موسوعة الفرق

المَبحَثُ الخامسُ: مِن منهَجِ المُعتَزِلةِ في التَّعامُلِ معَ اللُّغةِ العربيَّةِ لتقريرِ عقائِدِها: التَّصرُّفُ في معاني النُّصوصِ بالوُجوهِ الإعرابيَّةِ، والقِراءاتِ الشَّاذَّةِ


فمِثالُ الأوَّلِ: ما ورَد في قولِ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف: 28] ؛ فإنَّ الجُمهورَ على إسنادِ الفِعلِ لـ "أنا"، وهو ضميرُ العَظَمةِ العائِدُ إليه سُبحانَه، و"قَلْبَه" بالفَتحِ مفعولٌ به، كما عليه القِراءةُ المُتواتِرةُ، على معنى: جعَلْناه غافِلًا؛ فالإغفالُ فِعلُ اللهِ في العبدِ بمشيئتِه وإرادتِه [1449] يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (4/1380)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 139، 181، 208). .
وخالَفَت المُعتَزِلةُ، فزعَموا أنَّ المعنى: وجدْناه، أو صادَفْناه كذلك، أو نسبْناه إلى الغَفلةِ، أو سمَّيناه غافِلًا، لا أنَّ اللهَ فعَل به ذلك، واستنَدوا إلى قراءةٍ شاذَّةٍ لعَمرِو بنِ عُبَيدٍ، وعَمرِو بنِ فائِدٍ وموسى بنِ سيَّارٍ الأَسْواريَّينِ في الآيةِ، بفَتحِ اللَّامِ في (أَغْفَلَنَا)، ورَفعِ الباءِ في (قَلْبُهُ) على أنَّه فاعِلٌ، بمعنى: مَن نَسِيَنا قَلبُه فأصبَح غافِلًا عنَّا، قالوا: هو المُتعيِّنُ؛ لأنَّ اللهَ عادِلٌ، ولا يفعَلُ القبيحَ؛ فهو مُنزَّهٌ عنه [1450] يُنظر: ((المحتسب)) لابن جني (2/28)، ((تلخيص البيان في مجازات القرآن)) للرضي (ص: 144-145)، ((الكشاف)) للزمخشري (2/388)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 139). .
قال الزَّمَخشَريُّ وهو ينصُرُ هذا التَّفسيرَ بَعدَ أن ذكَره: (قد أبطَل اللهُ توهُّمَ المُجْبرةِ بقولِه: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وقُرِئ: (أَغْفَلَنَا قَلْبَهُ) بإسنادِ الفِعلِ للقلبِ، على معنى: حَسِبنا قَلبَه غافِلًا، مِن أغفَلْتُه: إذا وجَدْتَه غافِلًا) [1451] ((الكشاف)) (2/388). .
ومثالُ الثَّاني: قراءةُ عَمرِو بنِ عُبَيدٍ وعَمرِو بنِ فائِدٍ وبعضِ المُعتَزِلةِ لقولِ اللهِ تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: 2] بالتَّنوينِ والنَّفيِ [1452] يُنظر: ((إعراب القراءات الشواذ)) للعكبري (2/160)، ((البحر المحيط)) لأبي حيان (8/530)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي بن أبي طالب (2/855). ، مُخالِفينَ قِراءةَ الجماهيرِ بالإضافةِ، واعتِبارِ مَا موصوليَّةً، قال ابنُ عطيَّةَ: (هي قراءةٌ مردودةٌ مبنيَّةٌ على مذهَبٍ باطِلٍ) [1453] ((المحرر الوجيز)) (15/385). .
وكذلك تأييدُ ابنِ جنِّي لقراءةٍ منسوبةٍ لإبراهيمَ النَّخَعيِّ في قولِ اللهِ تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] بنصبِ "الله"، فقال: (يشهَدُ لهذه القِراءةِ قولُه عزَّ وجلَّ حِكايةً عن موسى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ، وغَيرُه مِن الآيِ التي فيها كلامُه للهِ تعالى) [1454] ((المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)) (1/204). .
والحامِلُ لهم على هذا الإعرابِ، ومُخالَفةِ القِراءاتِ المُتواتِرةِ: هو ما تدُلُّ عليه آيةُ "سورةِ الكهفِ" مِن خَلقِ اللهِ أفعالَ العِبادِ، وآيةُ "سورةِ النَّاسِ" مِن خَلقِ اللهِ للشَّرِّ، وهُم لا يقولونَ بذلك، وما تدُلُّ عليه آيةُ "سورةِ النِّساءِ" مِن إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ سُبحانَه؛ فاضطُرُّوا إلى الإعرابِ الشَّاذِّ في الموضِعِ الأوَّلِ، وإلى القراءةِ الشَّاذَّةِ في الموضِعَينِ الثَّاني والثَّالثِ [1455] يُنظر: ((الدر المصون)) للحلبي (7/475-476)، ((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (12/471)، ((الانتصاف من الكشاف)) لابن المُنَيِّر (2/388). .

انظر أيضا: