الموسوعة الحديثية


- إِنَّ اللهَ تَعالَى جعلَ الدنيا كلَّها قَلِيلا ، وما بَقِيَ مِنْها إلَّا القَلِيلُ مِنَ القَلِيلِ ، ومَثَلُ ما بَقِيَ مِنْها كَالثَّغْبِ يعني الغَدِير شُرِبَ صَفْوُهُ ، و بَقِيَ كَدَرُهُ
الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة | الصفحة أو الرقم : 1625 | خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن | التخريج : أخرجه الحاكم (7904) واللفظ له، وأخرجه البخاري (2964) مطولاً بنحوه

لقَدْ أتَانِي اليومَ رَجُلٌ، فَسَأَلَنِي عن أمْرٍ ما دَرَيْتُ ما أرُدُّ عليه، فَقالَ: أرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا، يَخْرُجُ مع أُمَرَائِنَا في المَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا في أشْيَاءَ لا نُحْصِيهَا؟ فَقُلتُ له: واللَّهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لَكَ! إلَّا أنَّا كُنَّا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَعَسَى أنْ لا يَعْزِمَ عَلَيْنَا في أمْرٍ إلَّا مَرَّةً حتَّى نَفْعَلَهُ، وإنَّ أحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بخَيْرٍ ما اتَّقَى اللَّهَ، وإذَا شَكَّ في نَفْسِهِ شيءٌ سَأَلَ رَجُلًا، فَشَفَاهُ منه، وأَوْشَكَ أنْ لا تَجِدُوهُ، والذي لا إلَهَ إلَّا هو، ما أذْكُرُ ما غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إلَّا كَالثَّغْبِ؛ شُرِبَ صَفْوُهُ، وبَقِيَ كَدَرُهُ.
الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 2964 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

التخريج : من أفراد البخاري على مسلم


لُزومُ النَّاسِ طاعةَ الإمامِ أو مَن يُنِيبُهمُ الإمامُ، مِن أهَمِّ الأُمورِ التي يَصلُحُ بها أمْرُ الدِّينِ والدُّنيا، وتَنعَقِدُ به جَماعةُ المُسلِمينَ، ولا تَنفَرِطُ وَحدَتُهم، وقد بَيَّنَ الشَّرعُ الحُدودَ الفارِقةَ التي تُحدِّدُ ما يَنبَغي فيه طاعةُ الإمامِ، وما لا يَنبَغي.
وفي هذا الحَديثِ يَروي عَبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ سائِلًا أتَاه، فسَأَلَه عن أمْرٍ لم يَدْرِ ابنُ مَسعودٍ كيف يَرُدُّ عليه فيه! وذلك أنَّ الرَّجُلَ قد سَأَلَه: «أرَأَيتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشيطًا»، أيْ: أخْبِرْني عن رجُلٍ يَخِفُّ ويُسرِعُ لِلأمْرِ الذي يُريدُ فِعلَه، وقَولُه: «مُؤْدِيًا» أي: قويًّا، أو كامِلَ أداةِ الحَربِ، فيَخرُجُ مع الأُمَراءِ لِلغَزوِ والجِهادِ، «فيَعزِمُ علينا في أشياءَ لا نُحصيها»، يَعني: يُشَدِّدُ علينا الأميرُ في أشياءَ لا نُطيقُها، أو لا نَدْري أطاعةٌ هي أمْ مَعصيةٌ؟ أيَجِبُ على هذا الرَّجُلِ طاعةُ الأميرِ أمْ لا؟
فقال له ابنُ مَسعودٍ: «واللهِ ما أدْري ما أقولُ لكَ!» قيلَ: سَبَبُ تَوَقُّفِ ابنِ مَسعودٍ عنِ الفُتْيا في أوَّلِ أمْرِه: أنَّ الإمامَ إذا عَيَّنَ طائِفةً لِلجِهادِ أو لِغيرِه مِنَ المُهِمَّاتِ تَعَيَّنوا، وصارَ ذلك فَرْضَ عَينٍ عليهم، فلوِ استَفْتَى أحَدُهم عليه وادَّعى أنَّه كَلَّفَه ما لا طاقةَ له به بالتَّشَهِّي، أشكَلَتِ الفُتيا حِينَئذٍ؛ لأنَّه إنْ قيلَ بوُجوبِ طاعةِ الإمامِ، فإنَّه يُعارَضُ ذلك بفَسادِ الزَّمانِ، وإنْ قيلَ بجَوازِ المُعارِضِ والامتِناعِ، فقدْ يُفضي ذلك إلى الفِتنةِ؛ فالصَّوابُ التَّوقُّفُ، لكِنَّ الظَّاهِرَ أنَّ ابنَ مَسعودٍ بعْدَ أنْ تَوَقَّفَ، أفتاهُ بوُجوبِ الطَّاعةِ، بشَرطِ أنْ يَكونَ المَأمورُ به مُوافِقًا لِلتَّقوى، كما عُلِمَ ذلك مِن قَولِه، فقال رَضيَ اللهُ عنه: «إلَّا أنَّا كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فعَسَى ألَّا يَعزِمَ علينا في أمْرٍ إلَّا مَرَّةً حتَّى نَفعَلَه»، وهذا كِنايةٌ عمَّا كان عليه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم مِن سُرعةِ الاستِجابةِ لِأمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا أمَرَهم بالأمْرِ وأكَّدَه عليهم، فإنَّهم مِن أوَّلِ مَرَّةٍ يُنَفِّذونَ الأمْرَ.
وبهذا تَحَرَّى عَبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ في الفَتوَى، فأجابَه بوُجوبِ طاعةِ الإمامِ، بشَرطِ أنْ يَكونَ المَأمورُ به مُوافِقًا لِتَقوَى اللهِ تعالَى؛ فلا يُفتي برُخصةٍ في مَوضِعِ عَزيمةٍ، أو عَزيمةٍ في مَوضِعِ رُخصةٍ، واللهُ تعالَى يَقولُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
ثمَّ أوضَحَ له أنَّ الإنسانَ لنْ يَزالَ بخَيرٍ ما اتَّقَى اللهَ تعالَى، «وإذا شَكَّ في نَفْسِه شَيءٌ»، أي: ترَدَّدَ فيه أجائِزٌ أمْ لا؟ سَأَلَ رَجُلًا عالِمًا لِيُجيبَه، فشَفاهُ مِن شَكِّه بإجابةٍ واضِحةٍ بالحَقِّ، وهذا نُصحٌ ألَّا يُقدِمَ الإنسانُ على ما يَشُكُّ فيه حتَّى يَسأَلَ عنه مَن عِندَه عِلمٌ. وقد تَحَسَّرَ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ رَضيَ اللهُ عنه على أنَّ النَّاسَ أوشَكوا أنْ يَفقِدوا العِلمَ بفَقْدِ العُلَماءِ؛ لِتَغيُّرِ الزَّمانِ وبُعدِه عن زَمانِ النُّبُوَّةِ، فلا يَجِدُ النَّاسُ مَن يُفْتي بالحَقِّ ويَشْفي القُلوبَ مِنَ الشُّبُهاتِ والشُّكوكِ، حتَّى قال عَبدُ اللهِ مُتَحَسِّرًا: «وأوْشَكَ ألَّا تَجِدوُه، والذي لا إلهَ إلَّا هو، ما أذْكُرُ ما غَبَرَ مِنَ الدُّنيا إلَّا كالثَّغْبِ»، وهو: الماءُ المُستَنقَعُ في المَوضِعِ المُنخَفِضِ، «شُرِبَ صَفْوُه، وبَقيَ كَدَرُه»؛ شَبَّهَ ما بَقيَ مِنَ الدُّنيا بماءٍ ذَهَبَ الصَّالِحُ والصافي منه، وبَقيَ السَّيِّئُ منه والمُختَلِطُ بالشَّوائبِ والقَاذوراتِ.
وفي الحَديثِ: التَّوقُّفُ في الإفتاءِ فيما أشكَلَ مِنَ الأمْرِ.
وفيه: أنَّه يَنبَغي لِأمُراءِ الجَيشِ ألَّا يُكثِروا على المُجاهِدينَ، فيُعَرِّضوهم لبَعضِ المُخالَفةِ، بلْ لِيُخَفِّفوا عنهم ما استَطاعوا، ولِيُشاوِروهم في الأُمورِ، ويُعَرِّفوهم مَطالِعَ الأحوالِ التي عليها تُبْنى وُجوهُ التَّدبيرِ لِلحَربِ.
وفيه: أنَّ الإنسانَ إذا شَكَّ في شَيءٍ لم يُنْفِذْ فيه حُكمًا على شَكٍّ، بلْ يَسأَلُ عنه ويَبحَثُ، ويَستَضيءُ بنُورِ العِلمِ مِن أهلِه إنْ وُجِدوا، وإلَّا عَمِلَ فيه على أُصولِ الشَّرعِ، وقاسَ واجتَهَدَ.