موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: مَوقِفُ المُعتَزِلةِ من الحِكمةِ والتَّعليلِ


يرى المُعتَزِلةُ أنَّه لا يجوزُ أن يخلوَ فِعلٌ من أفعالِه تعالى من حِكمةٍ وغَرَضٍ، وقالوا: (قد قام الدَّليلُ على أنَّه تعالى حكيمٌ، والحكيمُ مَن تكونُ أفعالُه على إحكامٍ وإتقانٍ، ولا يَصِحُّ أن يفعَلَ فِعلًا جُزافًا لا لفائدةٍ وغايةٍ، بل لا بُدَّ أن يُريدَ غرَضًا ويقصِدَ صَلاحًا) [1588] ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتاني (ص400). .
كما قالوا: إنَّ من يفعَلُ لا لغَرَضٍ يُعَدُّ عابثًا، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن العَبَثِ.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ اللهَ سُبحانَه ابتدأ الخَلقَ لعِلَّةٍ، نريدُ بذلك وَجهَ الحِكمةِ الذي له حَسُن منه الخَلقُ، فيَبطُلُ على هذا الوجهِ قَولُ من قال: إنَّه تعالى خلَق الخَلقَ لا لعِلَّةٍ؛ لِما فيه من إيهامِ أنَّه خلَقهم عبَثًا، لا لوَجهٍ تقتضيه الحِكمةُ. وذلك ظاهِرٌ في الشَّاهدِ؛ لأنَّ الواحِدَ إذا أراد النَّيلَ من غيرِه قال عنه: إنَّه يفعَلُ الأفعالَ لا لعِلَّةٍ ولا لمعنًى، فيقومُ هذا القولُ مَقامَ أن يقالَ: إنَّه يَعبَثُ في أفعالِه، وإذا به في المدحِ يقولُ: إنَّ فُلانًا يفعَلُ أفعالَه لعِلَّةٍ صحيحةٍ ولمعنًى حَسَنٍ) [1589] ((المغني في أبواب العدل)) (11/92، 93). .
الفَرقُ بَينَ موقِفِ المُعتَزِلةِ والسَّلَفِ فيما يتعلَّقُ بالحِكمةِ والتَّعليلِ:
هناك فَرقٌ بَينَ مَوقِفِ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وبَينَ المُعتَزِلةِ في ذلك، رَغمَ أنَّ الجميعَ يُثبِتون تعليلَ أفعالِ اللهِ تعالى، ومن ذلك:
1- الحِكمةُ عِندَ السَّلَفِ صِفةٌ للهِ غيرُ مخلوقةٍ، لكِنَّها عِندَ المُعتَزِلةِ مخلوقةٌ مُنفَصِلةٌ، وهي تعودُ على العِبادِ، ولا يعودُ إليه منها حُكمٌ.
(فالمقصودُ بالحِكمةِ عِندَهم: إحسانُه إلى الخَلقِ ومراعاةُ مصالحِهم، كما أنَّ الحِكمةَ في الأمرِ تعويضُ المُكَلَّفينَ بالثَّوابِ) [1590] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/89). .
وقالوا: الحكيمُ لا يفعَلُ إلَّا لينتَفِعَ أو ينفَعَ غَيرَه، ولَمَّا تقدَّس تعالى عن الانتفاعِ تعيَّن أنَّه إنَّما يفعَلُ لينفَعَ العبادَ، فلا يخلو فِعلٌ من أفعالِه من صلاحٍ [1591] يُنظر: ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتاني (ص: 397- 398). .
وقد ردَّ عليهم السَّلَفُ في هذا القولِ، وقالوا: إنَّ اللهَ حكيمٌ، والحكيمُ من له الحِكمةُ، فهي صفةٌ له تعالى غيرُ مخلوقةٍ.
وقال ابنُ تيميَّةَ في الرَّدِّ على المُعتَزِلةِ في قولِهم بأنَّ الحِكمةَ لا يعودُ إليه تعالى منها حُكمٌ، ولا قام به فِعلٌ ولا نعتٌ: (أنتم أيُّها المُعتَزِلةُ مُتناقِضون في هذا القولِ؛ لأنَّ الإحسانَ إلى الغيرِ محمودٌ؛ لكونِه يعودُ منه على فاعِلِه حُكمٌ يُحمَدُ لأجلِه؛ إمَّا لتكميلِ نفسِه بذلك، وإمَّا لقصدِه الحَمدَ والثَّوابَ بذلك، وإمَّا لرِقَّةٍ وألمٍ يجِدُه في نفسِه يدفَعُ بالإحسانِ ذلك الألمَ، وإمَّا لالتِذاذِه وسرورِه وفَرَحِه بالإحسانِ؛ فإنَّ النَّفسَ الكريمةَ تَفرَحُ وتُسَرُّ وتلتَذُّ بالخيرِ الذي يحصُلُ منها إلى غيرِها، فالإحسانُ إلى الغيرِ محمودٌ؛ لكونِ المحسِنِ يعودُ إليه مِن فِعلِه هذه الأمورَ حُكمٌ يُحمَدُ لأجلِه. أمَّا إذا قُدِّرَ أنَّ وجودَ الإحسانِ وعَدَمَه بالنِّسبةِ إلى الفاعِلِ سواءٌ، لم يعلَمْ أنَّ مِثلَ هذا الفِعلِ يَحسُنُ منه، بل مِثلُ هذا يُعَدُّ عَبَثًا في عقولِ العُقلاءِ، وكُلُّ منَ فعَل فِعلًا ليس فيه لنَفسِه لَذَّةٌ ولا مَصلَحةٌ ولا مَنفَعةٌ -بوَجهٍ من الوُجوهِ- لا عاجِلةٌ ولا آجِلةٌ، كان عَبَثًا، ولم يكُنْ محمودًا على هذا.
وأنتم عَلَّلْتُم أفعالَه فِرارًا من العَبَثِ، فوقَعتُم في العَبَثِ؛ فإنَّ العَبَثَ هو الفِعلُ الذي ليس فيه مَصلَحةٌ ولا مَنفَعةٌ ولا فائِدةٌ تعودُ على الفاعِلِ) [1592] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (ص: 119- 120). .
2- أوجَب المُعتَزِلةُ على اللهِ تعالى بمُقتضى الحِكمةِ أُمورًا، ومنَعوا عليه أمورًا؛ لمُخالفتِها لمقتضى الحِكمةِ، فمِمَّا أوجبوا عليه فِعلُ الصَّلاحِ، وأوجب بعضُهم الأصلَحَ للعبادِ، كما أوجبوا اللُّطفَ وإثابةَ المُطيعِ، ومعاقبةَ العاصي، والعِوَضَ عن الآلامِ.
ولم يوافِقْهم السَّلَفُ على إيجابِ هذه المذكوراتِ؛ لأنَّه لا يجِبُ عليه تعالى إلَّا ما أوجبه على نَفسِه.
قال ابنُ تيميَّةَ في هذا المقامِ: (وأمَّا الإيجابُ عليه سُبحانَه وتعالى، والتَّحريمُ بالقياسِ على خَلقِه: فهذا قَولُ القَدَريَّةِ، وهو قولٌ مُبتَدَعٌ مخالِفٌ لصحيحِ المنقولِ وصريحِ المعقولِ) [1593] ((اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)) (ص: 409-410). .
3- إطلاقُ المُعتَزِلةِ لَفظَ "الغَرَضِ" بمعنى الحِكمةِ في حَقِّ اللهِ تعالى. وتسميةُ الحِكمةِ غَرَضًا لا يوافِقُ عليه السَّلَفُ.

انظر أيضا: