موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: أثرُ أُصولِهم الخمسةِ على نُصوصِ القرآنِ الكريمِ


لقد بنى المُعتَزِلةُ عقيدتَهم على أُصولٍ خمسةٍ، وفي سبيلِ دَعمِ هذه الأُصولِ وتقويتِها حتَّى تُلاقيَ قَبولًا بَينَ المُسلِمينَ كان لا بُدَّ مِن استِنادِها إلى أدلَّةٍ مِن القرآنِ الكريمِ، وقد كان أصلُ تأسيسِهم لها العقلَ المُجرَّدَ عن النُّصوصِ، وما وافَق منهَجَهم مِن النُّصوصِ فإنَّما وافَقه عَرَضًا لا قَصدًا، فهُم إنَّما بنَوا أُصولَهم على العقلِ، ثُمَّ بَعدَ هذا رجَعوا إلى النُّصوصِ واختاروا ما يُوافِقُ عقلَهم منها، وبقِيَ ما لم يُوافِقْه -وهو كثيرٌ- عَقَبةً كَأْدَاءَ في طريقِهم أعدُّوا له عُدَّتَهم واستنفَروا له كُلَّ العُلومِ والمعارِفِ. فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى جُهدٍ كبيرٍ حتَّى يستطيعَ المُعتَزِليُّ أن يُخضِعَ معانيَ النُّصوصِ القرآنيَّةِ لآرائِه، وصَرْفَها عن مُعارَضتِها لها، وإبطالَ جميعِ التَّفاسيرِ الأخرى لها إذا لم تُوافِقْ آراءَهم، حتَّى ولو كانت أحاديثَ صحيحةً عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وممَّا لا شكَّ فيه أيضًا أنَّهم لم يَرجِعوا في تأويلِهم هذا إلى آيةٍ أخرى أو سُنَّةٍ نبويَّة؛ إذ إنَّ هذا يُبقيهم في نِطاقِ دائِرةِ النَّصِّ الأوَّلِ، ولا يلوي العِبارةَ كما يُريدونَ لَيَّها؛ فلم يَبْقَ لهم إلَّا أن يقِفوا موقِفَ المُضطرِبِ؛ فيُكذِّبوا النُّصوصَ النَّبويَّةَ الصَّريحَة، ويَجرَحوا رُواتَها، بل إنَّهم يتجاوَزونَ هذا إلى الصَّحابةِ الذين سمِعوها مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وروَوها كما سمِعوها. وسخَّروا كُلَّ العُلومِ والمعارِفِ -كاللُّغةِ، والقِراءاتِ، والبلاغةِ، والنَّحوِ، وغَيرِ ذلك- لتأويلِ الآياتِ المُعارِضةِ لأُصولِهم، وهذه بعضُ تأويلاتِهم لبعضِ آياتِ القرآنِ الكريمِ حسَبَ أُصولِهم في العقيدةِ:
ففي التَّوحيدِ:
أوَّلوا الآياتِ الدَّالَّةَ على إثباتِ الرُّؤيةِ، كقولِ اللهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] بأنَّ النَّظرَ إلى اللهِ تعالى لا يصِحُّ؛ لأنَّ النَّظرَ هو تقليبُ العَينِ الصَّحيحةِ نَحوَ الشَّيءِ طَلبًا لرُؤيتِه، وذلك لا يصِحُّ إلَّا في الأجسامِ؛ فيجِبُ أن يُتأوَّلَ على ما يصِحُّ النَّظرُ إليه، وهو الثَّوابُ، كقولِه تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، قالوا: فإنَّا تأوَّلْناه على أهلِ القريةِ؛ لصحَّةِ المسألةِ منهم [1174] يُنظر: ((تنزيه القرآن عن المطاعن)) لعبد الجبار (ص: 442). .
وحكى الشَّريفُ المُرتَضى تفسيرًا يزعُمُ أنَّه لا يفتقِرُ مُعتمِدُه إلى العُدولِ عن الظَّاهِرِ أو إلى تقديرِ محذوفٍ، ولا يحتاجُ إلى مُنازَعتِهم في أنَّ النَّظرَ يحتمِلُ الرُّؤيةَ أو لا يحتمِلُها، وهو أن يُحمَلَ قولُه تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23] على أنَّه أراد نِعمةَ ربِّها؛ لأنَّ الآلاءَ: النِّعَمُ [1175] يُنظر: ((أمالي المرتضى)) (ص: 36-37). !
وأوَّلوا الآياتِ الدَّالةَ على إثباتِ صفةِ الكلامِ، كقولِ اللهِ تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] بأنَّ لفظَ الجلالةِ منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ، ورُفِعَ موسى على أنَّه فاعِلٌ، وبهذا أبطَلوا صفةَ الكلامِ للهِ سُبحانَه وتعالى، وحاوَل بعضُهم أن يُبقيَ القراءةَ المشهورةَ كما هي برَفعِ لفظِ الجلالةِ على أنَّه فاعِلٌ معَ تأويلِ المعنى؛ بحيثُ لا يُثبِتُ صفةَ الكلامِ، فقال: إنَّ كلَّم مِن الكَلْمِ بمعنى الجَرْحِ! فالمعنى: وجرَّح اللهُ موسى بأظفارِ المِحَنِ ومخالِبِ الفِتَنِ! وقد عاب هذا التَّأويلَ الزَّمَخشَريُّ، وقال عنه: إنَّه مِن بِدْعِ التَّفاسيرِ، وأوَّلها بالقولِ الأوَّلِ.
وقال الزَّمَخشَريُّ في قولِ اللهِ تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] : (تكليمه أن يخلُقَ الكلامَ منطوقًا به في بعضِ الأجرامِ، كما خلَقه مخطوطًا في اللَّوحِ، ورُوِي أنَّ موسى عليه السَّلامُ كان يسمَعُ ذلك الكلامَ مِن كُلِّ جهةٍ) [1176] ((الكشاف)) (2/111-112). .
وأوَّلوا كثيرًا مِن الصِّفاتِ تأويلًا باطِلًا لمُخالَفتِه أُصولَهم؛ فمِن ذلك أيضًا: تأويلُهم استوى في قولِه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] بأنَّ استِواءَ اللهِ على العرشِ كنايةٌ عن المُلكِ، واستدلُّوا بقولِهم: استوى فلانٌ على العرشِ، يُريدونَ: ملَك وإن لم يقعُدْ على السَّريرِ البتَّةَ، وأوَّلوا قولَه تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] بأنَّه تخييلٌ لمعنى أنَّ عَقدَ الميثاقِ معَ الرَّسولِ كعَقدِه معَ اللهِ، واللهُ تعالى مُنزَّهٌ عن الجوارِحِ، وعن صفاتِ الأجسامِ، ومعنى قولِه تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ، أي: كُلُّ شيءٍ هالِكٌ إلَّا هو [1177] يُنظر: ((أمالي المرتضى)) لابن المرتضى (ص: 592). .
وفي العَدلِ:
فسَّر الجُبَّائيُّ قولَ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان: 31] بأنَّ اللهَ سُبحانَه بيَّن لكُلِّ نبيٍّ عدوَّه، حتَّى يأخُذَ حِذْرَه منه [1178] يُنظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (24/77). ، وإنَّما اضطُرُّوا إلى هذا التَّأويلِ حتَّى يتَّفِقَ معَ قولِهم بوُجوبِ الصَّلاحِ والأصلَحِ.
ولكنَّهم يتوقَّفونَ في بعضِ أفعالِ اللهِ، فلا يُدرِكونَ المصلَحةَ في فِعلِها؛ فإذا قُلْتَ في قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] ، إذا قُلْتَ: إنَّ العِبادَ هم الفاعِلونَ للكُفرِ، ولكِنْ قد سبَق في عِلمِ الحكيمِ أنَّه إذا خلَقهم لم يفعَلوا إلَّا الكُفرَ ولم يختاروا غَيرَه، فما المصلَحةُ في خَلقِهم، معَ عِلمِه بما يكونُ منهم؟ أجاب الزَّمَخشَريُّ بأنَّ له وَجهًا حسنًا (وخَفاءُ وَجهِ الحُسْنِ علينا لا يقدَحُ في حُسنِه، كما لا يقدَحُ في حُسنِ أكثَرِ مخلوقاتِه بجَهلِنا بداعي الحِكمةِ إلى خَلقِها) [1179] ((الكشاف)) (4/113). .
وان احتُجَّ عليهم في إبطالِ قولِهم بأنَّ الحُسنَ والقُبحَ صِفتانِ ذاتيَّتانِ للحَسنِ والقبيحِ، بقولِه تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] ، فكيف يكونُ لهم حُجَّةٌ قَبلَ الرُّسلِ، واللهُ قد أعطاهم عقلًا يُدرِكونَ به الحَسنَ والقبيحَ قَبلَ الرُّسلِ كما تقولونَ؟ قالوا: إنَّ الرُّسلَ مُنبِّهونَ عن الغَفلةِ، وباعِثونَ على النَّظرِ؛ فكان إرسالُهم إزاحةً للعلَّةِ وتتميمًا لإزالةِ الحُجَّةِ؛ لئلَّا يقولوا: لولا أرسلْتَ إلينا رسولًا فيوقِظَنا مِن سِنةِ الغَفلةِ، ويُنبِّهَنا لِما وجَب الانتِباهُ له [1180] ((الكشاف)) للزمخشري (1/583). .
وفي الوعدِ والوعيدِ:
قالوا: إنَّه لا يجِبُ حَمدُ اللهِ على إدخالِه المُحسِنينَ للجنَّةِ؛ لأنَّه إنَّما أعطاهم حقًّا مِن حُقوقِهم ووعَدهم وعدًا وجَب عليه أن يُنفِذَه! وأوَّلوا قولَه تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ: 1] بأنَّ الحَمدَ في الآخِرةِ ليس بواجِبٍ؛ لأنَّه على نِعمةٍ واجِبةِ الإيصالِ إلى مُستحِقِّها، إنَّما هو تتمَّةُ سُرورِ المُؤمِنينَ، وتكمِلةُ اغتِباطِهم، يلتذُّونَ به كما يلتذُّ العاطِشُ بالماءِ البارِدِ [1181] ((الكشاف)) للزمخشري (3/278). !
وفي المنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ:
قالوا بمنزِلةِ الفِسقِ: وهي منزِلةٌ بَينَ منزِلةِ الإيمانِ ومنزِلةِ الكُفرِ، ويُؤوِّلونَ مِن الآياتِ ما يُقسِّمُ النَّاسَ إلى مُؤمِنٍ وكافِرٍ، ولا يَذكُرُ النَّوعَ الثَّالثَ الذي ذكَروا؛ فمِن ذلك قولُ اللهِ تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] ؛ فيقولونَ: إنَّ الشَّاكِرَ قد يكونُ شاكِرًا، وإن لم يكنْ مُؤمِنًا بَرًّا تقيًّا، وأضعَفُ مِن هذا تأويلُ الزَّمَخشَريِّ لقولِه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9-10] ؛ بقولِه: (فإن قُلْتَ: كيف ذكَر المُؤمِنينَ الأبرارَ والكُفَّارَ ولم يذكُرِ الفَسَقةَ؟ قُلْتُ: كان النَّاسُ حينَئذٍ إمَّا مُؤمِنٌ تقيٌّ، وإمَّا مُشرِكٌ، وإنَّما حدَث أصحابُ المنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ بَعدَ ذلك) [1182] ((الكشاف)) (2/439-440). !
وأمَّا في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ:
فالمُسلِمونَ جميعًا مُتَّفِقونَ على هذا الأصلِ، ولكنَّهم مُختلِفونَ في مَداه، ولم يكنْ للمُعتَزِلةِ تأويلٌ خارِجٌ عن أقوالِ السَّلفِ. واللهُ أعلَمُ، أمَّا مبالَغتُهم في مَداه فلم تكنْ مُعتمِدةً على التَأويلِ، بل على منهَجِهم العقليِّ.

انظر أيضا: