موسوعة الفرق

المَبحَثُ التَّاسِعُ: مِن منهَجِ المُعتَزِلةِ في التَّعامُلِ معَ اللُّغةِ العربيَّةِ لتقريرِ عقائِدِها: ردُّ معاني المدلولاتِ اللُّغويَّةِ الشَّرعيَّةِ بالأساليبِ البلاغيَّةِ المُستحدَثةِ


وهذا أيضًا بابٌ مشهورٌ لدى المُعتَزِلةِ، تمكَّنوا خلالَه مِن التَّحكُّمِ في معاني النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وتوجيهِها حسَبَ الطَّلبِ الاعتِقاديِّ لديهم، بداعي المجازِ والتَّشبيهِ، والكِنايةِ، والاستِعارةِ، والمُبالَغةِ، والتَّجانُسِ، ونَحوِ ذلك.
ويُعدُّ الأخفَشُ والجاحِظُ أوَّلَ مَن افتتَحا هذا البابَ، فأوَّلا آياتِ الصِّفاتِ بداعي المجازِ، وتصرَّفا في ذلك تصرُّفًا عجيبًا؛ فِرارًا مِن إثباتِ أيِّ صفةٍ للمولى عزَّ وجلَّ [1477] يُنظر: ((معاني القرآن)) للأخفش (1/47-48، 54-56)، ((رسائل الجاحظ)) للجاحظ (3/344-346). .
ثُمَّ تتابَع عليه لُغويُّو المُعتَزِلةِ كالرُّمَّانيِّ وغَيرِه، واشتَهر فيما بَينَهم، حتَّى عقَد ابنُ جنِّي في كتابِه الخصائِصِ بابًا سمَّاه "بابَ ما يُؤمِنُه عِلمُ العربيَّةِ مِن الاعتِقاداتِ الدِّينيَّةِ"، فذكَر فيه جُملةً مِن الآياتِ القرآنيَّةِ الدَّالَّةِ على بعضِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ، وأوَّلها بالمجازِ بَعدَ أن تهكَّم على أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ووصَمهم بالتَّشبيهِ، وقلَّةِ الفَهمِ للُّغةِ العربيَّةِ! ثُمَّ قال: (وطريقُ ذلك أنَّ هذه اللُّغةَ أكثَرُها جارٍ على المجازِ، وقلَّما يخرُجُ الشَّيءُ منها على الحقيقةِ، فلمَّا كانت كذلك، وكان القومُ الذين خوطِبوا بها أعرَفَ النَّاسِ بسَعةِ مذاهِبِها، وانتِشارِ أنحائِها؛ جرى خِطابُهم بها مجرى ما يألَفونَه ويعتادونَه منها، وفهِموا أغراضَ المُخاطَبِ لهم بها على حسَبِ عُرفِهم وعادتِهم في استِعمالِهم) [1478] ((الخصائص)) (3/245-255). .
وقد قسَّم الرُّمَّانيُّ البلاغةَ إلى عَشَرةِ أقسامٍ في كتابِه (النُّكَتُ في إعجازِ القرآنِ)، ومثَّل لذلك بالآياتِ القرآنيَّةِ، وجعَل مِن تلك الأقسامِ التَّجانُسَ، وجعَل فيه الصِّفاتِ الوارِدةَ للهِ على وَجهِ المُقابَلةِ، مِثلُ الاستِهزاءِ والمُخادَعةِ، فذكَر أنَّها استُعيرَت في حقِّ المولى للدَّلالةِ على الجزاءِ، ومُزاوجةِ الكلامِ، وليست على الحقيقةِ [1479] ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص: 99). ، ثُمَّ جعَل من الأقسامِ: المُبالَغةَ، فقسَّمها إلى ثلاثةِ أضرُبٍ: ثُمَّ قال: (الضَّربُ الثَّاني: المُبالَغةُ بالصِّيغةِ العامَّةِ في موضِعِ الخاصَّةِ، كقولِه تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام: 101] ، وكقولِ القائِلِ: أتاني النَّاسُ، ولعلَّه لا يكونُ أتاه إلَّا خمسةٌ فاستكثَرهم، وبالَغ في العِبارةِ عنهم) [1480] ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص: 104). .
ثُمَّ قال: (الضَّربُ الثَّالثُ: إخراجُ الكلامِ مَخرَجَ الإخبارِ عن الأعظَمِ الأكبَرِ للمُبالَغةِ، كقولِ القائِلِ: جاء الملَكُ: إذا جاء جيشٌ عظيمٌ له، ومنه قولُه عزَّ وجلَّ: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ؛ فجعَل مجيءَ دلائِلِ الآياتِ مجيئًا له على المُبالَغةِ في الكلامِ، ومنه: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل: 26] ، أي أتاهم بعظيمِ بأسِه؛ فجعَل ذلك إتيانًا له على المُبالَغةِ، ومنه قولُه تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143] ) [1481] ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص: 104-105). .
وهكذا استخدَم الرُّمَّانيُّ الأساليبَ البلاغيَّةَ لخِدمةِ مُعتقداتِه؛ فنفى الصِّفاتِ الإلهيَّةَ بها، ودفَع خَلْقَ اللهِ لأفعالِ العِبادِ بها.
وللشَّريفِ الرَّضيِّ كتابانِ في البلاغةِ هُما (تلخيصُ البيانِ في مجازاتِ القرآنِ)، و(المجازاتُ النَّبويَّةُ)، استخدَمها لنَفيِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ في القرآنِ والأحاديثِ.
أمَّا الزَّمَخشَريُّ فحدِّثْ عنه ولا حَرجَ؛ فـ (الكشَّافُ) يُعتبَرُ عندَ جمهورِ البلاغيِّينَ مَرجِعًا مُهمًّا مِن مراجِعِ البلاغةِ القرآنيَّةِ، وقد استطاع بدَهاءٍ أن يجعلَ تحليلاتِه البلاغيَّةَ للآياتِ في خِدمةِ عقيدتِه الاعتزاليَّةِ، وممَّن ردَّ عليه في كثيرٍ مِن توجيهاتِه البلاغيَّةِ بهاءُ الدِّينِ أحمَدُ بنُ عليٍّ السُّبكيُّ في كتابِه (عروسِ الأفراحِ في شرحِ تلخيصِ المِفتاحِ) [1482] يُنظر: ((المدخل إلى دراسة بلاغة أهل السنة)) للصامل (ص: 49-51، 102-108). ((عروس الأفراح)) طُبِع ضِمنَ شُروحِ "تلخيص المِفتاح" للخطيبِ القَزوينيِّ. والمفتاحُ هو: مفتاحُ العُلومِ، للسَّكَّاكي. ، وانتصَر فيه لمذهَبِه الأشعَريِّ، كما أنَّ لابنِ المُنَيِّرِ رُدودًا لُغويَّةً وبلاغيَّةً على الزَّمَخشَريِّ في (الانتِصافِ مِن الكشَّافِ).
قال ابنُ تيميَّةَ: (يجتهِدونَ في تأويلِ هذا الأقوالِ إلى ما يُوافِقُ رأيَهم بأنواعِ التَّأويلاتِ التي يحتاجونَ فيها إلى إخراجِ اللُّغاتِ عن طريقتِها المعروفةِ، وإلى الاستِعانةِ بغرائِبِ المجازاتِ والاستِعاراتِ) [1483] ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/12). .

انظر أيضا: