الموسوعة الحديثية


- انطلَقْتُ في المدَّةِ الَّتي كانتْ بيْنَنا وبيْنَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبيْنَا أنا بالشَّامِ إذ جِيء بكتابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى هِرَقْلَ جاء به دِحْيَةُ الكَلبيُّ فدفَعه إلى عظيمِ بُصرَى فدفَعه عظيمُ بُصرَى إلى هِرَقْلَ فقال هِرَقْلُ : هل ها هنا أحَدٌ مِن قومِ هذا الرَّجُلِ الَّذي يزعُمُ أنَّه نبيٌّ ؟ قالوا : نَعم فدُعِيتُ في نفَرٍ مِن قُرَيشٍ فدخَلْنا على هِرَقْلَ فأجلَسَنا بيْنَ يدَيْهِ فقال : أيُّكم أقرَبُ نسَبًا مِن هذا الرَّجُلِ الَّذي يزعُمُ أنَّه نبيٌّ ؟ قال أبو سُفيانَ : فقُلْتُ : أنا، فأجلَسوني بيْنَ يدَيْه وأجلَسوا أصحابي خَلْفي ثمَّ دعا تَرْجُمانَه فقال : قُلْ لهم : إنِّي سائلٌ هذا الرَّجُلَ عن هذا الَّذي يزعُمُ أنَّه نبيٌّ فإنْ كذَبني فكذِّبوه قال أبو سُفيانَ : واللهِ لولا مخافةُ أنْ يُؤثَرَ عنِّي الكذِبُ لكذَبْتُه ثمَّ قال لِتَرجُمانِه : سَلْه كيف حَسَبُه فيكم ؟ قال : قُلْتُ : هو فينا ذو حَسَبٍ قال : فهل كان مِن آبائِه مَلِكٌ ؟ قُلْتُ : لا، قال : فهل أنتم تتَّهمونَه بالكذِبِ قبْلَ أنْ يقولَ ما قال ؟ قُلْتُ : لا قال : مَن تبِعه : أشرافُ النَّاسِ أم ضُعفاؤُهم ؟ قُلْتُ : بل ضُعفاؤُهم قال : فهل يَزيدونَ أم ينقُصونَ ؟ قال : قُلْتُ : بل يَزيدونَ قال : فهل يرتَدُّ أحَدٌ منهم عن دِينِه بعدَ أنْ يدخُلَ فيه سَخْطَةً له ؟ قال : قُلْتُ : لا قال : فهل قاتَلْتُموه ؟ قال : قُلْتُ : نَعم قال : كيف كان قِتالُكم إيَّاه ؟ قال : قُلْتُ : تكونُ الحربُ سِجالًا بيْنَنا وبيْنَه يُصيبُ منَّا ونُصيبُ منه قال : فهَلْ يغدِرُ ؟ قال : قُلْتُ : لا، ونحنُ منه في مدَّةٍ - أو قال : هُدنةٍ - لا ندري ما هو صانعٌ فيها ما أمكَنني مِن كلمةٍ أُدخِلُ فيها شيئًا غيرَ هذه قال : فهل قال هذا القولَ أحَدٌ قبْلَه ؟ قال : قُلْتُ : لا ثمَّ قال لِتَرجُمانِه : قُلْ له : إنِّي سأَلْتُك عن حَسَبِه فيكم فزعَمْتَ أنَّه فيكم ذو حَسَبٍ فكذلك الرُّسُلُ تُبعَثُ في أحسابِ قومِها وسأَلْتُك : هل كان في آبائِه مَلِكٌ فزعَمْتَ أنْ لا فقُلْتُ : لو كان في آبائِه مَلِكٌ قُلْتُ : رجُلٌ يطلُبُ مُلْكَ آبائِه وسأَلْتُك عن أتباعِه : أضُعفاءُ النَّاسِ أم أشرافُهم ؟ فقُلْتَ : بل ضُعفاؤُهم وهم أتباعُ الرُّسُلِ وسأَلْتُك : هل كُنْتُم تتَّهِمونَه قبْلَ أنْ يقولَ ما قال ؟ فزعَمْتَ أنْ لا وقد عرَفْتُ أنَّه لم يكُنْ لِيدَعَ الكذِبَ على النَّاسِ ثمَّ يذهَبُ فيكذِبَ على اللهِ وسأَلْتُك : هل يرتَدُّ أحَدٌ منهم عن دِينِه بعدَ أنْ يدخُلَه سَخْطةً له فزعَمْتَ أنْ لا وكذلك الإيمانُ إذا خالَطه بَشاشةُ القلوبِ وسأَلْتُك : هل يَزيدونَ أم ينقُصونَ ؟ فزعَمْتَ أنَّهم يَزيدونَ وكذلك الإيمانُ حتَّى يتِمَّ وسأَلْتُك : هل قاتَلْتُموه ؟ فزعَمْتَ أنَّ الحربَ بيْنَكم وبيْنَه سِجالٌ تنالونَ منه وينالُ منكم وكذلك الرُّسُلُ تُبتَلى ثمَّ تكونُ لهم العاقبةُ وسأَلْتُك : هل يغدِرُ ؟ فزعَمْتَ أنْ لا وكذلك الأنبياءُ لا تغدِرُ وسأَلْتُك : هل قال هذا القولَ أحَدٌ قبْلَه ؟ فزعَمْتَ أنْ لا فقُلْتُ : لو كان قال هذا القولَ أحَدٌ قبْلَه قُلْتُ : رجُلٌ يأتَمُّ بقولٍ قبْلَ قولِه قال : ثمَّ ما يأمُرُكم ؟ قال : قُلْتُ : يأمُرُنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّلةِ والعَفافِ قال : إنْ يَكُنْ ما تقولُ فيه حقًّا فإنَّه نبيٌّ وقد كُنْتُ أعلَمُ أنَّه خارجٌ ولم أظُنَّ أنَّه منكم ولو أنِّي أعلَمُ أنِّي أخلُصُ إليه لَأحبَبْتُ لقاءَه ولو كُنْتُ عندَه لَغسَلْتُ عن قدمَيْهِ ولَيبلُغَنَّ مُلْكُه ما تحتَ قدَميَّ قال : ثمَّ دعا بكتابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقرَأ فإذا فيه : ( بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ مِن محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ سلامٌ على مَنِ اتَّبَع الهدى أمَّا بعدُ فإنِّي أدعوك بدِعايةِ الإسلامِ أسلِمْ تسلَمْ وأسلِمْ يُؤتِك اللهُ أَجْرَك مرَّتينِ فإنْ تولَّيْتَ فإنَّ عليك إِثْمَ الأَرِيسيِّينَ : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: 64] إلى قولِه : {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] فلمَّا فرَغ مِن قراءةِ الكتابِ ارتفَعتِ الأصواتُ عندَه وكثُر اللَّغَطُ فأمَر بنا فأُخرِجْنا فقُلْتُ لِأصحابي حينَ خرَجْنا : لقد جَلَّ أمرُ ابنِ أبي كَبْشةَ، إنَّه لَيخافُه مَلِكُ بني الأصفرِ قال : فما زِلْتُ مُوقنًا بأمرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه سيظهَرُ حتَّى أدخَل اللهُ علَيَّ الإسلامَ
الراوي : أبو سفيان بن حرب | المحدث : ابن حبان | المصدر : صحيح ابن حبان | الصفحة أو الرقم : 6555 | خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه

أنَّ أبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ أخْبَرَهُ: أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ في رَكْبٍ مِن قُرَيْشٍ، وكَانُوا تُجَّارًا بالشَّأْمِ في المُدَّةِ الَّتي كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَادَّ فِيهَا أبَا سُفْيَانَ وكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فأتَوْهُ وهُمْ بإيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ، وحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ ودَعَا بتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أيُّكُمْ أقْرَبُ نَسَبًا بهذا الرَّجُلِ الذي يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: فَقُلتُ أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أدْنُوهُ مِنِّي، وقَرِّبُوا أصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لهمْ إنِّي سَائِلٌ هذا عن هذا الرَّجُلِ، فإنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِن أنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عنْه. ثُمَّ كانَ أوَّلَ ما سَأَلَنِي عنْه أنْ قَالَ: كيفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلتُ: هو فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهلْ قَالَ هذا القَوْلَ مِنكُم أحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ؟ قُلتُ: لا قَالَ: فأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ منهمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ يَغْدِرُ؟ قُلتُ: لَا، ونَحْنُ منه في مُدَّةٍ لا نَدْرِي ما هو فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: ولَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شيئًا غَيْرُ هذِه الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكيفَ كانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ؟ قُلتُ: الحَرْبُ بيْنَنَا وبيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا ونَنَالُ منه. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلتُ: يقولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، واتْرُكُوا ما يقولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ والصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ له: سَأَلْتُكَ عن نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أنَّه فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا. وسَأَلْتُكَ هلْ قَالَ أحَدٌ مِنكُم هذا القَوْلَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقُلتُ: لو كانَ أحَدٌ قَالَ هذا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بقَوْلٍ قيلَ قَبْلَهُ. وسَأَلْتُكَ هلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، قُلتُ فلوْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، قُلتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أبِيهِ، وسَأَلْتُكَ، هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فقَدْ أعْرِفُ أنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ علَى النَّاسِ ويَكْذِبَ علَى اللَّهِ. وسَأَلْتُكَ أشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وهُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ. وسَأَلْتُكَ أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذلكَ أمْرُ الإيمَانِ حتَّى يَتِمَّ. وسَأَلْتُكَ أيَرْتَدُّ أحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وسَأَلْتُكَ هلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ. وسَأَلْتُكَ بما يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، ويَنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، ويَأْمُرُكُمْ بالصَّلَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ، فإنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وقدْ كُنْتُ أعْلَمُ أنَّه خَارِجٌ، لَمْ أكُنْ أظُنُّ أنَّه مِنكُمْ، فلوْ أنِّي أعْلَمُ أنِّي أخْلُصُ إلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، ولو كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عن قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بكِتَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي بَعَثَ به دِحْيَةُ إلى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فيه بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن مُحَمَّدٍ عبدِ اللَّهِ ورَسولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإسْلَامِ، أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإنْ تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأرِيسِيِّينَ و{يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيْنَنَا وبيْنَكُمْ أنْ لا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ ولَا نُشْرِكَ به شيئًا ولَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ فإنْ تَوَلَّوْا فَقُولوا اشْهَدُوا بأنَّا مُسْلِمُونَ} قَالَ أبو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ ما قَالَ، وفَرَغَ مِن قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ وأُخْرِجْنَا، فَقُلتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِي كَبْشَةَ، إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ. فَما زِلْتُ مُوقِنًا أنَّه سَيَظْهَرُ حتَّى أدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإسْلَامَ. وكانَ ابنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إيلِيَاءَ وهِرَقْلَ، سُقُفًّا علَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إيلِيَاءَ، أصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابنُ النَّاظُورِ: وكانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ في النُّجُومِ، فَقَالَ لهمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ في النُّجُومِ مَلِكَ الخِتَانِ قدْ ظَهَرَ، فمَن يَخْتَتِنُ مِن هذِه الأُمَّةِ؟ قالوا: ليسَ يَخْتَتِنُ إلَّا اليَهُودُ، فلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، واكْتُبْ إلى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَن فيهم مِنَ اليَهُودِ. فَبيْنَما هُمْ علَى أمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ برَجُلٍ أرْسَلَ به مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عن خَبَرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أمُخْتَتِنٌ هو أمْ لَا، فَنَظَرُوا إلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أنَّه مُخْتَتِنٌ، وسَأَلَهُ عَنِ العَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هذا مُلْكُ هذِه الأُمَّةِ قدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ له برُومِيَةَ، وكانَ نَظِيرَهُ في العِلْمِ، وسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حتَّى أتَاهُ كِتَابٌ مِن صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ علَى خُرُوجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّهُ نَبِيٌّ، فأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ له بحِمْصَ، ثُمَّ أمَرَ بأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يا مَعْشَرَ الرُّومِ، هلْ لَكُمْ في الفلاحِ والرُّشْدِ، وأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هذا النبيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وقَالَ: إنِّي قُلتُ مَقالتي آنِفًا أخْتَبِرُ بهَا شِدَّتَكُمْ علَى دِينِكُمْ، فقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا له ورَضُوا عنْه، فَكانَ ذلكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ
الراوي : أبو سفيان بن حرب | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 7 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

في هذا الحَديثِ العَظيمِ يَحكي أبو سُفْيانَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه بَيْنَما كان في رِحْلةِ تِجارةٍ بِبِلادِ الشَّامِ مع جَماعةٍ مِن قُرَيشٍ، وكان ذلك قبْلَ إسلامِه، وكان أبو سفيانَ حِينَئذٍ يَخرُجُ على رأسِ القوافلِ والتجارةِ التي كانت تخرُجُ مِن قُرَيشٍ، أرْسَلَ إليه هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ يَطلُبُ مُقابَلتَه، في مُدَّةِ الهُدنةِ الَّتي تَمَّت بيْنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكُفَّارِ قُرَيْشٍ بعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبيَةِ وكان ذلك سَنةَ سِتٍّ مِنَ الهِجرةِ، والحُدَيْبيَةُ اسمٌ لبِئرٍ يقَعُ بالقُربِ مِن مكَّةَ على بُعدِ حوالَيْ 20 كم في طَريقِ جُدَّةِ القَديمِ، وكان المسلِمونَ والمشرِكونَ قدِ اصْطلَحوا على وَضْعِ الحَربِ عَشْرَ سِنينَ.فاجتَمَعَ أبو سُفْيانَ وأصْحابُه بِهِرَقْلَ في مَدينةِ بَيتِ المَقدِسِ، وكانتْ تُسمَّى «إيلِيَاءَ»، فَدَعاهُم إِلى مُقابَلَتِه في مَجلِسِه، وحَوْلَه عُلماءُ النَّصارَى، وكِبارُ رِجالِ الدَّوْلةِ، ثُمَّ دَعاهُم، أي: أدْناهُم مِنه، وقَرَّبَهم إليه، وأَرسَلَ إلى «تَرْجُمانِه»، وهو ناقِلُ الكَلامِ مِن لُغةٍ إلى لُغةٍ أُخْرى، فقال التَّرجُمانُ: أيُّكُم أقرَبُ نَسَبًا بهذا الرَّجُلِ الَّذي يَزعُمُ أنَّه نَبيٌّ؟ ويَقصِدُ به رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَظهَرُ مِن سؤالِ هِرَقْلَ أنَّه أراد أن يَستوثِقَ مِن أخبارِه، ويَزيدَ مِن مَعرفتِه به كما هي عادةُ الملوكِ. فأجابَ أبو سُفْيانَ: أنا أقْرَبُهم نَسَبًا، وهو الواقِعُ؛ لأنَّ بَني هاشِمٍ وبَني أُميَّةَ أبْناءُ عُمومةٍ، يَنحَدِرونَ عن أصْلٍ واحِدٍ. فأمَرَ هِرَقْلُ الرُّومَ بِتَقريبِ أبي سُفْيانَ مِنه، وأدْناهُ مِن مَجلِسِه ليَسألَه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَـ وقَرَّبَ أصْحابَه فَجَعَلَهم وَراءَ ظَهرِ أبي سُفْيانَ، وقال لتَرْجُمانِه: قُلْ لَهُم: إنِّي سائِلٌ هذا عن مُحَمَّدٍ، فإنْ كذَبَ علَيَّ فكَذِّبوه؛ والمعنى: لا تَستَحْيُوا منه فتَسكُتوا عن تكذيبِه إنْ كذَبَ، وذلك ليَتَحَرَّى الصِّدْقَ في كَلامِه، ولا يَشْهَدَ إلَّا بالحَقِّ. فأقسم أبو سُفْيانَ باللهِ: أنَّه لَوْلا الحَياءُ مِن أن يَرْوُوا عنه الكَذِبَ في بِلادِه فيُعابَ به عِندَ قَوْمِه لَكَذَبَ في الحَديثِ عنه، ولَوَصَفَه بخِلافِ الواقِعِ، وهذا ممَّا يَفعلُه الشركُ والكُفرُ بأهلِه، وهو أنَّه يُبعِدُهم عن الحَقِّ والإنصافِ لِمَن خالَفَ دِينَهم ومُعتقدَهم، وما يَحدُثُ مِن إنصافِ بعضِهم فإنَّما هو لِما عندَه مِن فِطرةٍ يَتحدَّثُ بها، أو خَوفًا مِن أن يُعابَ عليه في قَومِه ويُنعَتَ بالكَذِبِ، وهذا ممَّا كان بقِي في العِربِ مِن الشِّيَمِ الصالِحةِ، كما هو حالُ أبي سُفْيانَ في هذا الحَديثِ. فأوَّل ما سألَه: كيفَ نَسَبُ مُحمَّدٍ فيكُم؟ فأجابَه: بأنَّه ذو نَسَبٍ رَفيعٍ. ثُمَّ سألَه: هَلِ ادَّعى أحَدٌ مِن العَرَبِ النُّبُوَّةَ قبْلَ ظُهورِه؟ فأجابَه: لا، لَم يَحدُثْ أنِ ادَّعى أحَدٌ النُّبُوَّةَ قَبْلَه. ثُمَّ سألَه: هلْ تَوَلَّى أحَد مِن آبائِه المُلكَ؟ فأجابَه: لا. ثُمَّ سألَه: هلِ السَّادةُ والقادةُ هُم مَن يَتَّبِعُه، أمِ المَساكينُ والأحْداثُ والفُقَراءُ؟ فأجابَه: بلْ أكْثَرُ أتْباعِه الضُّعَفاءُ. فسألَه: أيَزيدونَ أم يَنقُصونَ؟ فأجابَه: بلْ يَزيدونَ ويكثُرُ عدَدُهم. فسألَه: فهَلْ يَرتَدُّ أحدٌ مِنهُم «سَخْطةً» لدينِه؟ أي: بُغْضًا للإسلامِ وكَراهيةً له ونُفورًا منه؟ فأجابَه: لا. فسألَه: هلْ كنتُم تَتَّهِمونَه بالكَذِبِ قبْلَ أن يَدَّعيَ النُّبُوَّةَ؟ فأجابَه: لا. فسألَه: هلْ يَغدِرُ فيَنُقضَ العَهدَ؟. فأجابَه: لا، ولَكِنْ نَحنُ في «مُدَّةٍ»، أي: في هُدْنةٍ مُؤَقَّتةٍ بِعَشْرِ سَنواتٍ، وهيَ صُلحُ الحُدَيبيَةِ، لا نَدري ما هو فاعِلٌ فيها مِن الوَفاءِ أو الغَدرِ؛ أراد بذلك أن يُلقيَ في نفْسِ هِرَقْلَ أنَّه ربَّما يقعُ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غدرٌ لهذا العهدِ؛ ولهذا قال: «وَلَم أجِد كَلِمةً أنْتَقِصُه فيها غَيْرَ هذه» يريدُ: أنَّه قصَدَ بجوابِه ذلك أن يَعيبَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فسألَه هِرقلُ: فهَلْ قاتَلْتُموه؟ فأجابَه: نَعَم. فسألَه: فكَيْفَ كان قِتالُكُم إيَّاه؟ قال: الحَربُ بَيْنَنا وبَيْنَه «سِجالٌ»، أي: نُوَبٌ؛ نَوْبةٌ لنا، ونَوْبةٌ له، فمَرَّةً يَنتصِرُ علينا، ومَرَّةً نَنتصِرُ عليه. فسألَه: فماذا يَأمُرُكم؟ فأجابَه: يَقولُ: اعبُدُوا اللهَ وَحْدَه ولا تُشرِكوا به شَيئًا، واتْرُكوا ما يَقولُ آباؤُكم، ويأمُرُنا بالصَّلاةِ والصِّدقِ والعَفافِ، وهو: الكَفُّ عن المَحارِمِ، وكُلِّ ما يُنافي المُروءةَ، ويأمُرُنا بالصِّلةِ، والإحْسانِ إلى الأقارِبِ خاصَّةً، وإلى النَّاسِ عامَّةً، فيَدخُلُ فيه جميعُ أنواعِ البِرِّ. وبعْدَ أنْ سألَ هِرقلُ أبا سُفيانَ جعَل يُبيِّنُ أسبابَ ومَرجعَ كلِّ سؤالٍ ممَّا يتبيَّنُ به حقيقةُ هذا النبيِّ، فأخبَرَه هِرَقْلُ أنَّه سألَه عن نَسَبِ مُحَمَّدٍ، فذَكر أنَّه فيهم ذو نَسَبٍ، فكذلكَ الرُّسُلُ يَختارُهم اللهُ مِن أشْرَفِ القَومِ نسبًا وحَسَبًا؛ لأنَّ مَن شَرُف نَسبُه كان أبعدَ مِن انتحالِ الباطِلِ، وكان انقيادُ الناسِ إليه أقربَ. وأنَّه سألَه: هلْ قال أحَدٌ مِنكم هذا القَولَ قَبْلَه؟ فنفَى ذلك، فَقُلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القَولَ قَبْلَه لَظَنَنْتُ أنَّه اقْتَدى بِغَيرِه مِن أدْعياءِ النُّبُوَّةِ. وأنَّه سألَه: هلْ كان مِن آبائِه مِن مَلِكٍ؟ فذَكَرتَ أنْ لا، فقُلتُ: لو كان مِن آبائِه مِن مَلِكٍ قُلتُ: رَجُلٌ يُحاوِلُ أن يَستَعيدَ مُلكَ أبيه لنَفْسِه، ولَكِنَّه ليس مِن أبناءِ المُلوكِ حَتَّى يُظَنَّ به ذلك. وأنَّه سألَه: هلْ كنتُم تَتَّهِمونَه بالكَذِبِ قبْلَ أن يَقولَ ما قال؟ فنفى ذلك، فقدْ أعْرِفُ أنَّه لم يَكُنْ لِيَترُكَ الكَذِبَ على النَّاسِ ويَكذِبَ على الله؛ لأنَّ الكَذِبَ على الله أشْنَعُ وأعظَمُ جُرمًا. وأنَّه سألَه: هلْ أشْرافُ النَّاسِ اتَّبَعوه أمْ ضُعفاؤُهم؟ فَذَكَر أنَّ ضُعَفاءَهم اتَّبَعوه، وهُم أتْباعُ الرُّسُلِ كما يُعلَمُ مِن سِيَرِهم؛ وذلِك لكونِ الأشرافِ يَأنفونَ مِن تقديمِ مِثلِهم عليهم، والضُّعفاءِ لا يأنفونَ فيُسرِعونَ إلى الانقيادِ واتِّباعِ الحقِّ، وهذا على الغالِبِ، وإلَّا فقدْ سبَق إلى اتِّباعِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أكابرُ أشرافِ دِينِه كأبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ وعُمرَ بنِ الخطَّابِ وحَمزةَ وغيرِهم. وأنَّه سألَه: أيَزيدونَ أمْ يَنقُصونَ؟ فَذَكَر أنَّهم يَزيدونَ، وكذلكَ أمرُ الإيمانِ حَتَّى يَتِمَّ، وزِيادتُهم دليلٌ على صِحَّةِ النبوَّةِ؛ لأنَّهم يرونَ الحقَّ كلَّ يومٍ يَتجدَّدُ، فيدخُلُ فيه كلَّ يومٍ طائفةٌ. وأنَّه سألَه: أيَرْتَدُّ أحدٌ مِنهم سَخْطةً لدِينِه بعْدَ أن يَدخُلَ فيه؟ فنفى ذلك، فأخبَرَه هِرَقْلُ أنَّ هذا حالُ الإيمانِ حينَ تُخالِطُ «بَشاشَتُه القُلوبَ»، أي: حينَ تُمازِجُ حَلاوتُه قُلوبَ مَن دانَ به؛ فلا يَتركُه أبدًا. وأنَّه سألَه: هلْ يَغدِرُ؟ فنفَى ذلك، وكذلكَ الرُّسلُ لا يَغدِرون؛ لأنَّ الغَدرَ نَقيصةٌ يَتنزَّهُ عنها فُضلاءُ النَّاسِ، فَضلًا عن الأنبياءِ. وأنَّه سألَه: بماذا يأمُرُكم؟ فذَكَرتَ أنَّه يأمُرُكم أن تَعبُدوا اللهَ وَحْدَه، ولا تُشرِكوا به شَيئًا، ويَنْهاكُم عن عِبادةِ الأوْثانِ، جمْع وثَنٍ، وهو: كلُّ ما له جُثَّةٌ، متَّخَذٌ مِن نحوِ الحِجارةِ والخشَبِ؛ كصُورةِ الآدمِيِّ. ويأمُرُكم بالصَّلاةِ والصِّدقِ والعَفافِ. ثمَّ أخبَرَ هِرَقلُ أبا سُفيانَ أنَّه إنْ كان ما أخبَرَه به أبو سُفيانَ حقًّا فإنَّ هذا الرَّجُلَ نبيٌّ حقًّا، وسيَملِكُ أرضَ بَيتِ المَقدِسِ، وهي الشامُ، أو أرضَ مُلكِ هِرقلَ، ثمَّ قال: وقد كُنتُ أَعلَمُ أنَّه خارِجٌ، ولَمْ أكُنْ أظُنُّ أنَّه مِنكم، فلَوْ كُنتُ أَعلَمُ أنِّي أَخلُصُ إليه، أي: أَصِلُ إليه «لَتَجَشَّمتُ لِقاءَه»، أي: لَتَكَلَّفتُ عَناءَ السَّفرِ إليه، ولَو كُنتُ عِندَه لَغَسَلتُ عن قَدَمِه؛ إكرامًا، واحترامًا، وخِدمةً، فهو على ظاهِرِه، ويَحتمِلُ أن يُريدَ المُبالَغةَ في طاعتِه وامتثالِ أمرِه حتى يكونَ بصورةِ مَن يُباشِرُ هذا الأمرَ.ثُمَّ دَعا هِرقلُ بكِتابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي بَعَثَ به دِحْيةُ الكَلْبيُّ إلى عَظيمِ بُصْرَى، وهو أميرُها الحارِثُ بنُ أبي شمرٍ الغَسَّانيُّ، فَأرسَلَه عَظيمُ بُصْرى إلى هِرَقْلَ، فقَرَأه، فإذا فيه: بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ، مِن مُحمَّدٍ عَبدِ الله ورَسولِه إلى هِرَقْلَ عَظيمِ الرُّومِ، المُعَظَّمِ عِندَهم، سَلامٌ على مَن اتَّبَعَ الهُدى، وهيَ صِيغةٌ للتَّحيَّةِ في مُخاطَبةِ الكُفَّارِ. أمَّا بَعدُ، فإنِّي أدْعوك بِدِعايةِ الإسلامِ، أي: بدَعْوتِه التي أمَر اللهُ بها، أَسلِمْ تَسلَمْ؛ في الدُّنيا بِالنَّجاةِ مِن الحَربِ والجِزْيةِ، وفي الآخِرةِ بالنَّجاةِ مِن النَّارِ، وهذا القَولُ: «أَسلِمْ تَسلَمْ» في نِهايةِ الاختِصارِ وغايةِ الإيجازِ والبَلاغةِ وجَمْعِ المعانِي. يُؤْتِك اللهُ أجرَك مَرَّتَينِ؛ مرَّةً على إيمانِك بنَبيِّك عيسى، ومرَّةً على إسْلامِك، فإنْ تَوَلَّيتَ فإنَّ عليك إثْمَ «الأَريسيِّينَ»، أي: إثمَ الفلَّاحينَ الزَّراعينَ وأتْباعِك ورَعاياكَ مِن عامَّةِ الشَّعبِ؛ بأنَّه حالَ بيْنَهم وبيْنَ دِينِ الله عزَّ وجلَّ. و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، أي: نستوي فيها جَميعًا؛ لأنَّها تَتَّفِقُ عليها الكتبُ الثلاثةُ: القُرآنُ، والتوراةُ، والإنجيلُ. {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، أي: فقد لَزِمَتْكُم الحُجَّةُ، فاعْتَرِفوا بِأنَّا مُسلِمونَ دُونَكم، وأنَّكم كافِرونَ باللهِ تعالَى.قال أبو سُفْيانَ: فَلمَّا قال هِرَقلُ ما قال، وفَرَغَ مِن قِراءةِ الكِتابِ، كَثُرَ عِنْدَه «الصَّخَبُ»، وهو اللَّغَطُ والخِصامُ، وارتَفَعَتْ الأصْواتُ، وأُخرِجْنا مِن مَجلِسِه، قال أبو سُفْيانَ لأصْحابِه: لقدْ أَمِرَ أمْرُ ابنِ أبي كَبْشةَ، أي: لقدْ عَظُمَ شأنُ مُحمَّدٍ الَّذي كُنَّا نَدْعوه اسْتِهزاءً وسُخْريةً عِندَما كان يُحَدِّثُنا بهذه الكُنْيةِ، فنَقولُ: هذا ابنُ أبي كَبْشةَ يُكَلَّمُ مِن السَّماءِ! وأبو كَبْشةَ أبوه مِن الرَّضاعةِ، واسْمُه الحارِثُ بنُ عَبدِ العُزَّى؛ «إنَّه يَخافه مَلِكُ بَني الأصْفَرِ»، حيثُ عَلَا قَدْرُه، حَتَّى أصْبَحَ يَخافُه مَلِكُ الرُّومِ، ويَعترِفُ له بالفَضلِ والنُّبوَّةِ. ثمَّ أخبَرَ أبو سُفيانَ أنَّه أصبَحَ على يَقينٍ مِن أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سوف يَنتصِرُ ويَنتشِرُ دِينُه في المُستَقبَلِ القَريبِ، حتَّى أدخَلَ اللهُ الإسلامَ في قَلبِه ووَفَّقَه إليه.وكانَ ابنُ النَّاطورِ، وهو أميرُ بَيْتِ المَقدِسِ، وصَديقُ هِرَقْلَ رَئيسًا للدِّيانةِ النَّصرانيَّةِ بالشَّامِ، يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حينَ قَدِمَ إِيلِياءَ أصْبَحَ خَبيثَ النَّفْسِ، أي: قَلِقًا مَهْمومًا، فقال له بعضُ «بَطارِقتِه»، أي: قُوَّادِه وأهلِ مشورتِه، قدِ استَنْكَرْنا هَيئَتَك، فلاحَظْنا عَلَيك تُغيُّرَ وَجهِك، مِمَّا يدُلُّ على مُعاناتِك لبعضِ الهُمومِ النَّفْسيَّةِ. قال ابنُ النَّاطورِ: وكان هِرَقْلُ حَزَّاءً: يَنظُرُ إلى النُّجومِ، فيَسْتَدِلُّ بها في زَعْمِه على ما يَقَعُ في المُستَقبَلِ أو في الحالِ، «والحَزَّاءُ»: الكاهِنُ المُنَجِّمُ، فقالَ لهم حينَ سألوه: إنِّي رأيْتُ اللَّيلةَ حينَ نَظَرتُ في النُّجومِ أنَّ مَلِكَ الخِتانِ قد ظَهَرَ، أي: عرَفتُ مِن النُّجومِ أنَّ مَلِكَ الأُمَّةِ الَّتي تَختَتِنُ قد ظهَرَ، فمَن يَختَتِنُ مِن هذه الأُمَّةِ؟ قالوا: ليس يَختَتِنُ إلَّا اليهودُ، فلا يُهِمَّنَّك شأْنُهم؛ لأنَّهم لا دَولةَ لهم ولا صَولةَ، واكتُبْ إلى مَدائِنِ مُلْكِك فيَقتُلوا مَن فيهم مِن اليَهودِ، فإنْ كنتَ تَخْشى منهم فاسْتأْصِلْهم، فبَيْنَما هم في حَيْرةٍ مِن أمْرِهم أُتيَ هِرَقْلُ برَجُلٍ أرْسَلَه مَلِكُ غَسَّانَ، وهو عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ، يُخبِرُ عن خَبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيَقولُ: خرَجَ بيْنَ أظْهُرِنا رجُلٌ يزعُمُ أنَّه نَبيٌّ، اتَّبَعَه ناسٌ، وخالَفَه ناسٌ، فلَمَّا استَخْبَره هِرَقْلُ، قال: اذْهَبوا فانْظُروا أمُخْتَتِنُ هو أمْ لا؟ أي: فلَمَّا أحْضَرَه هِرَقْلُ بيْنَ يَدَيْه، وسألَه عن قِصَّةِ هذا الرجُلِ الَّذي يَزعُمُ أنَّه نَبيٌّ، أمَرَهم بالكَشفِ عليه، حَتَّى يَنظُروا أهو مُخْتَتِن أم لا؟ فأخْبَروه أنَّهم وَجَدوه مُخْتَتِنًا، فسألَه عن العَرَبِ، فقال: هُم يَختَتِنون، فعَرَفَ أنَّ ما شاهَدَه هُم العَرَبُ، فقال هِرَقْلُ: هذا مَلِكُ هذه الأُمَّةِ قد ظهَرَ، أي: هذا الَّذي رَأيتُه في النُّجومِ مَعْناهُ أنَّ مَلِكَ الأمَّةِ الَّتي تَختَتِنُ، وهُم العَرَبُ، قد ظَهَرَ على هذه الأرضِ، وأنَّ دَوْلتَهم ستَغلِبُ على هذه البِلادِ كُلِّها، ثُمَّ كتَبَ هِرَقْلُ إلى صاحِبٍ له بِروميَّةَ، وهيَ: روما عاصِمةُ إيطاليا اليَومَ، وكان نَظيرَه في العِلمِ، وسارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فلَمْ يَكَدْ يَصِلُ إليها حتَّى أتاه كِتابٌ مِن صاحِبِه في رُوميَّةَ -وكانَ أُسْقُفَ روما- يوافِقُ رأيَ هِرَقْلَ على خُروجِ النبيِّ، وأنَّه النبيُّ الَّذي بَشَّرَ به عيسى، فأعْلَنَ هِرَقْلُ لعُظَماءِ دَولتِه عن عَقْدِ اجتِماعٍ في قَصرٍ عَظيمٍ بحِمْصَ؛ لكَيْ يُلقيَ فيهم خِطابًا مُهِمًّا، ثُمَّ أمَرَ بأبوابِها فغُلِّقَتْ، أي: دَخَلَ جَناحًا خاصًّا أغلَقَ أبْوابَه عليه، ثُمَّ أطَلَّ عليهم مِن «الشُّرْفةِ»، وهيَ أعْلى البِناءِ، فقال: يا مَعشَرَ الرُّومِ، هلْ لكم في الفَلاحِ، وهلْ تَرغَبونَ في الفَوزِ والظَّفَرِ، والرُّشدِ وهو إصابةُ الحَقِّ عَقيدةً وقَولًا وعمَلًا، وأن يَثبُتَ مُلكُكم، فيَبْقى ويَدومَ لكم؟ فإنْ أردْتُم ذلك فعاهِدوا مُحمَّدًا على الإسلامِ، «فَحاصُوا حَيْصةَ حُمُرِ الوَحْشِ»، أي: ثاروا ثَوْرةَ الحُمُرِ الوَحشيَّةِ، وهَجَموا على الأبْوابِ يُريدونَ الوُصولَ إليها ليَفتِكوا به، فوَجَدوها قد غُلِّقَتْ، فلَمَّا رأى هِرَقْلُ نُفورَهم مِن الإسلامِ وثَوْرتَهم العَنيفةَ عليه وأَيِسَ مِن إيمانِهم ورأَى أنَّهم لن يُطيعوه، وأنَّ مُلكَه سيَذهَبُ؛ تراجَعَ، وقال: «رُدُّوهم عَلَيَّ»، أي: قال لجُندِه: رُدُّوهم عَنِّي، أو رُدُّوهم إلى مَجلِسي ولا تَدَعوهم يَخرُجون، وقال لهم: «إنِّي قُلتُ مَقالَتي «آنِفًا» -أي: سابِقًا- لأخْتَبِر صَلابَتكم في دِينِكم، وشِدَّةَ تَمَسُّكِكم به، وقوَّةَ دِفاعِكم عنه! فَسَجَدوا له على عادةِ الأعاجِمِ، فكان ذلك آخِرَ شأْنِ هِرَقْلَ، ونِهايةَ قصَّتِه ومَوقِفِه مِن كِتابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو فيما يتعلَّقُ بالإيمانِ، وإلَّا فإنَّه بعْدَ ذلك وقعتْ له أمورٌ مِن تَجهيزِ الجيشِ إلى مُؤْتةَ وتَبوكَ، ومُحاربتِه للمُسلِمينَ، وبقائه على الكُفرِ. وفي الحَديثِ: بيانُ جُملةٍ عَظيمةٍ مِن أُصولِ الإسلامِ وأصولِ دَعوتِه.وفيه: بيانُ جُملةٍ مِن نُعوتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ ذلك مكتوبٌ في التوراةِ والإنجيلِ؛ فهذا الذي قالَه هِرقلُ أخَذَه مِن الكتُبِ القديمةِ؛ ففي التوراةِ هذا أو نحوُه مِن أعلامِ نُبوَّتِه.وفيه: مُكاتَبةُ الكُفارِ بالدَّعوةِ إلى الإسلامِ، ومُلاطَفةُ المَكتوبِ إليه، وتَقديرُه التَّقديرَ اللَّائقَ المُناسِبَ، الَّذي لا يَتجاوَزُ حُدودَ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ.وفيه: أنَّ الكِتابيَّ إذا أسلَمَ له أجْرانِ.وفيه: أنَّ صِدقَ نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان معلومًا لأهلِ الكِتابِ عِلمًا قطعيًّا، وإنَّما ترَك الإيمانَ به مَن ترَكَه منهم عِنادًا أو حسدًا، أو خوفًا على فَواتِ مَناصبِهم في الدُّنيا، ونحوَ ذلِك.وفيه: استِقباحُ الكَذِبِ عِندَ جَميعِ الأُمَمِ والشُّعوبِ، وأنَّ العدوَّ لا يُؤمَنُ أنْ يَكذِبَ على عَدوِّه؛ فيَنبغي التحرُّزُ منه.وفيه: أنَّ مَن كان رَئيسًا مَتْبوعًا مَسموعًا يكونُ عليه إثمُ الكُفرِ وإثمُ مَن عمِلَه واتَّبعَه، وكذا مَن كان سببًا لضلالةٍ أو منْعِ هِدايةٍ.