موسوعة الفرق

المطلَبُ الثَّالِثُ: من عوامِلِ أُفُولِ المَدرَسةِ الاعتِزاليَّةِ القديمةِ: آراؤُهم المنافيةُ للإسلامِ


إنَّ تأثُّرَ عَدَدٍ من رِجالِ الاعتزالِ بالآراءِ والمذاهِبِ الفَلسفيَّةِ والدِّينيَّةِ القديمةِ جعَلَهم يَصدَعون بآراءٍ تتجافى وعقيدةَ الإسلامِ البسيطةِ الواضِحةِ؛ فقد نَفَوا القَدَرَ فسُمُّوا القَدَريَّةَ، ونَفَوا صفاتِ اللهِ فسُمُّوا النُّفاةَ، وقالوا بخَلقِ القُرآنِ، ونَفَوا رؤيةَ الباري يومَ القيامةِ، بل شَكَّ بعضُهم في المحسوساتِ [1623] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 135). كُلِّها، على غِرارِ ما كان ينُادي به (بِيرُون) وفلاسِفةُ اليونانِ الشُّكَّاكُ. ونادى آخَرون بما كان يعتَقِدُه المجوسُ من عُلُوِّ النَّارِ بطِباعِها على كُلِّ شَيءٍ [1624] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 137). .
وآمَنَ بعضُهم بالطَّفرةِ، وهي انتِقالُ الجِسمِ من مكانٍ رَقْمِ 1 إلى مكانٍ رَقْمِ 3 أو رَقْمِ 10 من غيرِ مُرورٍ بالأمكِنةِ المُتَوسِّطةِ بَينَه وبَينَ العاشِرِ [1625] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 140). !
وتأثُّرُهم بالفَلسفةِ والمذاهِبِ المُلحِدةِ جعَلَهم يُقَدِّمون العقلَ على الشَّرعِ، رَغمَ ما أنكَره بعضُهم من اجتِهادِ الرَّأيِ في الأحكامِ.
وأحدَثَت مواقِفُهم هذه أزمةً حادَّةً بَينَهم وبَينَ مَصدَرِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، خاصَّةً الحديثَ؛ حيثُ حكَّموا الهوى فرَدُّوا ما يتعارَضُ وآراءَهم من الأحاديثِ، وهو أمرٌ لا يجوزُ أن يمُرَّ دونَ موقِفٍ صارِمٍ يَقِفُه رجالُ الإسلامِ المتَمَسِّكون بالقُرآنِ والسُّنَّةِ بعيدًا عن كُلِّ تأثيرٍ أجنبيٍّ.
والذي زاد الطِّينَ بِلَّةً هو استخدامُ المُعتَزِلةِ للعُنفِ لفَرضِ آرائِهم؛ فقد استغَلَّ بعضُ المُعتَزِلةِ ممَّن وصَل إلى قُلوبِ بعضِ الخُلَفاءِ العبَّاسيِّينَ، كالقاضي أحمَدَ بنِ أبي دُؤادٍ الذي عاصَر ثلاثةً منهم، هم: المأمونُ، والمعتَصِمُ، والواثِقُ، وكان له في قَلبِ كُلٍّ منهم مكانٌ وسُلطانٌ، حتَّى إنَّ المأمونَ كان قد أوصى أخاه المعتَصِمَ بملازَمةِ ابنِ أبي دُؤادٍ؛ فقد استغَلَّ نفوذَه لديهم، حتَّى إنَّه حمل الواثِقَ على أن يرسِلَ إلى القُضاةِ في سائِرِ البلادِ ليمتَحِنوا النَّاسَ في القُرآنِ، وأمَرَهم ألَّا يَقبَلوا شهادةَ من لم يَقبَلْ بآرائِهم التي يعتَقِدونَها [1626] يُنظر: ((أدب المعتزلة)) لبلبع (ص: 155). .
ولم يَتوَرَّعوا عن اغتيالِ المخالِفين لهم في الرَّأيِ؛ فقد كان (عبَّادُ بنُ سُلَيمانَ يرى قَتْلَ الغِيلةِ في مخالِفيه إذا لم يَخَفْ شَيئًا) [1627] ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/157). .
كما كانوا يَرَون الثَّورةَ والاستيلاءَ على الحُكمِ بالقُوَّةِ لفَرضِ آرائِهم؛ فهم يقولون: (إذا كُنَّا جماعةً، وكان الغالِبُ عِندَنا أنَّا نكفي مخالفينا، عَقَدْنا للإمامِ، ونهَضْنا فقَتَلْنا السُّلطانَ وأزَلْناه، وأخَذْنا النَّاسَ بالانقيادِ لقَولِنا، فإن دخَلوا في قولِنا الذي هو التَّوحيدُ وفي قولِنا في القَدَرِ، وإلَّا قتَلْناهم) [1628] ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/157). .
وهذا مخالِفٌ للشَّريعةِ التي تُحَرِّمُ سَفكَ الدِّماءِ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم بَينَكم حرامٌ )) [1629] أخرجه البُخاريُّ (67) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (1679) من حديثِ أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه. .

انظر أيضا: