موسوعة الفرق

الفَرعُ الثَّاني: نموذجٌ لتأويلاتِ المُعتَزِلةِ لمعاني التَّنزيلِ لإبطالِ صفةِ الكلامِ


نتناوَلُ في هذا الفَرعِ بعضًا مِن تأويلاتِ المُعتَزِلةِ لمعاني التَّنزيلِ؛ ليتوصَّلوا بذلك إلى إبطالِ صفةِ الكلامِ للهِ سُبحانَه [1212] يُنظر: ((جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية)) لمحمد لوح (ص: 222) وما بعدها، ((العقيدة السلفية في كلام رب البرية)) للجديع (ص: 317) وما بعدها. .
أوَّلًا: في تكليمِ اللهِ تعالى لموسى عليه السَّلامُ، قالوا: إنَّ اللهَ خلَق كلامًا في الشَّجرةِ التي أتاها موسى فسمِعه موسى، واستدلُّوا بقولِ اللهِ تعالى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص: 30] على أنَّ ابتداءَ الكلامِ كان مِن الشَّجرةِ.
فحرَّفوا التَّنزيلَ ليُثبِتوا التَّعطيلَ بتقريرِ أصلِهم الفاسِدِ، ونَفيِ صفةِ الكلامِ للهِ تعالى.
والرَّدُّ عليهم مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ الكلامَ هو ما قام بالمُتكلِّمِ لا ما قام بغَيرِه، وقيامُ الصِّفةِ إنَّما يكونُ بالموصوفِ بها لا بغَيرِه، والصِّفةُ إذا قامت بمحَلٍّ كانت صفةً له لا صفةً لغَيرِه، فما خلَقه اللهُ تعالى مِن الصِّفاتِ في الأشياءِ ليس مِن ذلك شيءٌ صفةً له، إنَّما هي صفاتٌ لمخلوقاتِه؛ فهو تعالى قد أنطَق سائِرَ الأشياءِ نُطقًا مُعتادًا أو غَيرَ مُعتادٍ، فأنطَق الإنسانَ والجانَّ وغَيرَ ذلك مِن خَلقِه نُطقًا مُعتادًا، وأسمَع نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تسبيحَ الحصى، وفي الآخِرةِ تنطِقُ الجنَّةُ والنَّارُ، وتُحدِّثُ الأرضُ بأخبارِها، وتشهَدُ الجُلودُ على أهلِها حينَ تُبلى السَّرائِرُ: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] .
فكُلُّ هذا الإنطاقِ مِن خَلقِ اللهِ في الأشياءِ، فنُطقُها صفاتٌ لها، ولا يقولُ أحدٌ عن نُطقِ الأشياءِ: صفةٌ للهِ، إلَّا حُلوليٌّ يعتقِدُ أنَّ صفةَ اللهِ تحُلُّ في المخلوقِ، أو اتِّحاديٌّ يرى اتِّحادَ المخلوقِ في الخالِقِ، فنُطقُ المخلوقِ وصوتُه وكلامُه هو بعَينِه صفةُ الرَّبِّ تعالى، ولكنَّ المُعتَزِلةَ جعَلوا الصَّوتَ الذي سمِعه موسى عليه السَّلامُ صوتًا مخلوقًا في الشَّجرةِ، كنَحوِ صَفيرِ وَرَقِها إذا عصَفَت الرِّيحُ، لا صوتَ الرَّبِّ سُبحانَه، وما عقَلوا أنَّ معنى هذا أنَّ الشَّجرةَ هي القائِلةُ لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ، وهي القائِلةُ: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] ! ولا فرقَ حينَئذٍ بَينَ دَعوى الشَّجرةِ ودَعوى فرِعَونَ؛ فكُلٌّ ادَّعى الرُّبوبيَّةَ، فصدَّق موسى عليه السَّلامُ الشَّجرةَ وكذَّب بفِرعَونَ!
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ اللهَ تعالى حينَ أخبَر عن تكليمِه لموسى عليه السَّلامُ قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 194]، فأكَّده بالمصدَرِ تَكْلِيمًا، وقد قال جماعةٌ مِن أهلِ التَّحقيقِ في العربيَّةِ: "إنَّ التَّوكيدَ بالمصدَرِ ينفي المجازَ".
الوَجهُ الثَّالثُ: قال ابنُ قُتَيبةَ: (خرَجوا بهذا التَّأويلِ مِن اللُّغةِ ومِن المعقولِ؛ لأنَّ معنى "تكلَّم اللهُ" أتى بالكلامِ مِن عندِه، و "ترحَّم اللهُ" أتى بالرَّحمةِ مِن عندِه، كما يُقالُ: "تخشَّع فلانٌ" أتى بالخُشوعِ مِن نَفسِه، و"تشجَّع" أتى بالشَّجاعةِ مِن نَفسِه، و"تبتَّل" أتى بالتَّبتُّلِ مِن نَفسِه، و"تحلَّم" أتى بالحِلمِ مِن نَفسِه، ولو كان المُرادُ: أوجَد كلامًا، لم يجُزْ أن يقالَ: "تكلَّم"، وكان الواجِبُ أن يُقالَ: "أَكْلَم" كما يُقالُ: "أَقبَح الرَّجلُ" أتى بالقَباحةِ، و"أطاب" أتى بالطَّيِّبِ، و"أخسَّ" أتى بالخَساسةِ، وأن يُقالَ: "أكلَم اللهُ موسى إكلامًا"، كما يُقالُ: "أقبَرَ اللهُ الرَّجُلَ"، أي: جعَل له قَبرًا، أو "أرعى اللهُ الماشِيةَ" جعَلها ترعى، في أشباهٍ لهذا كثيرةٍ لا تخفى على أهلِ اللُّغةِ) [1213] ((الاختلاف في اللفظ)) (ص: 233-234). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ تكليمَ اللهِ تعالى لموسى كان خَصِيصةً فُضِّل بها على غَيرِه مِن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وقد قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى: 51] .
فإن كان التَّكليمُ لموسى حصَل بواسِطةِ الشَّجرةِ، لم يكنْ له على مَن سِواه ممَّن يُوحَى إليه بواسِطةِ الرَّسولِ فَضلٌ، ولم تكنْ منزِلةُ التَّكليمِ مِن وراءِ حِجابٍ حاصِلةً لأحدٍ مِن رُسلِ اللهِ، وهذا تكذيبٌ للقرآنِ، وإبطالٌ لواضِحِ البُرهانِ.
الوَجهُ الخامِسُ: أنَّ قولَه مِنَ الشَّجَرَةِ لابتداءِ الغايةِ، نَحوُ ذلك: "رأَيتُ الهِلالَ مِن داري"، و "سمعْتُ كلامَ زيدٍ مِن البيتِ"؛ فليس الهِلالُ في الدَّارِ، ولا البيتُ هو المُتكلِّمَ.
ثانيًا: إضافةُ الكلامِ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى في مِثلِ قولِه: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] :
قالوا: هي إضافةُ خَلقٍ وتشريفٍ لا إضافةُ صفةٍ، كـ "بيتِ اللهِ" و "ناقةِ اللهِ" و "رسولِ اللهِ".
وهذا نوعٌ آخَرُ مِن تمويهِهم وتلبيسِهم.
قال ابنُ تيميَّةَ: (كُلُّ ما يُضافُ إلى اللهِ إن كان عَينًا قائِمةً بنَفسِها فهو مِلكٌ له، وإن كان صفةً قائِمةً بغَيرِها ليس لها محَلٌّ تقومُ به، فهو صفةٌ للهِ) [1214] ((مجموع الفتاوى)) (9/290). .
ومَثَّل لِما كان عَينًا قائِمةً بنَفسِها بقولِ اللهِ تعالى: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس: 13] ، وقولِ اللهِ سُبحانَه: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم: 17] ، قال: "وهو جِبريلُ"، فهذا خَلقٌ له ومِلكٌ له، ومِثلُه: "رسولُ الله" و"عِبادُ اللهِ" و"قِبلةُ اللهِ" ونَحوُ ذلك.
ومَثَّل لِما كان صفةً قائِمةً بغَيرِها بـ "عِلمِ اللهِ، كلامِ اللهِ، قُدرةِ اللهِ، حياةِ اللهِ، أمرِ اللهِ"؛ فهذه إذا أُضيفَت إلى اللهِ تعالى كانت صفاتٍ له.
قال ابنُ تيميَّةَ: (لكن قد يُعبَّرُ بلفظِ المصدَرِ عن المفعولِ به، فيُسمَّى المعلومُ عِلمًا، والمقدورُ قُدرةً، والمأمورُ به أمرًا، والمخلوقُ بالكَلِمةِ كَلِمةً، فيكونُ ذلك مخلوقًا، كقولِه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وقولِه: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [آل عمران: 45] ، وقولِه: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] ) [1215] ((مجموع الفتاوى)) (9/291). .
وإنَّما يُصارُ إلى هذا المعنى بالقرائِنِ، أمَّا مُجرَّدُ إضافةِ الصِّفةِ إلى اللهِ فإنَّها حينَئذٍ صفةٌ له.
ثالثًا: في قولِ اللهِ تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164]
زعَموا أنَّ المُتكلِّمَ هو فاعِلُ الكلامِ [1216] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 535). ، ومرَّةً قالوا: معناه مِن الكَلْمِ، أي: (وجرَّح اللهُ موسى بأظفارِ المِحَنِ ومخالِبِ الفِتَنِ) [1217] يُنظر: ((الكشاف)) للزمخشري (1/314). !
وهذا التَّأويلُ الفاسِدُ مِن أفسَدِ ما يكونُ؛ لِما يأتي:
1- أنَّ هذا الفِعلَ المُؤكَّدَ بالمصدَرِ -أي كلَّم تكليمًا- غَيرُ قابِلٍ للتَّأويلِ، ولا مُحتمِلٍ للمَجازِ [1218] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قُتَيبة (ص: 111). .
2- أنَّ اللهَ تعالى خصَّ موسى عليه السَّلامُ بالكلامِ، كما خصَّ إبراهيمَ بالخُلَّةِ.
فلو كان كلامُه مُجرَّدَ أصواتٍ وحُروفٍ أوجَدها وخلَقها في الشَّجرةِ فلا يكونُ هناك خُصوصيَّةٌ لموسى؛ لأنَّ هذه الأصواتَ والحُروفَ يسمَعُها الجميعُ حتَّى المُشرِكُ الذي قال اللهُ فيه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، ولو كان المُرادُ الابتِلاءَ والامتِحانَ لم تكنْ هناك خُصوصيَّةٌ أيضًا كما لا يخفى.
ثُمَّ لو أراد اللهُ سُبحانَه وتعالى أن يُخبِرَنا بأنَّه فتَن موسى وابتلاه بالمِحَنِ، هل يستقيمُ أن يُعبِّرَ عن ذلك بقولِه وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى؟! إنَّه لو فعَل ذلك لم يكنْ في هذا الكلامِ بيانٌ، ومعلومٌ أنَّ القرآنَ مُيسَّرٌ لحِفظِ آياتِه، وفَهمِ معانيه، وامتِثالِ أوامِرِه.

انظر أيضا: