موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: تَسميتُهم النَّفيَ والتَّعطيلَ تنزيهًا


المُعتَزِلةُ كالجَهميَّةِ وسائِرِ أهلِ الكلامِ، يُعَبِّرون عن ضلالتِهم بعباراتٍ مُوهِمةٍ أو مقلوبةٍ، فكما سَمَّوا إنكارَ القَدَرِ عَدلًا، والتَّعطيلَ توحيدًا، والسَّيفَ والخُروجَ أمرًا بالمعروفِ ونهيًا عن المُنكَرِ- كذلك يُسَمُّون نفيَ صِفاتِ اللهِ وأفعالِه تنزيهًا، ويُسَمُّونَ الصِّفاتِ أبعاضًا وأعراضًا وأجسامًا، وجوارِحَ وحُدودًا وغاياتٍ وجِهاتٍ، ويُسَمُّون أفعالَ اللهِ تعالى حوادِثَ، فيقولون: إنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عن الأعراضِ والأبعاضِ والحوادِثِ والحدودِ، ومقصودُهم نفيُ الصِّفاتِ، ونفيُ الأفعالِ، ونفيُ مباينتِه للخَلقِ وعُلُوِّه على العرشِ، وكانوا يُعَبِّرون عن مذاهِبِ أهلِ الإثباتِ أهلِ السُّنَّةِ بالعباراتِ المجمَلةِ التي تُشعِرُ النَّاسَ بفسادِ المَذهَبِ؛ فإنَّهم إذا قالوا: "إنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عن الأعراضِ" لم يكُنْ في ظاهِرِ هذه العباراتِ ما يُنكَرُ؛ لأنَّ النَّاسَ يَفهَمون من ذلك أنَّه مُنَزَّهٌ عن الاستحالةِ والفَسادِ، كالأعراضِ التي تَعرِضُ لبني آدَمَ من الأمراضِ والأسقامِ، ولا ريبَ أنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عن ذلك، ولكِنْ مَقصودُهم أنَّه ليس له عِلمٌ، ولا قدرةٌ، ولا حياةٌ، ولا كلامٌ قائمٌ به، ولا غيرُ ذلك من الصِّفاتِ التي يُسَمُّونَها أعراضًا!
وكذلك إذا قالوا: "إنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عن الحُدودِ والأحيازِ والجِهاتِ" أوهموا النَّاسَ أنَّ مقصودَهم بذلك ألَّا تَحصُرَه المخلوقاتُ، ولا تحوزَه المصنوعاتُ، وهذا المعنى صحيحٌ، ومقصودُهم أنَّه ليس مبايِنًا للخَلقِ ولا مُنفَصِلًا عنه، وأنَّه ليس فوقَ السَّمواتِ رَبٌّ، ولا على العَرشِ إلهٌ، وأنَّ محمَّدًا لم يُعرَجْ به إليه، ولم يَنزِلْ منه شيءٌ، ولا يَصعَدُ إليه شيءٌ، ولا يتقَرَّبُ إليه شيءٌ، ولا يتقَرَّبُ إلى شيءٍ، ولا تُرفَعُ إليه الأيدي في الدُّعاءِ ولا غيرِه، ونحوُ ذلك من معاني الجَهميَّةِ!
وإذا قالوا: "إنَّه ليس بجِسمٍ" أوهموا النَّاسَ أنَّه ليس كالمخلوقاتِ، وهذا المعنى صحيحٌ، ولكِنْ مقصودُهم بذلك ألَّا يُرى، ولا يتكَلَّمَ بنَفسِه، ولا يقومَ به صِفةٌ، ولا هو مبايِنٌ للخَلقِ، وأمثالُ ذلك [1598] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (2/ 10 -11). .
وهذا الاتِّجاهُ هو ما استقَرَّ عليه مَذهَبُ الأشاعرةِ مُنذُ عَهدِ ابنِ فُورَكٍ والجُوَينيِّ والرَّازيِّ، بل إنَّ الرَّازيَّ وَضَع من القواعِدِ والأُسُسِ لهذا الاتِّجاهِ ما لم تتوصَّلْ إليه المُعتَزِلةُ [1599] يُنظر: كتابه: ((أساس التقديس)). .

انظر أيضا: