- لمَّا غزا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ غزوةَ تبوكَ خلَّفَ عليًّا بالمدينةِ فقالوا فيهِ : ملَّهُ وَكرِه صحبتَه ، فتبِعَ عليٌّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتَّى لحقَه في الطَّريقِ قالَ : يا رسولَ اللهِ خلَّفتَني بالمدينةِ معَ الذَّراريِّ والنِّساءِ حتَّى قالوا ملَّهُ وَكرِه صحبتَه ، فقالَ لَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : يا عليُّ إنَّما خلَّفتُك على أَهلي يا عليُّ أما ترضى أن تَكونَ منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى إلا أنَّهُ لا نبيَّ بعدي
الراوي : سعد بن أبي وقاص | المحدث : ابن القيسراني | المصدر : ذخيرة الحفاظ
الصفحة أو الرقم: 4/1976 | خلاصة حكم المحدث : إسناده غريب عن قتادة
وفي هذا الحديثِ يقولُ عامرُ بنُ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ: "أَمَر معاويةُ بنُ أبي سفيانَ سعدًا فقال: ما مَنَعَك؟" يعني: أيُّ شَيءٍ صدَّكَ عن أنْ تَسُبَّ أبا تُرابٍ؟ يُريد عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عَنْه، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي كنَّاه بتلك الكُنْيةِ، قيل: إنَّ هذا ليس فيه تَصريحٌ بأنَّه أَمَر سعدًا بالسَّبِّ، وإنَّما يسألُه ما المانعُ أنَّه لم يَسُبَّه، مِثْل ما سبَّه بعضُ القومِ، وقيل: إنَّما يَسألُه عن عَدمِ إنكارهِ على عليٍّ رضي اللهُ عَنْه اجْتِهادَه.
فأَجاب سعدٌ بأنَّ الذي يَمْنعُه مِن سَبِّه هي أمورٌ سَمِعها من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقول سعدٌ: إنَّ الواحدةَ مِنها أعظمُ وأحبُّ عنده من حُمْرِ النَّعَمِ، وحُمْرُ النَّعَمِ نَوعٌ من الإبلِ، وكانتْ مِن أَفضلِ الأموالِ عِنْد العربِ.
ثم قال سعدٌ: إنَّه سَمِع النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ لعليٍّ: أما تَرْضى أن تكون مِنِّي بمَنزلةِ هارونَ من موسى، أي: في قُرْبِه منه في الدِّينِ والنَّسَبِ، وذلك أنَّ موسى عليه السَّلامُ قال لأخيه هارونَ حين أراد الخروجَ إلى مِيقاتِ ربِّه: اخلُفْني في قَوْمي، وهو المُشارُ إليه بقولِه تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142]، أي: بني إسرائيلَ، ولَمَّا شبَّهه في تَخليفِه إيَّاه بهارونَ حين خَلَّفه موسى، خاف أنْ يتأوَّلَ مُتأوِّلٌ فيدَّعِيَ النُّبوَّةَ لِعَليٍّ، فقال: إلَّا أنَّه لا نُبوَّة بَعْدي.
قال سعدٌ: وسَمِعتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ يومَ خَيْبَرَ: لأُعطِينَّ الرَّايةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحِبُّه اللهُ ورسولُه، قال فتَطاوَلْنا لها، أي: جَعَل كُلُّ واحدٍ منهم يتطاولُ بجَسدِه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليَختاره؛ حِرْصًا وطَمعًا في أَخْذِ تلك الرَّايةِ، لِما لِصَفاتِ حاملِها من المَناقبِ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ادْعُوا لي عليًّا؛ فأُتي به أَرْمدَ، أي: يشتكي عينَيه، والرَّمدُ: داءٌ يُهيِّجُ العَينَ، "فبَصَق رسولُ اللهُ صلَّى الله عليه وسلَّم في عيْنِه"، أي: مُداويًا لها، وفي الرِّواياتِ أنَّ عليَّا شُفي كأنْ لم يَكُن به وَجَعٌ، ودَفَع الرَّايةَ إليه، ففتَح اللهُ عليه، أي: فُتِحتْ على يَدَيه خيبرُ، وكان ذلك في السَّنةِ السَّادسةِ من الهِجرةِ، وهي مدينةُ كبيرةُ ذاتُ حُصُونٍ ومزارعَ على مسافة 165ميلًا من المدينةِ إلى جِهَةِ الشَّامِ.
ثم قال سعدٌ: لَمَّا نزلتْ هذه الآيةُ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، أي: المُسمَّاةُ بآيةِ المُباهَلةِ، قيل: إنَّ نَصارى نَجْرانَ أَصَرُّوا على قولِهم في عيسى عليه السَّلامُ: إنَّه ابنُ اللهِ، فنَزلتْ تلك الآيةُ يَدْعوهم فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المُباهَلَةِ، فدعا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عليًّا فنزَّلَه منزلةَ نَفْسِه؛ لِما بينهما من القَرابةِ والأُخوَّةِ وفاطمةَ، أي: لأنَّها أخصُّ النِّساءِ مِن أقاربِه، وحسنًا وحسينًا فنزلهما مَنزلةَ ابْنَيه صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: "اللَّهمَّ هؤلاء أَهْلُ بَيْتي"، أي: ليَبتَهِلَ بهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمام النَّصارى.
وفي الحديثِ: بيان بعضِ فضائلِ عليٍّ رضي اللهُ عنه ومناقِبِه.
وفيه: تقديرُ الصَّحابةِ لعَليٍّ ومَعْرفتُهم لفَضْلِه.
وفيه: إقرارُ مُعاويةَ رَضِي اللهُ عَنْه لسعدٍ بعَدَمِ الردِّ أو الإنكارِ عليه.
وفيه: مُعجزةٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي مِن دلائلِ نُبوَّتِه الشَّريفةِ.