندي -وهو قولٌ لبعضِ العلماءِ- جوازُ استعمالِ المشتركِ في معنيَينِ إذا لم يكُنْ بيْنَهما تنافٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 181). وممَّن اختار أنَّ معنى وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي: تَوَقَّعوه وافعَلوا اليومَ مِن الأعمالِ ما يَدفَعُ عذابَه عنكم: أبو السعودِ، والشوكانيُّ، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/39)، ((تفسير الشوكاني)) (4/233)، ((تفسير القاسمي)) (7/554). .
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
أي: ولا تُفْسِدُوا في الأرضِ في حالِ كَونِكم مُفْسِدينَ، ولا تَعمَلوا بمعصيةِ الله، والبَغْيِ على النَّاسِ: ببَخْسِ المَكاييلِ والمَوازينِ، وقطعِ الطُّرُقِ، مع كُفرِكم بالله؛ فإنَّه أصْلُ كلِّ فسادٍ، ولكنْ تُوبوا إلى الله مِن ذلك، وأَنِيبوا إليه [467] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/382)، ((تفسير ابن جرير)) (18/397)، ((تفسير القرطبي)) (13/343)، ((تفسير ابن كثير)) (6/277)، ((تفسير القاسمي)) (7/554)، ((تفسير السعدي)) (ص: 630)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/527). قال ابن عثيمين: (المرادُ: الإفسادُ الحِسِّيُّ... والإفسادُ المعنويُّ كلاهما؛ فالإفسادُ في الأرضِ يَشملُ الإفسادَ بالمعاصي، ويَشملُ الإفسادَ الحِسِّيَّ المادِّيَّ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 182) بتصرف. .
كما قال تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف: 85، 86].
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37).
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ.
أي: فكذَّبوا نَبيَّهم شُعَيبًا، فأهلكَتْهم رَجْفةُ العذابِ [468] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/398)، ((تفسير البيضاوي)) (4/194)، ((تفسير ابن كثير)) (6/277، 278)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/247). ممَّن ذهَب إلى أنَّ المرادَ بالرَّجفةِ هنا: زَلزلةُ الأرضِ: البيضاويُّ، وابن كثير، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/194)، ((تفسير ابن كثير)) (6/277، 278)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/247)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 184). وقيل: المرادُ بها: الصَّيحةُ. أي: إنَّ الصَّيحةَ رَجَفتْ بقُلوبِهم. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/194). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/629)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3059). قال الشنقيطيُّ: (قولُه تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ لم يُبَيِّنْ هنا سببَ رَجْفةِ الأرضِ بهم، ولكِنَّه بَيَّن في موضعٍ آخَرَ أنَّ سببَ ذلك صيحةُ الملَكِ بهم، وهو قولُه: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الآيةَ [هود: 67]، والظَّاهرُ أنَّ الملَكَ لَمَّا صاحَ بهم رَجَفَتْ بهم الأرضُ مِن شِدَّةِ الصَّيحةِ، وفارَقَتْ أرواحُهم أبدانَهم). ((أضواء البيان)) (2/35). .
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ.
أي: فأصبَح قَومُ شُعَيبٍ في بَلَدِهم مُنكَبِّينَ على وُجوهِهم مَوْتَى، قد فارَقتْ أرواحُهم أبدانَهم، ليس منهم داعٍ ولا مجيبٌ [469] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/398)، ((تفسير السمرقندي)) (2/633)، ((تفسير ابن عطية)) (4/316)، ((تفسير ابن كثير)) (6/278)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/436)، ((تفسير الشوكاني)) (4/233، 234)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/533). وقال ابن جرير: (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ جُثُومًا بعضُهم على بعضٍ؛ موتَى). ((تفسير ابن جرير)) (18/398). .
كما قال تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [هود: 94، 95].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وُجوبُ الاستعدادِ لِلْيَومِ الآخِرِ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 185). .
2- في قَولِه تعالى: فَكَذَّبُوهُ تَسليةُ الدُّعاةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ إذا عُورِضوا في دَعوتِهم؛ وجهُ ذلك: أنَّ الرُّسلَ كُذِّبوا، فهُم مِن بابِ أَولى؛ ولهذا يُسَلِّي اللهُ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بمِثلِ هذا، قال سُبحانَه وتعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران: 184] ، وقال سُبحانَه وتعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام: 34] ؛ فالدَّاعي إلى اللهِ لا ينبغي أنْ يأنَفَ مِن أنْ يُكَذَّبَ؛ فإنَّ هذا هو طَريقُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأتْباعُهم سيَكونون مِثلَهم [471] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 186). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فيه سؤالٌ: ما حُكِيَ عن شُعَيبٍ أمرٌ ونَهيٌ، والأمرُ لا يُصَدَّقُ ولا يُكَذَّبُ، فإنَّ مَن قال لغيرِه: قُمْ. لا يصِحُّ أن يقولَ له: كذَبْتَ؟
الجواب: كان شُعَيبٌ يقولُ: الله واحِدٌ فاعبُدوه، والحشرُ كائِنٌ فارجوه، والفَسادُ مُحرَّمٌ فلا تَقرَبوه. وهذه الأشياءُ فيها إخباراتٌ، فكذَّبوه فيما أخبَرَهم به [472] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/55). .
أو: كَذَّبُوهُ فيما تضمَّنه كلامُه مِن أنَّهم إن لم يمتثِلوا أمرَه ونهيَه وقَع بهم العذابُ [473] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/356) ((تفسير الألوسي)) (10/361). .
2- قال الله تعالى: فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ، أمْرُه إيَّاهم بترَقُّبِ اليومِ الآخِرِ، يدُلُّ على أنَّهم كانوا لا يُؤمِنونَ بالبعثِ [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/247). .
3- في قَولِه تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أنَّ الشَّرائعَ تَجمَعُ بيْنَ الأمْرَينِ: الإيجابيِّ، والسَّلبيِّ؛ الإيجابيُّ بالأوامرِ، والسَّلبيُّ بالنَّواهي، يعني: أنَّ الشَّرائعَ أفعالٌ وتُروكٌ، ولا يُصلِحُ العِبادَ إلَّا هذا؛ لأنَّ الإنسانَ قد تُناسِبُه الأوامرُ ولا تُناسِبُه النَّواهي، وقد يكونُ العكسُ؛ فجَمَعَ اللهُ سبحانه وتعالى في شرائعِه بيْنَ الأمرِ والنَّهيِ [475] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 185). .
4- قَولُه: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ أخبَر تعالَى هاهنا أنَّهم أخذَتْهم الرَّجفةُ، كما أرَجَفوا شُعَيبًا وأصحابَه، وتوَعَّدوهم بالجلاءِ [476] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/448). .

بلاغةُ الآيتينِ:

1- قوله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
- قولُه: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فيه تَقديمُ المجرورِ في قولِه: (إِلَى مَدْيَنَ)؛ لِيتأتَّى الإيجازُ في وَصْفِ شُعَيبٍ بأنَّه أخوهم بالإضمارِ حيثُ أُريدَ وصفُ شُعيبٍ بأنَّه مِن إخوةِ مَدْيَنَ وَمِن صَميمِهم، مِن غيرِ احتياجٍ إلى إعادةِ لفظِ (مدينَ)، ومع تجنُّبِ عَودِ الضَّميرِ على مُتأخِّرٍ لفظًا ورُتْبةً، فقيلَ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [477] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/247)، و(8-ب/200). ووصفُ (شعيب) بأنَّه أخو مَدْيَنَ لأنَّه كان مِن نَسَبِهم، كما يُقالُ: يا أخا العربِ، أي: يا عربيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/94). .
- وفيه أيضًا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، وقال في نُوحٍ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [العنكبوت: 14] ، فقدَّم نُوحًا في الذِّكْرِ، وعرَّفَ القومَ بالإضافةِ إليه، وكذلك في إبراهيمَ ولُوطٍ، وهاهنا ذكَرَ القومَ أوَّلًا، وأضاف إليهم أخاهم شُعيبًا؛ وذلك لأنَّ الأصلَ في جميعِ المواضعِ أنْ يُذكَرَ القومُ، ثمَّ يُذكَرَ رَسولُهم؛ لأنَّ المُرسِلَ لا يَبعَثُ رسولًا إلى غيرِ مُعيَّنٍ، وإنَّما يَحصُلُ قومٌ أو شخصٌ يَحتاجون إلى إنباءٍ مِن المُرسِلِ، فيُرسِلُ إليهم مَن يَختارُه، غيرَ أنَّ قومَ نوحٍ وإبراهيمَ ولوطٍ لم يكُنْ لهم اسمٌ خاصٌّ، ولا نِسبةٌ مَخصوصةٌ يُعرَفون بها، فعُرِفوا بالنَّبيِّ، فقِيل: قومُ نوحٍ وقومُ لُوطٍ. وأمَّا قومُ شُعيبٍ وهودٍ وصالحٍ، فكان لهم نسَبٌ معلومٌ اشتُهِرُوا به عندَ النَّاسِ؛ فجَرى الكلامُ على أصْلِه، وقال اللهُ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، وقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف: 65] [478] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/54). .
- قولُه: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ أي: افْعَلوا ما تَرْجُون به ثوابَه -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-؛ فأُقِيمَ المُسبَّبُ مُقامَ السَّببِ، فيكونُ عطْفُ وَارْجُوا على اعْبُدُوا اللَّهَ للبيانِ والتَّفسيرِ [479] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/453)، ((تفسير البيضاوي)) (4/194)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/169)، ((تفسير أبي حيان)) (8/356)، ((تفسير أبي السعود)) (7/39). .
2- قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
- قوله: فَأَخَذَتْهُمُ أبلَغُ مِن قولِه: «أصابتْهم»؛ لأنَّ الأخذَ دليلٌ على أنَّه لا هَوادةَ فيه، وأنه مُدَمِّرٌ [480] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 184). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، أي: الزَّلزلةُ الشَّديدةُ، وقال في سُورةِ (هودٍ): وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] ، أي: صَيحةُ جِبريلَ عليه السَّلامُ؛ فإنَّها المُوجِبةُ للرَّجفةِ [481] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/39، 40). . وقيل: سُمِّيَت بالصَّيحةِ في سورةِ (هود)؛ لأنَّ لتلك الرَّجفةِ صوتًا شديدًا كالصَّيحةِ [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/247). . وقال: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشعراء: 189] ، والتَّحقيقُ أنَّ قَومَ شُعَيبٍ -أهلَ مَدْيَنَ- اجتَمَعت لهم الصَّيحةُ والرَّجفةُ والظُّلَّةُ؛ لأنَّه صاح بهم المَلَكُ مِن فوق، فرجَفَت بهم الأرضُ مِنْ تحتِهم، ثمَّ إنَّ الله أرسَل عليهم ظُلَّةً فأحرَقَتْهم، وذلك على القَولِ بأنَّ أصحابَ الظُّلَّةِ هم أصحابُ الصَّيحةِ والرَّجفةِ [483] يُنظر: ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (5/126). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (3/449). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا أنَّه حيثُ قال: (أَخَذَتهم... الصَّيْحَةُ) قال: فِي دَارِهِمْ [هود: 67، 94]، وحيث قال: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال: فِي دَارِهِمْ؛ وذلك لأنَّ الرَّجفةَ هائلةٌ في نفْسِها؛ فلم يَحتَجْ إلى مُهوِّلٍ، وأمَّا الصَّيحةُ فغيرُ هائلةٍ في نفْسِها، لكنَّ تلك الصَّيحةَ لَمَّا كانت عظيمةً عندَ كلِّ أحدٍ، فلم يَحتَجْ إلى مُعظِّمٍ لأمْرِها [484] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/55، 56). . وقيل: قولُه: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ، أي: في بَلَدِهم أو دُورِهم، ولم يُجمَعْ؛ لأمْنِ اللَّبْسِ [485] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/453، 454)، ((تفسير البيضاوي)) (4/194)، ((تفسير أبي السعود)) (7/40). .
 وقيل: الدَّارُ هنا معناه: الدِّيارُ؛ لأنَّ الدارَ اسمُ جنسٍ، وهو إذا أُضيفَ إلى معرفةٍ فهو عَامٌّ. فمعنَى فِي دَارِهِمْ ودِيَارِهِمْ واحدٌ [486] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/532). .