الموسوعة الحديثية


- عَجِبْتُ لصبرِ أَخِي يوسفَ وكَرَمِهِ واللهُ يَغْفِرُ لهُ حيثُ أُرْسِلَ إليهِ ليُسْتَفْتَى في الرُّؤْيا ، ولَوْ كُنْتُ أنا لمْ أَفْعَلْ حتى أَخْرُجَ . وعَجِبْتُ لِصَبْرِهِ وكَرَمِهِ واللهُ يَغْفِرُ لهُ أُتِي لِيَخْرُجَ فلمْ يَخْرُجْ حتى أخبرَهُمْ بِعُذْرِهِ ، ولَوْ كُنْتُ أنا لبادرتُ البابَ ، ولَوْلا الكلمةُ لَما لَبِثَ في السِّجْنِ حيثُ يَبْتَغِي الفَرَجَ من عِنْدِ غَيْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم : 3984 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه ابن أبي الدنيا في ((العقوبة)) (160)، والطبراني (11/249) (11640)، والديلمي في ((الفردوس)) (4093)
ضرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَروعَ الأمثلةِ في التَّواضُعِ والتَّوقيرِ لِمَن سبَقَه مِن الأنبياءِ.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "عجِبْتُ لِصَبْرِ أخي يُوسُفَ" وهو نبيُّ اللهِ يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ عليهم السلامُ، وقال ذلك إعْجابًا بصَبْرِ يُوسفَ وقوَّةِ عزيمتِه، "وكَرَمِه!"؛ حيث كان كريمًا مع مَن أهانُوه ورَمَوه في السِّجْنِ، ويَحتمِلُ أنَّه بمعنى: أعْجبَتْني هاتانِ الخُلَّتَانِ مِن خِصالِه؛ لأنَّ اللهَ يُحِبُّهما، "واللهُ يَغفِرُ له" هذه جُملةٌ دُعائيَّةٌ؛ فإنَّه لَمَّا ذكَرَ ما أعْجَبَه مِن صِفاتِه أعقَبَ ذلك بالدُّعاءِ له والإحسانِ إليه، وأكمَلُ الإحسانِ إلى الـمَوتى الدُّعاءُ بالمَغْفرةِ، "حيث أُرْسِلَ إليه لِيُسْتَفْتى في الرُّؤْيَا"، وكان يُوسفُ عليه السلامُ يُعْرَفُ بِتَفسيرِه للرُّؤَى والأحلامِ، والمرادُ بالرُّؤيا هنا: رُؤيا ملِكِ مِصْرَ، وكان قد رَأَى في مَنامِه سَبْعَ بقَراتٍ سِمانٍ يَأكُلُهنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وسَبعَ سُنْبلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ جافَّةً، ولم يَجِدْ عندَ أحَدٍ تَعبيرَها، فعبَرَها يُوسفُ وهو في الـحَبْسِ، وهذا بَيانُ وَجْهِ صَبْرِه وكرَمِه؛ حيث أَفْتاهم وهو في هذه الحالِ، "ولو كنتُ أنا لـمْ أفعَلْ"، أي: لـمْ أعْبُرْها ولـمْ أُفَسِّرْها "حتى أَخْرُجَ"، أي: حتى يُخْرِجُوني مِن السِّجنِ، ولكنَّ يُوسفَ فعَلَ ذلك صَبْرًا منه على بَلِيَّةِ السِّجنِ، وكرَمًا مِن طِباعِه ببَذْلِ الفُتْيا، "وعجِبْتُ لِصَبْرِه وكَرمِه، واللهُ يَغفِرُ له" كرَّرَ التَّعجُّبَ مِن صَبرِه وكَرمِه؛ لأنَّ قِصَّتَه قاضيةٌ ببُلوغِه ذِرْوةَ الأمْرَينِ مِن الصَّبرِ والكَرمِ، "أُتِي لِيَخْرُجَ" مِن السِّجْنِ لَمَّا أرسَلَ إليهِ الـملِكُ، كما في قولِه تعالى: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] في الـمَرَّةِ الأُولى، "فلمْ يَخرُجْ حتى أخْبَرَهم بعُذْرِه"؛ حيثُ قال لرَسولِ الـمَلِكِ الذي أُرْسِلَ إليه لِيَأْتِيَه به: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، ولم يُسارِعْ بالخُروجِ مِن السِّجنِ الطويلِ والرَّاحةِ مِن البَلِيَّةِ العظيمةِ أوَّلَ ما أمْكَنَه، بل تثبَّتَ حتى تَظْهرَ براءَتُه، ويَلْقَى الـملِكَ غيرَ مُرتابٍ ولا خَجِلٍ مـمَّا عساهُ يقَعُ بقلْبِه مـمَّا رُفِعَ عنه؛ أراد أنْ يَخْرُجَ خُروجَ مَن قدْ ثبَتَتْ له الحُجَّةُ، لا خُروجَ مَن عُفِيَ عنه، وهذا أيضًا مِن أدلَّةِ صَبرِه، وهو دَليلٌ على كرَمِه؛ لأنَّ مَن يَأْتِ صابرًا على الضَّرَّاءِ حتَّى يُبَرِّئَ صاحِبَه مِن التُّهمةِ فهو مِن أكرَمِ الخلْقِ طبْعًا، "ولو كنتُ أنا لَبادَرتُ البابَ"، أي: خرَجْتُ مِن السِّجنِ ولـمْ ألْبَثْ؛ لِطُولِ مُدَّةِ الـحَبْسِ، وخاصَّةً أنَّه ظهَرَ عُلُوُّ قَدْرِه عندَ الـمَلِكِ بعدَ تفْسيرِ الرُّؤْيَا، "ولوْلا الكلمةُ" وهي قَولُه للَّذي ظَنَّ أنَّه ناجٍ منهما: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، "لَمَا لبِثَ في السِّجنِ" تلكَ المُدَّةَ الطَّويلةَ، وذلك "حيثُ يَبتَغي الفَرَجَ"، أي: يَطلُبُه "مِن عندِ غيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ"؛ فأُدِّبَ بطُولِ مُدَّةِ الـحَبْسِ.
وهذا الحديثُ مِن أدلَّةِ تَواضُعِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإنصافِه، وفيه بَيانُ شَرَفِ غيرِه مِن الأنبياءِ، ولعلَّهُ قال هذا هَضْمًا لنَفْسِه، وإظهارًا لفَضيلةِ أخيهِ يُوسفَ عليه السلامُ؛ وإلَّا فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أكْرَمِ البَرِيَّةِ وأصْبرِهم.
وفي الحَديثِ: دَليلٌ على مَشروعيَّةِ أخْذِ شَيءٍ على الفُتْيا ولو كان مَعنويًّا.
وفيه: دَليلٌ على حُسْنِ الصَّبرِ على الظُّلمِ الذي يَنزِلُ بالعبدِ، وأنَّه يُباحُ للعبدِ أنْ يَتظلَّمَ إنْ ظُلِمَ .