الموسوعة الحديثية


-  نَهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن زيارةِ القُبورِ، وعن لُحومِ الأضاحي بعْدَ ثلاثٍ، وعنِ النَّبيذِ في الدُّبَّاءِ، والنَّقِيرِ، والحَنْتَمِ، والمُزَفَّتِ. قال: ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعْدَ ذلك: ألَا إنِّي قد كنتُ نَهَيْتُكم عن ثلاثٍ، ثمَّ بَدَا لي فيهِنَّ: نهَيْتُكم عن زيارةِ القُبورِ، ثمَّ بَدَا لي أنَّها تُرِقُّ القلبَ، وتُدمِعُ العَينَ، وتُذَكِّرُ الآخِرةَ، فزُورُوها ولا تَقولوا هُجْرًا. ونَهَيْتُكم عن لُحومِ الأضاحي أنْ تأكُلوها فَوقَ ثلاثِ لَيالٍ، ثمَّ بَدَا لي أنَّ الناسَ يُتحِفونَ ضَيفَهم، ويُخَبِّئونَ لغائبِهم، فأَمسِكوا ما شِئتُم. ونَهَيْتُكم عنِ النَّبيذِ في هذه الأَوعيةِ، فاشرَبوا بما شِئتُم، ولا تَشرَبوا مُسْكِرًا، مَن شاء أَوْكى سِقاءَه على إثمٍ.
الراوي : أنس بن مالك | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند لشعيب | الصفحة أو الرقم : 13487 | خلاصة حكم المحدث : صحيح بطرقه وشواهده | التخريج : أخرجه أحمد (13487) واللفظ له، وابن أبي شيبة (24414) مختصراً، وأبو يعلى (3707)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَريصًا على المُسلِمينَ وعلى ما فيه صَلاحُهم وخَيرُهم، وكان رُبَّما يأمُرُ بالأمْرِ في وَقتٍ مُعيَّنٍ، وفي ظُروفٍ مُعيَّنةٍ لِحِكمةٍ مُعيَّنةٍ، ثم يُغيِّرُ الأمْرَ والنَّهيَ بَعدَ زَوالِ الظُّروفِ لِحِكمةٍ أُخرى، كما يُوضِّحُ هذا الحَديثُ، وهو مِنَ الأحاديثِ التي تَجمَعُ النَّاسِخَ والمَنسوخَ، وفيه يقولُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه: "نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن زِيارةِ القُبورِ"، أي: نَهى عن زِيارَتِها مُطلَقًا في أوَّلِ الأمْرِ، وإنَّما كان نَهيُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم في أوَّلِ الأمْرِ لِقُربِ عَهدِهم بالجاهِليَّةِ وما يَفعَلونَه ويَتكَلَّمونَ به مِن أُمورٍ تُخالِفُ الإسلامَ، مِن تَعظيمِ القُبورِ، وغَيرِ ذلك، "وعن لُحومِ الأضاحي بَعدَ ثَلاثٍ" بمَعنى: نَهَيتُكم أوَّلَ الأمْرِ عنِ ادِّخارِها وإِمساكِها أكثَرَ مِن ثَلاثِ لَيالٍ، وَكان النَّهيُ لِأجْلِ الفُقراءِ المُحتاجينَ، وقد وَقَعَ قَحطٌ بالباديةِ، فدَخَلَ أهلُها المَدينةَ، فنَهاهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ ادِّخارِ لُحومِ الأضاحي، "فَوقَ ثَلاثٍ" ثَلاثِ لَيالٍ، لِيُعطوا هؤلاء الفُقراءَ والمُحتاجينَ، "وعنِ النَّبيذِ في الدُّبَّاءِ" وهي آنيةٌ تُصنَعُ مِن نَباتِ القَرعِ بَعدَ تَجفيفِه، وكانوا يَحفِرونَه ويَستَخدِمونَه كسِقاءٍ، ويَحتَفِظونَ فيه ببَعضِ الأشرِبةِ، "والنَّقيرِ" وهو جُزءٌ مِن جِذعِ النَّخلةِ، يُحفَرُ ثم يوضَعُ فيه التَّمرُ أو غَيرُه، "والحَنتَمِ" وهي الأواني المَصنوعةُ مِنَ الطِّينِ والشَّعرِ والدَّمِ، أو مِنَ الفَخَّارِ، "والمُزفَّتِ" وهو الإناءُ المَطلِيُّ بالقارِ أوِ الزِّفتِ، مِنَ الدَّاخِلِ أوِ الخارِجِ، والمَعنى: نَهيتُكم أوَّلَ الأمْرِ عن الانتِباذِ بإلقاءِ التَّمرِ والزَّبيبِ وغَيرِهما مِنَ الحَلوى في الماءِ في هذه الأوعيةِ؛ لِأنَّها تَجعَلُ الماءَ حارًّا فيَصيرُ النَّبيذُ مُسكِرًا؛ لِمَا فيها مِن خاصِّيَّةِ الإسراعِ في تَحويلِ الأشرِبةِ إلى خَمرٍ، فنَهاهم عنها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لذلك. قال أنَسٌ: "ثم قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعدَ ذلك" في آخِرِ الأمْرِ، "ألَا إنِّي قد كُنتُ نَهَيتُكم عن ثَلاثٍ، ثم بدَا لي فيهِنَّ"، أي: ظَهَرَ لي فيهِنَّ حُكمٌ آخَرُ ناسِخٌ لِمَا قَبلَه، "نَهَيتُكم عن زيارةِ القُبورِ، ثم بَدَا لي" ظَهَرَ لي "أنَّها تُرِقُّ القَلبَ" فتَجعَلُه يَخضَعُ ويَخشَعُ "وتُدمِعُ العَينَ" فتُبكيها، "وتُذكِّرُ الآخِرةَ"، أي: إنَّ ثَمَرةَ الزيارةِ وعِلَّةَ إباحَتِها أنَّها تُذكِّرُ بمَنازِلِ الآخِرةِ مِن وَعدٍ ووَعيدٍ وجَنَّةٍ ونارٍ؛ "فزوروها، ولا تَقولوا هُجرًا" والهُجرُ هو الكَلامُ القَبيحُ الفاحِشُ، فقد نَسَخَ حُكمَ النَّهيِ إلى الإباحةِ، والحَثِّ على الزِّيارةِ. "ونَهيتُكم عن لُحومِ الأضاحي أنْ تأكُلوها فَوقَ ثَلاثِ لَيالٍ، ثم بَدا لي أنَّ الناسَ يُتحِفونَ ضَيفَهم" بما يُقدِّمونَه له مِن طَعامٍ وإكرامٍ "ويُخبِّئونَ لِغائِبِهم" الذي لم يَكُنْ حاضِرًا، ولم يأكُلْ مِن لَحمِهم "فأمسِكوا ما شِئتُم" فادَّخِروا مِن لُحومِ أَضاحيكم ما شِئتُمْ مِنَ المُدَّةِ، أوِ المُرادُ: أمسِكوا لُحومَها الباقيةَ بَعدَ إِعطاءِ ما فِيها مِن حَقِّ الفُقراءِ، ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ونَهيتُكم عنِ النَّبيذِ في هذه الأوعيةِ" النَّبيذُ هو نَقعُ الثِّمارِ -كالزَّبيبِ، أَوِ التَّمرِ، أَوِ التِّينِ- في الماءِ، وتَرْكُهُ حتى يَصيرَ نَبيذًا، والمَعنى: كُنتُ قد نَهيتُكم عَنِ الأشرِبةِ التي تُنبَذُ في أوعِيةٍ مُعيَّنةٍ، "فاشرَبوا بما شِئتُم، ولا تَشرَبوا مُسكِرًا" فاشرَبوا مِن كُلِّ أنواعِ الأوعيةِ والأواني، شَريطةَ ألَّا يَكونَ الشَّرابُ مُسكِرًا، فيَكونُ الحاصِلُ أنَّ المَنهيَّ عنهُ هوَ المُسكرُ، لا الظُّروفُ والأواني بعَينِها، ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مَن شاءَ أوْكى سِقاءَه على إثْمٍ" بمَعنى بَعدَ هذا التَّوضيحِ بشأنِ الأواني قد عَرَفتُمُ الحُكمَ، فمَن شاءَ بَعدَ ذلك أنْ يُغلِقَ إناءَه على مُسكِرٍ وهو يَعلَمُ فسَيقَعُ في الإثْمِ والمَعصيةِ. وفي الحَديثِ: وُقوعُ النَّسخِ في بَعضِ الأُمورِ والأحكامِ لِعِلَّةٍ. وفيه: أنَّ لِلمُسلِمِ ادِّخارَ لُحومِ الأَضاحي ما شاءَ. وفيه: الأمْرُ بزِيارةِ القُبورِ لِلتَّذكُّرِ والعِظةِ، مع الْتِزامِ آدابِها. وفيه: أنَّ الأوانيَ كُلَّها مُباحةٌ إلَّا بما خَصَّه الشَّرعُ؛ كالمَصنوعةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ. وفيه: النَّهيُ عن شُربِ المُسكرِ.