موسوعة الفرق

المَبحَثُ الخامسُ: كذِبُهم في الحديثِ الشَّريفِ


ثبَت أنَّ المُعتَزِلةَ يعتبِرونَ العَملَ شرطَ صحَّةٍ لثُبوتِ الإيمانِ، إلَّا أنَّ الكثيرينَ مِن أعلامِهم اشتَهروا بالتَّهاوُنِ في أداءِ الفُروضِ، وقلَّةِ التَّديُّنِ، وعَدمِ التَّورُّعِ عن ارتِكابِ بعضِ المُحرَّماتِ، ويتَّضِحُ لنا ذلك عندَ النَّظَّامِ وثُمامةَ بنِ أشرَسَ وغَيرِهما.
كما أنَّ زُعماءَهم لا يتردَّدونَ عن الكذِبِ في الحديثِ: جاء في مُقدِّمةِ (صحيحِ مُسلِمٍ) (كان عَمرُو بنُ عُبَيدٍ يَكذِبُ في الحديثِ) [1351] ((مقدمة صحيح مسلم)) (1/22). ، ومِن أمثلةِ أكاذيبِه ما نسَبه للحَسنِ البَصريِّ حولَ السَّكرانِ بالنَّبيذِ؛ مِن أنَّه لا يُجلَدُ، وسُئِل أيُّوبُ السَّختيانيُّ عن صحَّةِ ذلك، فقال: (كذَبَ! أنا سمِعْتُ الحَسنَ يقولُ: يُجلَدُ السَّكرانُ مِن النَّبيذِ) [1352] ((مقدمة صحيح مسلم)) (1/23). .
ومِن أمثلةِ أكاذيبِه أيضًا ما نسَبه للحَسنِ كذلك مِن روايتِه عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا رأَيتُم مُعاوِيةَ على مِنبَري فاقتُلوه)) [1353] أخرجه ابنُ عَدِيٍّ في ((الكامل في الضعفاء)) (5/101)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (12/180)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/157). قال أيُّوبُ السَّخْتياني كما في ((تاريخ بغداد)) للخطيب (12/178): كَذِبٌ، وقال ابنُ الجوزي في ((الموضوعات)) (2/25)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (4930): موضوعٌ. ، وقد كذَّبه أيُّوبُ، ولا ريبَ أنَّ هذا الحديثَ ظاهِرُ الوَضعِ.
وكثيرةٌ هي المسائِلُ التي ينسُبُ أحكامَها إلى الحَسنِ، وهي على الحقيقةِ مِن رأيِه هو [1354] يُنظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/273). .
ولتأييدِ مذهَبِه الاعتِزاليِّ فإنَّ عَمرَو بنَ عُبَيدٍ كثيرًا ما يورِدُ الحديثَ دونَ بيانِ تأويلِه؛ مِن ذلك ما رواه عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قولِه: ((مَن حمَل علينا السِّلاحَ فليس منَّا )) [1355] أخرجه البُخاريُّ (6874)، ومُسلمٌ (98) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقد سُئِل عن ذلك عَوفُ بنُ أبي جَميلةَ، فقال: (كذَبَ -واللهِ- عَمرٌو! ولكنَّه أراد أن يحوزَها إلى قولِه الخبيثِ) [1356] ((صحيح مسلم)) (1/22). ، بمعنى أنَّ عَمرًا أورَد هذا الحديثَ لتأييدِ ما يذهَبُ إليه المُعتَزِلةُ مِن تفسيقِ مُرتكِبِ الكبيرةِ وتخليدِه في النَّارِ، ولمَّا كان مُستَلُّ السَّيفِ على أخيه المُسلِمِ مُرتكِبًا لكبيرةٍ فهو ليس مِن أمَّةِ الإسلامِ؛ ومِن ثَمَّ فهو مُخلَّدٌ في النَّارِ.
ولهذا نجِدُ العُلماءَ يُضَعِّفونَ عَمرًا، ويردُّونَ أحاديثَه؛ مِن ذلك أنَّ الفَلَّاسَ قال: (عَمرٌو متروكٌ صاحِبُ بِدعةٍ) [1357] ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/275). ، بل إنَّ النَّاسَ كانوا يتحاشَونَ حتَّى مُجالَستَه لإغراقِه في الابتِداعِ رَغمَ ما يُشاعُ عنه مِن وَرَعٍ!
وإذا جوَّز النَّظَّامُ الكذِبَ على المُكرَهِ؛ حيثُ قال: (إذا لم يعرِفِ التَّعريضَ والتَّوريةَ فيما أُكرِه عليه فله أن يكذِبَ، ويكونَ وِزرُه موضوعًا عنه) [1358] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/51). ؛ فإنَّ أكثَرَ المُعتَزِلةِ بما فيهم النَّظَّامُ لا يتورَّعونَ عن الكذِبِ لا للإكراهِ، ولكن لتأييدِ ما يذهبونَ إليه مِن آراءٍ مُتعسِّفةٍ كما وقَع مِن عَمرِو بنِ عُبَيدٍ.
وكما يروي القاضي عبدُ الجبَّارِ عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خمسٌ لا يُعذَرُ بجهلِهنَّ أحدٌ: معرفةُ اللهِ تعالى؛ أن يعرِفَه ولا يُشبِّهَ به شيئًا، والحُبُّ في اللهِ، والبُغضُ في اللهِ، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ، واجتِنابُ الظَّلَمةِ))، وهذا الحديثُ يُنكِرُه الرُّواةُ، وإنَّما تمسَّك به المُعتَزِلةُ ليُثبِتوا به وُجوبَ معرفةِ اللهِ بالدَّليلِ [1359] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (هامش رقم 55). .
فالحديثُ الشَّريفُ لم يَسلَمْ مِن المُعتَزِلةِ؛ حيثُ جرَّحوا رواتَه مِن الصَّحابةِ، وأنكَروا المُتواتِرَ منه، وردُّوا الآحادَ، وأنكَروا وشكُّوا في الكثيرِ مِن الأحاديثِ، وأخيرًا كذَّبوا في الحديثِ لتقويةِ بِدعتِهم، فهُم وإن لم يكترِثوا بالحديثِ فإنَّهم يلجَؤونَ إليه، وإن اضطرَّهم ذلك إلى الوَضعِ حينَ يرومونَ تأييدَ مذهَبِهم.

انظر أيضا: