موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّالثُ: موقِفُ المُعتَزِلةِ مِن الإجماعِ والقِياسِ


يُعَدُّ الإجماعُ والقياسُ مِن المصادِرِ الأساسيَّةِ للتَّشريعِ الإسلاميِّ بَعدَ القرآنِ والسُّنةِ؛ ذلك أنَّ الشَّريعةَ إنَّما تَستمِدُّ شرعيَّتَها وأحكامَها مِن اللهِ تعالى؛ إمَّا بطريقٍ مُباشِرةٍ وهي القرآنُ، أو غَيرِ مُباشِرةٍ وهي سنَّةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المقبولةِ، صحيحةً وحَسنةً، ثُمَّ الإجماعُ والقِياسُ اللَّذانِ يستنِدانِ إلى القرآنِ والسُّنَّةِ.
وقد عرَّف العُلماءُ القِياسَ بأنَّه إلحاقُ أمرٍ غيرِ منصوصٍ على حُكمِه بأمرٍ آخَرَ منصوصٍ على حُكمِه؛ لاشتِراكِهما في علَّةِ الحُكمِ [1417] يُنظر: ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) لأبي زهرة (2/154). ، أو هو الحُكمُ للنَّظيرِ بحُكمِ نظيرِه إذا كان في معناه، والحُكمُ للفَرعِ بحُكمِ أصلِه إذا قامت فيه العلَّةُ التي مِن أجْلِها وقَع الحُكمُ [1418] يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/92). .
والقياسُ مأخوذٌ مِن أكثَرَ مِن آيةٍ في القرآنِ الكريمِ، وقد قال اللهُ تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] ، والاستِنباطُ هو الاستِخراجُ، وهو بالقياسِ؛ لأنَّ النَّصَّ ظاهِرٌ [1419] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (17/62). .
وكذلك مأخوذٌ مِن قياسِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أكثَرَ مِن حُكمٍ، وقد عقَد البُخاريُّ في جامِعِه الصَّحيحِ بابًا ترجَم له بقولِه: (بابُ مَن شبَّه أصلًا معلومًا بأصلٍ مُبهَمٍ)، أورَد فيه عددًا مِن الأحاديثِ التي تُثبِتُ قياسَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّريحَ [1420] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (17/59). .
أمَّا الإجماعُ: فهو إجماعُ عُلماءِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ على أمرٍ فيُصبِحُ بذلك حُكمًا شرعيًّا، والإجماعُ مأخوذٌ مِن قولِ اللهِ تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] ، وقولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يجمَعُ أمَّتي -أو قال: أمَّةَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على ضلالةٍ، ويدُ اللهِ معَ الجماعةِ )) [1421] أخرجه التِّرمذي (2167) واللَّفظُ له، والحاكم (397) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2167)، وصَحَّح معناه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/27)، وذكَر الحاكِمُ أنَّ فيه: المعتَمِرَ بنَ سُلَيمانَ؛ رُوِي عنه هذا الحديثُ بأسانيدَ يَصِحُّ بمِثلِها الحديثُ، فلا بدَّ من أن يكونَ له أصلٌ بأحَدِ هذه الأسانيدِ. .
والعملُ بالقياسِ معلومٌ عندَ عُلماءِ الأمَّةِ، وقد ساروا عليه قديمًا وحديثًا؛ حتَّى حدَث أنَّ إبراهيمَ النَّظَّامَ وقومًا مِن المُعتَزِلةِ سلَكوا طريقَه: نَفَوا القياسَ [1422] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 132)، ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) للسباعي (ص: 206). ، وخالَفوا ما مضى عليه السَّلفُ، واتَّبَعهم مِن أهلِ السُّنَّةِ على نَفيِ القياسِ في الأحكامِ داودُ بنُ عليِّ بنِ خَلفٍ الأصبَهانيُّ الظَّاهِريُّ.
أمَّا النَّظَّامُ فقد ردَّ حُجِّيَّةَ الإجماعِ والقياسِ معًا؛ لأنَّ الحُجَّةَ عندَه تنحصِرُ في قولِ الإمامِ المعصومِ؛ تأسِّيًا بما يذهَبُ إليه بعضُ الشِّيعةِ الذين جعَلوا الدِّينَ طاعةَ رجُلٍ واحدٍ، وهو إمامُهم [1423] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/147، 154، 180). .
وقد تصدَّى جمعٌ مِن المُعتَزِلةِ أنفُسِهم للرَّدِّ على النَّظَّامِ؛ مِن أمثالِ بِشرِ بنِ المُعتمِرِ شيخِ البغداديِّينَ ورئيسِهم، وأبي الهُذَيلِ العلَّافِ، وهُما مِن رُؤَساءِ المُعتَزِلةِ وأهلِ الكلامِ، وكانا أشَدَّ النَّاسِ نُصرةً للقِياسِ واجتِهادِ الرَّأيِ في الأحكامِ، وقد قمَعا أبا الهُذَيلِ وأصحابَه [1424] يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/77)، ((فتح الباري)) لابن حجر (17/59). .
كما خلَفه بِشرُ بنُ غِياثٍ المِرِّيسيُّ، وهو فقيهٌ مُعتَزِليٌّ عارِفٌ بالفلسفةِ يُرمى بالزَّندَقةِ [1425] يُنظر: ((الأعلام)) للزِّرِكْلي (2/28). ، والقولِ بخَلقِ القرآنِ، أخَذ الفِقهَ عن القاضي أبي يوسُفَ، وكان مِن المُغرِقينَ في القياسِ النَّاصِرينَ له الدَّائِنينَ به [1426] يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/78). ، وإن كان لا يرى الإجماعَ.
أمَّا موقِفُهم مِن الإجماعِ فيكادُ يكونُ مُتَّحِدًا حولَ ردِّه، وعندَهم الإجماعُ غَيرُ مُرتَبطٍ بالعدَدِ؛ فهو عندَ عبدِ الجبَّارِ ينطبِقُ حتَّى على الفردِ الواحِدِ [1427] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) (ص: 186). ، مُستشهِدًا على رأيِه هذا بما ينسُبُه لابنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه: (الجماعةُ ما وافَق طاعةَ اللهِ وإن كان رجُلًا واحِدًا) [1428] أخرجه الطبراني في ((مسند الشاميين)) (220)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (46/410) مختصرا، واللَّالَكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (160) باختلاف يسير .
وعلى هذا الأساسِ يصِفُ مَن يُخالِفُ المُعتَزِلةَ مِن المُشنِّعينَ عليهم بأنَّهم (عندَ التَّحقيقِ لا يُميِّزونَ ما يقولونَ) [1429] ((فضل الاعتزال)) (ص: 186). ، ويصِفُ أصحابَه بأنَّهم هم المُتمسِّكونَ بالسُّنَّةِ والجماعةِ دونَ هؤلاء المُشنِّعينَ عليهم [1430] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) (ص: 186). .
وفي الحقيقةِ فإنَّ الواحِدَ لا يُمكِنُ أن يكونَ إجماعًا، وإلَّا فإنَّ المفاهيمَ تُصبِحُ مقلوبةً منكوسةً، ولعلَّ في اعتِرافِ القاضي عبدِ الجبَّارِ بالإجماعِ -وهو مِن رجالِ القَرنِ الرَّابعِ وأوائِلِ الخامسِ، وقد شهِد ما لحِق المُعتَزِلةَ مِن النَّكَباتِ نتيجةَ غُلُوِّهم ومُخالفتِهم الصَّريحةِ للكثيرِ ممَّا يَدينُ به المُسلِمونَ، وممَّا هو وارِدٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ- لعلَّ في اعترافِه بحُجِّيَّةِ الإجماعِ تخفيفًا عن المُعتَزِلةِ بعضَ أوزارِهم، إلَّا أنَّ التَّوفيقَ جانَبه لمَّا عرَّف ذلك التَّعريفَ المُتجافيَ حتَّى معَ المعنى اللُّغويِّ للإجماعِ فضلًا عن معناه الاصطِلاحيِّ.
أمَّا النَّظَّامُ فإنَّه أبطَل صراحةً حُجِّيَّةَ الإجماعِ، وذهَب إلى تجويزِ إجماعِ الأمَّةِ في جميعِ الأعصارِ على الخطأِ مِن جهةِ الرَّأيِ والاستِدلالِ [1431] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 143 – 319 - 328). ويُنظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 18)، ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) للسباعي (ص: 203). .
ويستدِلُّ على رأيِه هذا فيقولُ: (ومِن ذلك إجماعُهم على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُعِث إلى النَّاسِ كافَّةً دونَ جميعِ الأنبِياءِ، وليس كذلك. وكُلُّ نبيٍّ في الأرضِ بعَثه اللهُ تعالى فإلى جميعِ الخَلقِ بعَثَه؛ لأنَّ آياتِ الأنبِياءِ لشُهرتِها تبلُغُ آفاقَ الأرضِ، وعلى كُلِّ مَن بلَغه ذلك أن يُصدِّقَه ويتَّبِعه) [1432] ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 18). .
وهذه الحُجَّةُ تتنافى معَ قولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قومِه خاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كافَّةً )) [1433] أخرجه البُخاريُّ (438) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (521) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وقد خالَف النَّظَّامُ إجماعَ الأمَّةِ على وُجوبِ الوُضوءِ مِن النَّومِ، وابتدَع القولَ بأنَّ النَّومَ لا ينقُضُ الوُضوءَ، وعلَّل مُخالَفتَه هذه بقولِه: (إنَّما أجمَع النَّاسُ على الوُضوءِ مِن نومِ الضِّجعةِ؛ لأنَّهم كانوا يرَونَ أوائِلَهم إذا قاموا بالغَداةِ مِن نومِ اللَّيلِ تطهَّروا؛ لأنَّ عاداتِ النَّاسِ الغائِطُ والبولُ مِن الصُّبحِ، ولأنَّ الرَّجلَ يستيقظُ وبعَينِه رَمَصٌ وبِفِيه خُلوفٌ، وهو مُتهيِّجُ الوَجهِ، فيتطهَّرُ للحَدَثِ والنَّشرةِ لا للنَّومِ) [1434] ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 19). .
والنَّومُ خِلافًا لِما يذهَبُ إليه النَّظَّامُ ينقُضُ الوُضوءَ، لا سيَّما إذا لم يكنْ نَعسةً أو خَفقةً خفيفةً، وقد عقَد البُخاريُّ في جامِعِه بابًا ترجَم له بقولِه: بابُ الوُضوءِ مِن النَّومِ [1435] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/325). ، أورَد فيه أحاديثَ كثيرةً تُثبِتُ تلك التَّرجمةَ.
وخالَف النَّظَّامُ إجماعَ الأمَّةِ أيضًا بقولِه: (إنَّ الطَّلاقَ لا يقعُ بشيءٍ مِن الكِناياتِ، كقولِ الرَّجلِ لامرأتِه: أنتِ خَليَّةٌ أو بَريَّةٌ، أو حَبلُكِ على غارِبِك، أو البتَّةَ، أو الحَقي بأهلِك، أو اعتَدِّي، أو نَحوِها مِن كِناياتِ الطَّلاقِ عندَ الفُقهاءِ، سواءٌ نوى بها الطَّلاقَ أو لم ينوِه) [1436] ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 19)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 145). .
ذلك أنَّ ما ذهَب إليه المُسلِمونَ اعتِبارَ النِّيَّةِ، وقد عقَد البُخاريُّ لهذا المعنى بابًا ترجَم له بقولِه: (بابُ إذا قال: فارَقْتُك، أو سرَّحْتُك، أو الخَلِيَّةُ، أو البَريَّةُ، أو ما عُنِي به الطَّلاقُ؛ فهو على نيَّتِه) [1437] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/286). .
ومِن لطيفِ ما يُروى عن بِشرِ بنِ غِياثٍ المِرِّيسيِّ المُعتَزِليِّ في ردِّ الإجماعِ أنَّه سأل الإمامَ الشَّافِعيَّ في حَضرةِ هارونَ الرَّشيدِ: (ادَّعَيتَ الإجماعَ، فهل تعرِفُ شيئًا أجمَع النَّاسُ عليه؟) قال الشَّافِعيُّ: (نعَم، أجمَعوا على أنَّ هذا الحاضِرَ أميرُ المُؤمِنينَ، فمَن خالَفه قُتِلَ!) [1438] ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (1/401). .
فالإجماعُ حقيقةٌ تستنِدُ إلى الكتابِ والسُّنَّةِ، لا يُمكِنُ إنكارُها، ولا يُمكِنُ فَهمُه إلَّا بالشَّكلِ السَّوِيِّ الذي فهِمه به السَّلفُ الصَّالِحُ.

انظر أيضا: