موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: العَلاقةُ بَينَ الإيمانِ والإسلامِ


يرى المُعتَزِلةُ أنَّ الإيمانَ والإسلامَ اسمانِ لمُسمًّى واحِدٍ؛ فعندَما يُذكَرُ الإسلامُ فهو الإيمانُ بعَينِه، وعندَما يُذكَرُ الإيمانُ فيُرادُ به الإسلامُ أيضًا، وإذًا فالتَّرادُفُ بَينَهما هو ما ذهَب إليه القومُ؛ فهذان اللَّفظانِ عندَهم جُعِلا اسمًا لمَن يستحِقُّ المدحَ والتَّعظيمَ، لا فَرقَ بَينَهما إلَّا مِن حيثُ اللَّفظُ فقط.
يدُلُّ على هذا ما ذكَره القاضي عبدُ الجبَّارِ؛ حيثُ قال: (قولُنا: مُؤمِنٌ، مِن الأسماءِ التي نُقِلَت مِن اللُّغةِ إلى الشَّرعِ، وصار بالشَّرعِ اسمًا لمَن يستحِقُّ المدحَ والتَّعظيمَ، كما أنَّ قولَنا: مُؤمِنٌ، جُعِل بالشَّرعِ اسمًا لمَن يستحِقُّ التَّعظيمَ والإجلالَ؛ فكذلك قولُنا: مُسلِمٌ، جُعِل بالشَّرعِ اسمًا لمَن يستحِقُّ المدحَ والتَّعظيمَ، حتَّى لا فَرقَ بَينَهما إلَّا مِن جهةِ اللَّفظِ) [1164] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 705). .
ثُمَّ ساق القاضي بَعدَ ذلك أدلَّةَ أصحابِه على هذا الرَّأيِ؛ حيثُ استدلَّ أوَّلًا بأنَّ اسمَ المُسلِمِ نُقِل مِن معناه اللُّغويِّ الذي هو الانقِيادُ والاستِسلامُ إلى معنًى شرعيٍّ جديدٍ غَيرِ معناه اللُّغويِّ؛ حيثُ أصبَح في الشَّرعِ اسمًا لمَن يَستحِقُّ المدحَ والتَّعظيمَ؛ لأنَّه لو كان مُبَقًّى على أصلِه اللُّغويِّ لجاز إجراؤُه على الكافِرِ إذا انقاد للغَيرِ، ومعلومٌ خِلافُ ذلك، ولَمَا كان يجوزُ إجراؤُه على النَّائِمِ والسَّاهي؛ لأنَّ الانقِيادَ منهما غَيرُ مقصودٍ، ولكان يجِبُ ألَّا يُسمَّى الآنَ بهذا الاسمِ إلَّا المُشتَغِلُ به دونَ مَن سبَق منه الإسلامُ، ويلزَمُ على هذا ألَّا يُسمَّى أصحابُ النَّبيِّ الآنَ مُسلِمينَ حقيقةً، وقد عُرِف خِلافُ ذلك، ولكان يجِبُ أيضًا ألَّا يزولَ هذا الاسمُ بالنَّدمِ وغَيرِه، وقد عُرِف خِلافُ ذلك أيضًا [1165] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 705). بتصَرُّفٍ. .
ثُمَّ استدلَّ بَعدَ ذلك على هذا النَّقلِ -أي نَقلِ اسمِ الإسلامِ مِن معناه اللُّغويِّ إلى معناه الشَّرعيِّ الجديدِ- بقولِ اللهِ تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [ البينة: 5] ، فقال: (سمَّى هذه الجُملَ دِينًا، ثُمَّ بيَّن في آيةٍ أخرى أنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ، ولو كان مُبقًّى على أصلِ اللُّغةِ لم يصِحَّ ذلك؛ لأنَّه في الأصلِ غَيرُ مُستعمَلٍ في إقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وهذا كما يدُلُّ على أنَّه غَيرُ مُبقًّى على الأصلِ فإنَّه يدُلُّ على أنَّه لا يجوزُ إجراؤُه إلَّا على مَن يستحِقُّ المدحَ والتَّعظيمَ كالمُؤمِنِ سواءً) [1166] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 706). .
وقال أيضًا: (وممَّا يدُلُّ على أنَّ الدِّينَ والإسلامَ واحِدٌ قولُه تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران : 85] ، والمعلومُ أنَّه لو اتَّخَذ الإيمانَ دينًا لقُبِل منه) [1167] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 706). .
فالآيةُ الأولى استدلَّ بها على أنَّ الإسلامَ نُقِل مِن معناه اللُّغويِّ المعروفِ إلى معنًى شرعيٍّ فيه انقيادٌ مخصوصٌ، ووَجهُ الاستِدلالِ واضِحٌ مِن كلامِه، أمَّا هذه الآيةُ الثَّانيةُ فقد استُدِلَّ بها على التَّرادُفِ بَينَ الإيمانِ والإسلامِ الشَّرعيَّينِ، ووَجهُ ذلك أنَّ اللهَ تبارَك وتعالى صرَّح في الآيةِ بأنَّ أيَّ دينٍ غَيرِ دينِ الإسلامِ فهو مردودٌ مرفوضٌ، ولا أحدَ يُنكِرُ أنَّ مَن اتَّخَذ الإيمانَ دينًا أنَّ ذلك مقبولٌ بدونِ جِدالٍ؛ فدلَّ ذلك على اتِّحادِ معنى الإيمانِ والإسلامِ، واندِراجِهما تحتَ كَلِمةِ: دينٍ.
ومِن أدلَّتِهم على التَّرادُفِ أيضًا قولُ اللهِ تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ الذاريات: 35- 36]، فلو لم يكنْ أحدُهما هو الآخَرَ لكان لا يصِحُّ الاستِثناءُ على هذا الوَجهِ [1168] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 706). .
وقال القاضي عبدُ الجبَّارِ في بيانِ المُرادِ مِن قولِ اللهِ تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] ؛ (فإنَّه لا يدُلُّ على أنَّ الإيمانَ غَيرُ الإسلامِ، وذلك أنَّ المُرادَ بهذا الكلامِ أنَّهم لم يُؤمِنوا في الحقيقةِ، وانقادوا واستسلَموا، فذكَر تعالى في حالِهم ما ذكَره. يُبيِّنُ ذلك أنَّه تعالى قال: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [ الحجرات: 14] ، ومَن لم يدخُلِ الإيمانُ في قلبِه البتَّةَ لا يكونُ مُسلِمًا عندَ أحدٍ إلَّا بعضِ المُتأخِّرينَ؛ فإنَّه يقولُ في مُظهِرِ الشَّهادتَينِ: إنَّه مُسلِمٌ، لكنَّه لا يقولُ معَ ذلك: إنَّه مُؤمِنٌ أيضًا، فلا يقدَحُ خِلافُه فيما ذكرْناه) [1169] ((متشابه القرآن)) (2/624). .
إلى غَيرِ ذلك ممَّا استدلَّ به القومُ على ما ذهَبوا إليه مِن القولِ بالتَّرادُفِ بَينَ الإيمانِ والإسلامِ، من حيثُ الحقيقةُ الشَّرعيَّةُ، فكما أنَّ الإيمانَ تصديقٌ وقولٌ وعَملٌ، فكذلك الإسلامُ، وكما أنَّ الإيمانَ يزيدُ وينقُصُ، على ما سنُبيِّنُ مِن مذهَبِهم في ذلك؛ فكذلك الإسلامُ يزيدُ ويَنقُصُ، وكما أنَّ اسمَ الإيمانِ يُسلَبُ كُلِّيَّةً عن مُرتكِبِ الذَّنبِ الكبيرِ؛ فكذلك اسمُ الإسلامِ عندَهم.

انظر أيضا: