موسوعة الفرق

الفَرعُ الأوَّلُ: نموذجٌ لتأويلاتِ المُعتَزِلةِ لنُصوصِ الصِّفاتِ والقَدَرِ


على ركائِزِ الأُصولِ الخمسةِ وضَع المُعتَزِلةُ منهَجَهم في التَّأويلِ، وترتَّب على ذلك أن أوَّلوا مِن نُصوصِ القرآنِ والسُّنَّةِ الشَّيءَ الكثيرَ، وفيما يلي أمثلةٌ على ذلك، ونُعقِّبُ على كُلِّ مثالٍ ببيانِ تهافُتِ تأويلِهم له. واللهُ المُستعانُ [1195] يُنظر: ((جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية)) لمحمد لوح (ص: 222). .
مِن هذه النَّماذِجِ: رُؤيةُ الباري على ما يليقُ بجلالِه؛ فقد أوَّلوا جميعَ النُّصوصِ الدَّالَّةِ عليها.
ومِن ذلك قولُ اللهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ، قالوا: المُرادُ بـ نَاظِرَةٌ الانتِظارُ، (ويُرادُ به: التَّفكُّرُ بالقلبِ طلبًا للمعرفةِ) [1196] يُنظر: ((متشابه القرآن)) لعبد الجبار (2/674). ويُنظر: ((الكشاف)) للزمخشري (4/165). .
وهذا باطِلٌ؛ فإنَّ "نظَر" في لغةِ العربِ إمَّا أن يتعدَّى بنَفسِه، وإمَّا يتعدَّى بحرفٍ؛ فإن تعدَّى بنَفسِه كان بمعنى الانتِظارِ، كقولِه تعالى: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] ، أي: انتظِرونا.
وإن تعدَّى بالحرفِ فإمَّا أن يكونَ الحرفُ هو اللَّامَ، وإمَّا أن يكونَ: إلى، فإذا تعدَّى باللَّامِ كان المعنى الانتِظارَ أيضًا، فنقولُ: أنا لك ناظِرٌ، أي: مُنتظِرٌ.
وأمَّا إذا تعدَّى بإلى فيكونُ بمعنى نَظرِ العَينِ لا غَيرُ، فيُقالُ: أنا إليك ناظِرٌ، أي: بالعَينِ الباصِرةِ، ولا يُقالُ ذلك ويُرادُ: مُنتظِرٌ [1197] يُنظر: ((الاختلاف في اللفظ)) (ص: 22-33)، ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 376) كلاهما لابن قُتَيبة. ويُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/ 266)، ((لسان العرب)) لابن منظور (5/217). .
ثُمَّ أيُّ معرفةٍ هذه التي يطلُبُها أهلُ الجنَّةِ حتَّى يُقالَ: معنى النَّظرِ: التَّفكُّرُ بالقلبِ طلبًا للمعرفةِ؟!
- ومِن آياتِ الصِّفاتِ التي أوَّلوها أينما وردَت: آياتُ العِلمِ والقُدرةِ، ونَحوِها؛ حيثُ يرَونَ أنَّ اللهَ عالِمٌ بلا عِلمٍ، وقادِرٌ بلا قُدرةٍ!
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] أي: وهو عالِمٌ به، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ [الأعراف: 7] ، أي: ونَحن عالِمونَ به، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] أي: معلوماتِه) [1198] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 212). .
وهذا تأويلٌ فاسِدٌ؛ إذ لا يوجَدُ دليلٌ مُلجِئٌ يُحتِّمُ المصيرَ إلى هذا النَّحوِ مِن التَّأويلِ، ومِن السُّخفِ ورقَّةِ الدِّينِ أن يستنكِفَ المرءُ عن وَصفِ ربِّه بالعِلمِ؛ لأنَّ انتِفاءَه صفةُ نَقصٍ لا يليقُ بالمولى عزَّ وجلَّ.
وأمَّا نُصوصُ القَدَرِ فنصيبُها مِن التَّأويلِ في فكرِ المُعتَزِلةِ أكثَرُ مِن غَيرِه؛ نظرًا لكثرتِها.
ومِن ذلك قولُهم في قولِ اللهِ تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم: 4] ، فقالوا: ينسُبُهم إلى الضَّلالةِ والهِدايةِ، أو يُقالُ: (يُضِلُّ مَن يشاءُ بأن يُعاقِبَه ويُهلِكَه؛ جزاءً له على كُفرِه، ويهدي مَن يشاءُ إلى الثَّوابِ وطريقِ الجنَّةَ؛ جزاءً له على إيمانِه) [1199] يُنظر: ((متشابه القرآن)) لعبد الجبار (2/413). .
وهذا باطِلٌ؛ قال ابنُ قُتيبةَ: (لو أراد النِّسبةَ لقال: يُضَلِّلُهم، كما يُقالُ: يُخوِّفُهم، ويُفسِّقُهم، أي: ينسُبُهم إلى ذلك) [1200] ((الاختلاف في اللفظ)) (ص: 16). .
ثُمَّ إنَّ المُعتَزِلةَ جعَلوا جميعَ النُّصوصِ التي تُصادِمُ مُقرَّراتِهم مِن المُتشابِهِ، ولا حُجَّةَ لهم في ذلك سِوى عُقولِهم المُجرَّدةِ.
قال ابنُ القيِّمِ بَعدَ ذِكرِه جُملةً مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على خَلقِ اللهِ لأفعالِ العِبادِ: (القَدَريَّةُ تَرُدُّ هذا كُلَّه إلى المُتشابِهِ، وتجعَلُه مِن مُتشابِهِ القرآنِ، وتتأوَّلُه على غَيرِ تأويلِه، بل تتأوَّلُه بما يُقطَعُ ببُطلانِه وعَدمِ إرادةِ المُتكلِّمِ له) [1201] ((شفاء العليل)) (ص: 174). .
وفي ذلك قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (فأقوى ما يُعلَمُ به الفرقُ بَينَ المُحكَمِ والمُتشابِهِ أدلَّةُ العُقولِ) [1202] ((متشابه القرآن)) (1/8). .
وقال أيضًا: (نحن نُبيِّنُ الآنَ في جُملِ المُتشابِهِ أنَّ ظاهِرَه لا يدُلُّ على ما يقولُه المُخالِفُ البتَّةَ) [1203] ((متشابه القرآن)) (1/38). .
هكذا حكَّم هؤلاء عُقولَهم وقرَّروا مذهَبَهم، ثُمَّ هجَموا على النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ بلا هَوادةٍ، فما وجَدوه يدُلُّ على ما يحتمِلُ وَجهًا -ولو بعيدًا- فيه إقرارٌ بما قرَّروا؛ جعَلوه مُحكَمًا ونصًّا فيما اعتقدوه، وما ألْفَوه يُخالِفُ مُقرَّراتِهم السَّابِقةَ جعَلوه مُتشابِهًا وأوَّلوه حتَّى لا يتَّفِقَ معَ ما يذهَبُ إليه المُخالِفُ، وكان القاضي عبدُ الجبَّارِ مِن أبرَزِهم في هذا المجالِ.
(والمُلاحَظُ أنَّ القاضيَ يقتطِعُ الآيةَ مِن سِياقِها، بل يقتطِعُ جُزءًا مِن الآيةِ ليستدِلَّ به على مذهَبِه، ويُغفِلُ ذِكرَ السِّياقِ، أو بقيَّةَ الآيةِ، كما أنَّه يترُكُ الكثيرَ مِن الآياتِ الصَّريحةِ المُحكَمةِ التي تدُلُّ على خِلافِ مذهَبِه، أو تُثبِتُ مذهَبَ الخُصومِ في هذه القضيَّةِ) [1204] ((القضاء والقدر في الإسلام)) للدسوقي (2/282). .
ولو كان يترُكُ مِثلَ هذه الآياتِ لكان الخَطبُ أهوَنَ، لكنَّه يجعَلُها مِن المُتشابِهِ، ويشتغِلُ بتأويلِها ما وجَد إلى ذلك سبيلًا، فنجِدُه يقولُ مُؤوِّلًا قولَ اللهِ تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] ، (يُريدُ بذلك أنَّه ليس عليه إثابتُهم، والأخذُ بأيديهم في طُرقِ الجنَّةِ، وأنَّه تعالى هو المُختَصُّ بذلك) [1205] ((متشابه القرآن)) (1/137). .
وهذا تأويلٌ ساقِطٌ؛ فإنَّ هذه الآيةَ واضِحةُ الدَّلالةِ في أنَّ اللهَ تعالى هو المُوفِّقُ مَن يشاءُ إلى الإيمانِ؛ حيثُ نفى الهِدايةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتبيَّن أنَّه لا يقصِدُ هِدايةَ الإرشادِ الثَّابتةَ له في قولِه تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] ، بل أراد هِدايةً أقصى مِن هذه، وهي خَلقُ المشيئةِ والإرادةِ المُستلزِمةِ لفِعلِ ما يُحِبُّه اللهُ تعالى.
قال ابنُ القيِّمِ: (هذه المرتَبةُ تستلزِمُ أمرَينِ: أحدُهما: فِعلُ الرَّبِّ تعالى، وهو الهُدى، والثَّاني: فِعلُ العبدِ، وهو الاهتِداءُ، وهو أثرُ فِعلِه تعالى؛ فهو الهادي، والعبدُ المهتدي؛ قال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الإسراء: 97] ، ولا سبيلَ إلى وُجودِ الأثرِ إلَّا بمُؤثِّرِه التَّامِّ، فإن لم يحصُلْ فِعلُه لم يحصُلْ فِعلُ العبدِ؛ ولهذا قال تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل: 37] ، وهذا صريحٌ في أنَّ هذا الهُدى ليس له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولو حرَص عليه، ولا إلى أحدٍ غَيرِ اللهِ، وأنَّ اللهَ سُبحانَه إذا أضلَّ عبدًا لم يكنْ لأحدٍ سبيلٌ إلى هِدايتِه، كما قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [الأعراف: 186] ) [1206] ((شفاء العليل)) (ص: 170). .
ثُمَّ إنَّ اللهَ تعالى لو أراد ذلك لقال لنبيِّه: ليس عليك إثابتُهم والأخذُ بأيديهم يومَ القيامةِ إلى الجنَّةِ، ولعلَّ القاضيَ عبدَ الجبَّارِ نَفسَه غَيرُ مُتأكِّدٍ مِن قُوَّةِ هذا التَّأويلِ؛ إذ قال: (أو يُريدُ بذلك: ليس عليك إلَّا الدُّعاءُ يعني الدَّعوةَ، فأمَّا القَبولُ فإليهم) [1207] ((متشابه القرآن)) (1/137). .
وهذا التَّأويلُ لا يتناسَبُ إطلاقًا معَ آخِرِ الآيةِ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] بل كان المُناسِبُ أن يقولَ: ولكنَّهم يهدونَ أنفُسَهم.
ومِن ذلك تأويلُ المُعتَزِلةِ لقولِ اللهِ تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] .
فهذا صريحٌ في أنَّ اللهَ تعالى خالِقٌ لأفعالِ العِبادِ؛ فهو سُبحانَه وتعالى خالِقٌ لهذا الضَّلالِ والخَتمِ والوَقْرِ، فتَحُولُ بَينَ العبدِ وبَينَ الإيمانِ، إلَّا أنَّه سُبحانَه وتعالى لا يفعَلُ ذلك بعبدِه ابتداءً لأوَّلِ وَهلةٍ، بل يفعَلُه لحِكمةٍ ولسببٍ؛ حيثُ يأمرُه بالإيمانِ ويُبيِّنُه له، فإذا تكرَّرَت الدَّعوةُ وتأكَّد البيانُ والإرشادُ، وأُقيمَت الحُجَّةُ، ثُمَّ تكرَّر الإعراضُ والمُبالَغةُ في العِنادِ والكُفرِ؛ فحينَئذٍ يُطبَعُ على القلبِ، ويُختَمُ عليه، فلا يقبَلُ الهُدى بَعدَ ذلك؛ إذ مِن المعلومِ أنَّ الكُفرَ الأوَّلَ لم يكنْ بخَتمٍ وطَبعٍ، بل كان باختِيارٍ منه، فلو كان كُلُّ كافِرٍ مختومَ القلبِ لم يهتدِ كافِرٌ قطُّ، ويدُلُّ على هذا قولُه تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] ، وقولُه: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 55] ، وقولُه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] ، وقولُه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ، وقولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف: 57] .
وهذا الخَتمُ والطَّبعُ مِن الأمورِ الواضِحةِ المُحكَمةِ، لكنَّ المُعتَزِلةَ لمَّا وجَدوه يُقرِّرُ ما يُخالِفُ مُعتقَدَهم في القَدَرِ أخَذوا يُؤوِّلونَه تأويلاتٍ بعيدةً فاسِدةً.
فقال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (قد يُرادُ به الحُكمُ عليه بأنَّه لا ينتفِعُ بما سمِعه، كما يُقالُ فيمَن نوظِر وبُيِّنَ له طويلًا: ختمْتُ عليك، أي: لا تفهَمُ...، ويجِبُ أن يُحمَلَ على أنَّ المُرادَ أنَّه علَّم على قُلوبِهم بعلامةٍ تَعرِفُ بها الملائِكةُ أنَّهم مِن أهلِ الذَّمِّ، كما كتَب في القُلوبِ الإيمانَ؛ لكي تعلَمَ الملائِكةُ أنَّهم مِن أهلِ المدحِ) [1208] ((متشابه القرآن)) (1/51- 52). .
وقال الزَّمَخشَريُّ: (لا خَتمَ ولا تغشيةَ ثَمَّ على الحقيقةِ، وإنَّما هو مِن بابِ المجازِ) [1209] ((الكشاف)) (1/26). .
وقد ردَّ أهلُ العِلمِ على تلك التَّأويلاتِ الفاسِدةِ.
فقال القُرطُبيُّ: (في هذه الآيةِ أدَلُّ دليلٍ وأوضَحُ سبيلٍ على أنَّ اللهَ سُبحانَه خالِقُ الهُدى والضَّلالِ، والكُفرِ والإيمانِ؛ فاعتبِروا أيُّها السَّامِعونَ، وتعجَّبوا أيُّها المُفكِّرونَ مِن عُقولِ القَدَريَّةِ القائِلينَ بخَلقِ إيمانِهم وهُداهم؛ فإنَّ الخَتمَ هو الطَّبعُ، فمِن أين لهم الإيمانُ ولو جَهَدوا، وقد طُبِع على قُلوبِهم، وعلى سَمعِهم، وجُعِل على أبصارِهم غِشاوةٌ، فمتى يهتدونَ؟ ومَن يهديهم مِن بَعدِ اللهِ إذا أضلَّهم وأصمَّهم، وأعمى أبصارَهم؟ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: 33] ، وكان فِعلُ اللهِ ذلك عدلًا فيمَن أضلَّه وخذَله؛ إذ لم يمنَعْه حقًّا وجَب له، فتزولُ صفةُ العدلِ، وإنَّما منَعهم ما كان له أن يتفضَّل به عليهم لا ما وجَب لهم، فإن قالوا: إنَّ معنى الخَتمِ والطَّبعِ والغِشاوةِ التَّسميةُ والحُكمُ والإخبارُ بأنَّهم لا يُؤمِنونَ، لا الفِعلُ. قُلْنا: هذا فاسِدٌ؛ لأنَّ حقيقةَ الخَتمِ والطَّبعِ إنَّما هو فِعلُ ما يصيرُ به القلبُ مطبوعًا مختومًا، لا يجوزُ أن تكونَ حقيقتُه التَّسميةَ والحُكمَ، ألا ترى أنَّه إذا قيل: فلانٌ طبَع الكتابَ وختَمه؛ كان حقيقتُه أنَّه فعَل ما صار به الكتابُ مطبوعًا مختومًا، لا التَّسميةَ والحُكمَ؟ هذا ما لا خلافَ فيه بَينَ أهلِ اللُّغةِ، ولأنَّ الأمَّةَ مُجمِعةٌ على أنَّ اللهَ تعالى قد وصَف نَفسَه بالخَتمِ والطَّبعِ على قُلوبِ الكافِرينَ مُجازاةً لكُفرِهم، كما قال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، وأجمَعَت الأمَّةُ على أنَّ الطَّبعَ والخَتمَ على قُلوبِهم مِن جهةِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ والملائِكةِ والمُؤمِنينَ مُمتنِعٌ، فلو كان الخَتمُ والطَّبعُ هو التَّسميةَ والحُكمَ لَما امتنَع مِن ذلك الأنبياءُ والمُؤمِنونَ؛ لأنَّهم كُلَّهم يُسمُّونَ الكُفَّارَ بأنَّهم مطبوعٌ على قُلوبِهم، وأنَّهم مختومٌ عليها، وأنَّهم في ضلالٍ لا يُؤمِنونَ، ويحكُمونَ عليهم بذلك، فثبَت أنَّ الختمَ والطَّبعَ هو معنًى غَيرُ التَّسميةِ والحُكمِ، وإنَّما هو معنًى يخلُقُه اللهُ في القلبِ يمنَعُ مِن الإيمانِ به) [1210] ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/186-187). .
ثُمَّ ما فائِدةُ أن يُخبِرَنا اللهُ بعِلمِ الملائِكةِ بأنَّ هؤلاء مِن أهلِ الذَّمِّ؟ ونحن نعلَمُ مِن القرآنِ والسُّنَّةِ أنَّ الكُفَّارِ مِن أهلِ الذَّمِّ، فعِلمُ الملائِكةِ بذلك مِن بابِ أَولى؛ لأنَّهم هم الذين يكتبونَ أعمالَهم.
قال ابنُ القيِّمِ: (قالت القَدَريَّةُ: الخَتمُ والطَّبعُ هو شَهادتُه سُبحانَه عليهم بأنَّهم لا يُؤمِنونَ، وعلى أسماعِهم وعلى قُلوبِهم.
قال أهلُ السُّنَّةِ: هذا هو قولُكم بأنَّ الخَتمَ والطَّبعَ هو الإخبارُ عنهم بذلك، وقد تقدَّم فسادُ هذا بما فيه كِفايةٌ، وإنَّه لا يُقالُ في لغةٍ مِن لغاتِ الأمَمِ لمَن أخبَر عن غَيرِه بأنَّه مطبوعٌ على قلبِه، ‌وأنَّ ‌عليه ‌ختمًا: ‌إنَّه ‌قد ‌طبَع ‌على ‌قلبِه وختَم عليه، بل هذا كذِبٌ على اللُّغاتِ وعلى القرآنِ) [1211] ((شفاء العليل)) (ص: 191). .

انظر أيضا: