الموسوعة الحديثية


- نادى رَجُلٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: الحَجُّ كُلَّ عامٍ؟ فسكَتَ عنه ساعةً، ثم قال: لا، بلْ حَجَّةٌ على كُلِّ مُسلِمٍ، ولو قُلتُ: كلَّ عامٍ لَكانَتْ كلَّ عامٍ، فقام آخَرُ فقال: أحُجُّ مَكانَ أبي؛ فإنَّه شَيخٌ كَبيرٌ؟ فقال: حُجَّ مَكانَ أبيكَ.
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج سنن الدارقطني | الصفحة أو الرقم : 2704 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه أحمد (2741)، والدارمي (1789) باختلاف يسير، وابن الجارود في ((المنتقى)) (410) بنحوه
لقدْ أمَرَ الشَّرعُ بفِعلِ ما في الاستِطاعةِ، والاجتِنابِ التَّامِّ لِلنَّواهي الشَّرعيَّةِ، وأمَرَ بالوُقوفِ عِندَ تَوجيهاتِ اللهِ ورَسولِه، وعَدَمِ تَخَطِّيها. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ عَبدُ اللهِ بنُ عباسٍ رَضيَ اللهُ عنه: "نادَى رَجُلٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، وذلك في حَجَّةِ الوَداعِ في السَّنةِ العاشِرةِ مِنَ الهِجرةِ، "فقالَ: الحَجُّ كُلَّ عامٍ؟" يَعني: هل فَرَضَ اللهُ الحَجَّ علينا في كُلِّ عامٍ؟ "فسَكَتَ عنه ساعةً"، بَعضًا مِنَ الوَقتِ، ولم يَرُدَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ سَكَتَ إعراضًا عن هذا السُّؤالِ الذي فيه تَشديدٌ، "ثم قالَ: لا، بل حَجَّةٌ واحِدةٌ على كُلِّ مُسلِمٍ"؛ فالفَرضُ هو الحَجُّ مَرَّةً واحِدةً في العُمُرِ على كُلِّ مُسلِمٍ قادِرٍ مُستَطيعٍ، "ولو قُلتُ: كُلَّ عامٍ لكانَتْ كُلَّ عامٍ"، بمعنى: لو أجَبتُكَ بقولِ: نَعَمْ، لَأصبَحَ الأمْرُ فَرضًا واجِبًا لازِمًا أنْ يَحُجَّ المُسلِمُ كُلَّ عامٍ؛ وهذا فيه مِنَ المَشقَّةِ والتَّعسيرِ ما يُخالِفُ نَهْجَ الإسلامِ في التَّيسيرِ. وظاهِرُ هذا الحَديثِ يَقتَضي أنَّ أمْرَ افتِراضِ الحَجِّ كُلَّ عامٍ كان مُفَوَّضًا إليه، حتَّى لو قال: نَعَمْ، لَحَصَلَ، وليس بمُستَبعَدٍ أنْ يَأمُرَ اللهُ تَعالى بالإطلاقِ، ويُفوِّضَ أمْرَ التَّقييدِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ولذلك قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلرَّجُلِ في رِوايةِ النَّسائيِّ: "ذَروني ما تَرَكتُكم"، أي: اترُكوني واترُكوا سُؤالي إذا تُرِكتُم وتَرَكتُ الرَّدَّ عليكم؛ وهذا كان إشارةً إلى كَراهةِ السُّؤالِ في النُّصوصِ المُطلَقةِ، والتَّفتيشِ عن قُيودِها، بل يَنبَغي العَمَلُ بإطلاقِها قَدْرَ الاستِطاعةِ حتَّى يَظهَرَ فيها قَيدٌ؛ فقامَ رجُلٌ آخَرُ غَيرُه؛ لِيَسألَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فقالَ: أحُجُّ مَكانَ أبي"، هل يَصِحُّ لي أنْ أحُجَّ بالنِّيابةِ عنه في حياتِه؛ "فإنَّه شَيخٌ كَبيرٌ؟" طاعِنٌ في السِّنِّ، ولا يَستَطيعُ أداءَ فَريضةِ الحَجِّ بما فيها مِن مَشَقَّةٍ، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "حُجَّ مَكانَ أبيكَ"، فأباحَ له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَنوبَ عن أبيه ويَحُجَّ عنه، وتُقَيَّدُ الإنابةُ فيمَن لا يُرجى بُرْؤُه حتى المَوتِ. وقد جاءَ في حَديثٍ عِندَ أبي داودَ وابنِ ماجَهْ: "أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقولُ: لَبَّيْكَ عن شُبرُمةَ. قال: مَن شُبرُمةَ؟ قالَ: أخٌ لي -أو قَريبٌ لي-. قالَ: حَجَجتَ عن نَفْسِكَ؟ قالَ: لا. قالَ: حُجَّ عن نَفْسِكَ ثم حُجَّ عن شُبرُمةَ". ومُفادُ ذلك: أنَّ مَن عليه حَجَّةُ الإسلامِ وأحرَمَ بغَيرِها فإنَّه لا يَجِبُ عليه المُضيُّ في الغَيرِ، بل يَجِبُ عليه صَرفُ ذلك الإحرامِ إلى حَجَّةِ الإسلامِ؛ ثم بَعدَ أنْ يَقضيَ عن نَفْسِه يُمكِنُه أنْ يَحُجَّ عن غَيرِه في أعوامٍ مُقبِلةٍ.