موسوعة الفرق

المَطلَبُ الخامسُ: مِن مَضارِّ الفُرقةِ وآثارِها على الفردِ: البُعدُ عن التَّوبةِ، واستِدراجُه في معصيتِه


عن يحيى بن أبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ قال: (كان يُقالُ: يأبى اللهُ لصاحِبِ بِدعةٍ توبةً، وما ينتقِلُ صاحِبُ بِدعةٍ إلَّا إلى شرٍّ منها) [244] يُنظر: ((ما جاء في البدع)) لابن وضاح (ص: 117). .
وتصديقُ ذلك ما قاله رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الخوارِجِ: ((يَمرُقونَ مِن الدِّينِ مُروقَ السَّهمِ مِن الرَّميَّةِ، ثُمَّ لا يعودونَ فيه حتَّى يعودَ السَّهمُ إلى فُوقِه )) [245] أخرجه البخاري (7562) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال القُرطُبيُّ: (مقصودُ هذا التَّمثيلِ: أنَّ هذه الطَّائِفةَ خرجَت مِن دينِ الإسلامِ، ولم يتعلَّقْ بها منه شيءٌ، كما خرَج هذا السَّهمُ مِن هذه الرَّميَّةِ، الذي لشِدَّةِ النَّزعِ وسُرعةِ السَّهمِ سبَق خُروجُه خُروجَ الدَّمِ، بحيثُ لا يتعلَّقُ به شيءٌ ظاهِرٌ) [246] ((المفهم)) (3/ 110). .
وعن مُعاوِيةَ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((وإنَّه سيخرُجُ في أمَّتي أقوامٌ تَجارَى بهم تلك الأهواءُ كما يَتَجارى الكَلَبُ بصاحِبِه، لا يبقى منه عِرقٌ ولا مَفصِلٌ إلَّا دخَله )) [247] أخرجه أبو داود (4597)، وأحمد (16937). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4597)، وحسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4597)، وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/137): محفوظٌ. .
قال الدِّهْلَويُّ: (المُرادُ سِرايةَ الأهواءِ في عُروقِهم ومفاصِلِهم، كما يسري الكَلَبُ بصاحِبِه، والكَلَبُ، بفَتحِ اللَّامِ: داءٌ يعتري الإنسانَ مِن عضِّ الكَلْبِ الكَلِبِ، والكَلِبُ، بكَسرِ اللَّامِ: الكَلْبُ الذي يأخُذُه شِبهُ جُنونٍ فيَكلَبُ، أي: يأكُلُ لُحومَ النَّاسِ، فإذا عقَر إنسانًا يستولي عليه شِبهُ المالِيخُوليا، لا يكادُ يُبصِرُ الماءَ، وإذا أبصَره فزِع، وربَّما مات عَطَشًا ولم يشرَبْ، وهذه عِلَّةٌ تُستفرَغُ مادَّتُها على سائِرِ البَدنِ، وتسري في العُروقِ والمفاصِلِ، وتتولَّدُ منها أعراضٌ رديَّةٌ، وإذا عضَّ هذا الشَّخصُ غَيرَه عدا إليه، وإنَّما شبَّه حالَهم بحالِ صاحِبِ الكَلَبِ لاستيلاءِ الأهواءِ عليهم استيلاءَ تلك العِلَّةِ على صاحِبِها وسِرايتِها فيه، ولِما فيه مِن المضرَّةِ المُعدِيةِ، ولتُنفِّرَهم مِن العِلمِ وامتِناعِهم مِن قَبولِه معَ شِدَّةِ مِساسِ حاجتِهم إليه حتَّى يَهلِكوا جَهلًا في مَهواةِ البِدعةِ وتِيهِ الضَّلالِ) [248] ((لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح)) (1/ 496). .
قال الشَّاطِبيُّ: (سببُ بُعدِه عن التَّوبةِ أنَّ الدُّخولَ تَحتَ تكاليفِ الشَّريعةِ صعبٌ على النَّفسِ؛ لأنَّه أمرٌ مُخالِفٌ للهوى، وصادٌّ عن سبيلِ الشَّهواتِ، فيثقُلُ عليها جدًّا؛ لأنَّ الحقَّ ثقيلٌ، والنَّفسُ إنَّما تنشَطُ بما يُوافِقُ هواها لا بما يُخالِفُه، وكُلُّ بِدعةٍ فللهوى فيها مدخَلٌ؛ لأنَّها راجِعةٌ إلى نَظرِ مُخترِعِها لا إلى نَظرِ الشَّارِعِ، فعلى حُكمِ التَّبَعِ لا بحُكمِ الأصلِ معَ ضَميمةٍ أخرى: وهي أنَّ المُبتدِعَ لا بُدَّ له مِن تعلُّقٍ بشُبهةِ دليلٍ ينسُبُها إلى الشَّارِعِ، ويدَّعي أنَّ ما ذكَره هو مقصودُ الشَّارِعِ، فصار هواه مقصودًا بدليلٍ شرعيٍّ في زَعمِه، فكيف يُمكِنُه الخُروجُ عن ذلك؟ وداعي الهوى مُستمسِكٌ بحُسنِ ما يتمسَّكُ به، وهو الدَّليلُ الشَّرعيُّ في الجُملةِ) [249] ((الاعتصام)) (ص: 100). .
وينبغي أن نعلَمَ أنَّ هذه النُّصوصَ لا تدُلُّ على أنْ لا توبةَ أصلًا للمُبتدِعِ المُفارِقِ للجماعةِ، بل قد يتوبُ ويرجِعُ إلى السُّنَّةِ والجماعةِ، وقد تاب كثيرٌ مِن أهلِ البِدَعِ كما هو معلومٌ؛ فالعُمومُ في الحديثِ ليس عُمومًا بإطلاقٍ يقتضي الشُّمولَ، بل هو عُمومٌ أغلَبيٌّ يقتضي الأكثريَّةَ [250] يُنظر: ((الاعتصام)) (ص: 526). .
وأغلَبُ مَن تُحجَبُ عنهم التَّوبةُ، وتكونُ بعيدةَ المنالِ عنه: مَن قد أُشرِب قَلبُه بهذه البِدعةِ، وأُعجِب برأيِه وفِعلِه، وظنَّ أنَّه يتقرَّبُ بذلك إلى اللهِ، فأخَذ يدعو النَّاسَ إلى بِدعتِه، ويُوالي ويُعادي على ذلك، فهذا بحقٍّ يتَجارى به الهوى كما يتَجارى الكَلَبُ بصاحِبِه [251] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (ص: 100، 523 -534). .
ولقد توعَّد اللهُ سبحانَه هذا المُفارِقَ للجماعةِ المُعجَبَ ببِدعتِه، توعَّده باستِدراجِه على عَملِه؛ حيثُ قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] .

انظر أيضا: