الموسوعة الحديثية


-  دَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعِندِي جارِيَتانِ تُغَنِّيانِ بغِناءِ بُعاثَ، فاضْطَجَعَ علَى الفِراشِ، وحَوَّلَ وجْهَهُ، ودَخَلَ أبو بَكْرٍ، فانْتَهَرَنِي وقالَ: مِزْمارَةُ الشَّيْطانِ عِنْدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأقْبَلَ عليه رَسولُ اللَّهِ عليه السَّلامُ فقالَ: دَعْهُما، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما فَخَرَجَتا، وكانَ يَومَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإمَّا قالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، فأقامَنِي وراءَهُ، خَدِّي علَى خَدِّهِ، وهو يقولُ: دُونَكُمْ يا بَنِي أرْفِدَةَ. حتَّى إذا مَلِلْتُ، قالَ: حَسْبُكِ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: فاذْهَبِي.
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 949 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] | التخريج : أخرجه البخاري (949)، ومسلم (892)
أيَّامُ العِيدِ أيَّامُ أكْلٍ وشُربٍ ولَهْوٍ حَلالٍ، يَفرَحُ فيها المسلِمونَ بفَضْلِ اللهِ ورَحمتِه، ويُروِّحون عن أنفُسِهم فيها.
وفي هذا الحَديثِ تَروي عائِشةُ أمُّ المؤمنينَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دخَلَ عليها حُجرتِها يَومَ العِيدِ وعِندَها بِنتانِ دونَ سِنِّ البُلوغِ تُنشدانِ الأشعارَ الحَماسيَّةَ الَّتي قِيلَتْ في المفاخَرةِ بأيَّامِ العربِ؛ كيومِ بُعَاثَ، وهو يَومٌ وقَعَتْ فيه حَربٌ مَشهورةٌ بيْن الأوسِ والخَزْرجِ، واستمرَّتْ مئةً وعِشرينَ سَنةً، فلم يُنكِرِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك، وأيضًا لم يَستمِعْ إليه، ولم يَهتمَّ به، وحِينَما دخَلَ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه ووَجَدهما تُنشدانِ هذه الأشعارَ عِندَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها وفي حَضرةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنكَر عليهنَّ بشِدَّةٍ؛ تَنزيهًا لبَيتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يكونَ فيه مِثلُ ذلك، وزَجَرَ ابنتَه عائشةَ وأنَّبَها، وقال: «مِزمارةُ الشَّيطانِ عِنْدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ!» يُريدُ: الضَّربَ على الدُّفِّ، والغِناءَ، والمِزمارةُ مَأخوذٌ مِن الزَّمِيرِ، وهو الصَّوتُ الَّذي له صَفيرٌ، وأضافهُ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه إلى الشَّيطانِ؛ لأنَّه يُلهي عن ذِكرِ اللهِ تعالَى، وهذا مِن عمَلِ الشَّيطانِ.
فما كان مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا أنْ أمَرَه بتَرْكِهما وعدَمِ الإنكارِ عليهما؛ مُعلِّلًا ذلك -كما في الصَّحيحَينِ- بأنَّ لكلِّ قومٍ عِيدًا، وهذا عَيدُ أهلِ الإسلامِ، يُشرَعُ لهم الاحتِفالُ به، والانبساطُ فيه، ولكونِ ذلِك مِن اللَّهْوِ المُباحِ الَّذِي لا يُهيِّجُ النُّفُوسَ إلى أُمورٍ لا تَليقُ.
ثمَّ بعْدَ ذلك غمَزَتْ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها البِنتينِ الصَّغيرتينِ، فخرَجَتَا، والغَمْزُ هو الإشارةُ بالعَينِ، أو الحاجِبِ، أو اليدِ.
وقَولُ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها: «وكان يَومَ عَيدٍ» هذا حَديثٌ آخَرُ، وقد جَمَعَه مع السابقِ بَعضُ الرُّواةِ، وأفْرَدَهما آخَرون.
فأخْبَرَت رَضيَ اللهُ عنها أنَّ ذلك كانَ يَومَ عِيدٍ؛ إمَّا أنَّه تابعٌ لهذا اليومِ الذي كان فيه الجاريتانِ، أو أنَّه يَومٌ آخَرُ، وكان يَلْعَبُ فيه السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ، وهي مِن أدواتِ الحرْبِ، والدَّرَقِ جمْعُ دَرَقةٍ، وهي التُّرسُ، والحِرابُ جمْعُ حَرْبةٍ، وهي رُمحٌ صَغيرٌ عَريضُ النَّصلِ.
ثمَّ أخْبَرَتْ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها -على الشَّكِّ منها- أنَّها إمَّا سَأَلَتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الذي قال لها: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟»، أي: تُحِبِّينَ أنْ تَنْظري إلى السُّودانِ وهم يَلعَبون؟ فلمَّا أخْبَرَتْه برَغْبَتِها في ذلك أوقَفَها وَراءَهُ ليَستُرَها بجَسَدِه، وهي تَضَعُ خَدَّها علَى خَدِّهِ؛ تَلطُّفًا وأُنسًا به، وكان يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «دُونَكُمْ يا بَنِي أرْفِدَةَ»، وهو لَقبٌ للحَبشةِ، أو اسمُ أبيهمُ الأقدَمِ، وقيل: هم جِنسٌ منهم يَرقُصونَ، وقيل: بنو الإماءِ؛ والمعنى: تابِعوا اللَّعِبَ؛ فلا إنكارَ عليكم؛ ففيه إذْنٌ وتَنشيطٌ لهم، وظلَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هكذا حتَّى مَلَّتْ عائِشةُ مِن النَّظرِ إليهم، فسَأَلَها: هلِ اكتَفَيتِ؟ فقالتْ: نَعَمْ، فأمَرَها أنْ تَذهَبَ وتَرجِعَ إلى حُجرتِها.
وفي الحَديثِ: أنَّ إظهارَ السُّرورِ في الأعيادِ مِن شَعائرِ الدِّينِ.
وفيه: أنَّ الإسلامَ فيه فُسحةٌ مَشروعةٌ للَّعِبِ والتَّرويحِ في أوقاتٍ مَعلومةٍ بما لا يُخِلُّ بثَوابتِ الشَّرعِ.
وفيه: الرِّفقُ بالمرأةِ، واستِجلابُ موَدَّتِها.
وفيه: مَشروعيَّةُ الانبساطِ والانشراحِ والتَّوسِعةِ على الأهلِ والعِيالِ في أيَّامِ الأعْيادِ، بما يَحصُلُ به التَّروِيحُ عن النَّفْسِ، وأنَّه يُغتفَرُ في العِيدِ ما لا يُغتفَرُ في غَيرِه.
وفيه: تَأديبُ الأَبِ لابنتِه بحَضْرةِ زَوْجِها إنْ تَرَكَه الزَّوْجُ.