موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّادسُ: أبرَزُ شُبُهاتِ المُعتَزِلةِ في القولِ بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ معَ المُناقَشةِ


يتناوَلُ هذا المَبحَثُ أبرَزَ الشُّبُهاتِ التي تمسَّك بها المُعتَزِلةُ استِدلالًا لقولِهم بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ، معَ إبرازِ مُناقَشةٍ مُختصَرةٍ لهذه الشُّبُهاتِ.
الشُّبهةُ الأولى:
ذكَر واصِلُ بنُ عطاءٍ أنَّه وجَد أحكامَ الكُفَّارِ المُجمَعَ عليها المنصوصةَ في القرآنِ كُلَّها زائِلةً عن صاحِبِ الكبيرةِ؛ فوجَب زوالُ اسمِ الكُفرِ عنه بزوالِ حُكمِه؛ لأنَّ الحُكمَ يتبَعُ الاسمَ، كما أنَّ الاسمَ يتبَعُ الفِعلَ.
وأحكامُ الكُفرِ المجمَعُ عليها على ضربَينِ:
الأوَّلُ: حُكمُ أهلِ الكتابِ: قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] ؛ فهذا حُكمُ اللهِ في أهلِ الكتابِ، وهو زائِلٌ عن صاحِبِ الكبيرةِ.
الثَّاني: حُكمُ اللهِ في مُشرِكي العربِ؛ قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد: 4] ؛ فهذا حُكمُ اللهِ في مُشرِكي العربِ، وفي كُلِّ كافِرٍ سِوى أهلِ الكتابِ، وهو زائِلٌ عن صاحِبِ الكبيرةِ، ثُمَّ قد جاء في السُّنَّةِ المُجمَعِ عليها أنَّ أهلَ الكُفرِ لا يتوارَثونَ، ولا يُدفَنونَ في مَقابِرِ أهلِ القِبلةِ، وليس يُفعَلُ ذلك بصاحِبِ الكبيرةِ.
وحُكمُ اللهِ في المُنافِقِ: أنَّه إن ستَر نِفاقَه وكان ظاهِرُه الإسلامَ، فهو مُسلِمٌ، له ما للمُسلِمينَ وعليه ما عليهم، وإن ظهَر كُفرُه استُتيب؛ فإن تاب وإلَّا قُتِل، وهذا الحُكمُ زائِلٌ عن صاحِبِ الكبيرةِ، وحُكمُ اللهِ في المُؤمِنِ الوِلايةُ والمحبَّةُ والوعدُ بالجنَّةِ؛ قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 257] ، وقال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [الأحزاب: 47] ، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة: 72] ، وحُكمُ اللهِ في صاحِبِ الكبيرةِ أنْ لعَنه وأعدَّ له عذابًا أليمًا؛ قال تعالى: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] ، وقال تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 14]، وما أشبَه ذلك مِن القرآنِ؛ فوجَب أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ ليس بمُؤمِنٍ؛ لزوالِ أحكامِ المُؤمِنِ عنه في كتابِ اللهِ، ووجَب أنَّه ليس بكافِرٍ؛ لزوالِ أحكامِ الكُفَّارِ عنه، ووجَب أنَّه ليس بمُنافِقٍ؛ لزوالِ أحكامِ المُنافِقينَ عنه في سنَّةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووجَب أنَّه فاسِقٌ فاجِرٌ؛ لتسميةِ اللهِ له بذلك؛ لذا فهو فاسِقٌ مُخلَّدٌ في النَّارِ؛ لتوعُّدِ اللهِ له بذلك، ولكنَّه في عذابٍ أخَفَّ مِن عذابِ الكافِرِ [1105] يُنظر: ((الانتصار)) للخيَّاط (ص: 118)، ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 713- 714)، ((طبقات المُعتزِلة)) لابن المرتضى (ص: 8). .
وقال واصِلُ بنُ عطاءٍ أيضًا: (إنَّ الإيمانَ عِبارةٌ عن خِصالِ خيرٍ إذا اجتمعَت سُمِّي المرءُ مُؤمِنًا وهو اسمُ مَدحٍ، والفاسِقُ لم يستكمِلْ خِصالَ الخيرِ، ولا استحقَّ اسمَ المَدحِ؛ فلا يُسمَّى مُؤمِنًا، وليس هو بكافِرِ أيضًا؛ لأنَّ الشَّهادةَ وسائِرَ أعمالِ الخيرِ موجودةٌ فيه لا وَجهَ لإنكارِها، لكنَّه إذا خرَج مِن الدُّنيا على كبيرةٍ مِن غَيرِ توبةٍ فهو مِن أهلِ النَّارِ خالِدًا فيها؛ إذ ليس في الآخِرةِ إلَّا فريقانِ: فريقٌ في الجنَّةِ، وفريقٌ في السَّعيرِ، ولكنَّه تُخفَّفُ عنه النَّارُ) [1106] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/48). .
المُناقَشةُ:
يُقالُ لهم: أمَّا قولُكم: إنَّه ليس بكافِرٍ، فهذا نُوافِقُكم عليه، وأمَّا قولُكم: إنَّه ليس بمُنافِقٍ، فكذلك هو ليس بمُنافِقٍ؛ لأنَّ كبيرتَه لا توجِبُ استتابتَه، فإن تاب وإلَّا قُتِل، كما يُفعَلُ معَ المُنافِقِ إذا ظهَر نِفاقُه، أمَّا إذا لم يظهَرْ فلم يُعلَمْ: هل هو مُنافِقٌ أم لا، فإنَّه يُعامَلُ مُعامَلةَ المُسلِمينَ.
وأمَّا قولُكم: إنَّه ليس بمُؤمِنٍ، فهذا على إطلاقِه لا نُوافِقُكم عليه، بل نقولُ: هو مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، قد نقَص إيمانُه بقَدْرِ ما ارتكَب مِن معصيةٍ؛ فهو مُؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه؛ فلا يكونُ له الاسمُ مُطلَقًا، ولا يُسلَبُ منه مُطلَقُ الإيمانِ.
وممَّا يدُلُّ على أنَّ الفاسِقَ لم تُخرِجْه كبيرتُه مِن الإيمانِ ما يلي:
1- الآياتُ والأحاديثُ النَّاطِقةُ بإطلاقِ لفظِ الإيمانِ على العاصي، كقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِاْلأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 178] ؛ فقد سمَّى اللهُ القاتِلَ أخًا للمقتولِ، وهي الأُخوَّةُ الإيمانيَّةُ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ كبيرةَ القَتلِ لم تُخرِجْه مِن الإيمانِ، وقَبلَ ذلك فقد خاطَبهم جميعًا بلفظِ الإيمانِ معَ أنَّ فيهم قَتَلةُ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ الكبيرةَ لا تُخرِجُ مِن الإيمانِ.
وكقولِه تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] ؛ فقد أطلَق اسمَ الإيمانِ على الطَّائِفتَينِ المُتقاتِلتَينِ مِن المُؤمِنينَ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ كبيرةَ القَتلِ لم تُخرِجْهما مِن الإيمانِ، وكذلك كبيرةُ البَغيِ [1107] يُنظر: ((الروضة الندية شرح الواسطية)) للفياض (ص: 392) بتصَرُّفٍ. .
ومِن الأحاديثِ الدَّالَّةِ على أنَّ الفاسِقَ معَه إيمانٌ: ما رواه أبو ذَرٍّ رضِي اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ قال: ((ما مِن عبدٍ قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، ثُمَّ مات على ذلك إلَّا دخَل الجنَّةَ، قُلْتُ: وإن زنى وإن سرَق؟ قال: وإن زنى وإن سرَق، قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرَق، قُلْتُ: وإن زنى وإن سرَق؟ قال: وإن زنى وإن سرَق على رَغمِ أنفِ أبي ذَرٍّ )) [1108] أخرجه البُخاريُّ (5827) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (94). ؛
ففي هذا الحديثِ دَلالةٌ على أنَّ مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، وإن ارتكَب شيئًا مِن الكبائِرِ؛ فإنَّه يدخُلُ الجنَّةَ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ كبيرتَه لم تُخرِجْه مِن الإيمانِ.
2- إجماعُ الأمَّةِ مِن عَصرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى يومِنا هذا على الصَّلاةِ على مَن مات مِن أهلِ القِبلةِ مِن غَيرِ توبةٍ، والدُّعاءِ والاستِغفارِ لهم، معَ العِلمِ بارتِكابِهم للكبائِرِ، بَعدَ الاتِّفاقِ على أنَّ ذلك لا يجوزُ لغَيرِ المُؤمِنِ [1109] ((شرح العقائد)) (ص: 119) بتصَرُّفٍ. ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّهم لم يخرُجوا مِن الإيمانِ.
3- قولُكم: إنَّ الفاسِقَ قد أخرَجه فِسقُه مِن الإيمانِ، ينبني على أنَّ الإيمانَ إذا ذهَب بعضُه ذهَب كُلُّه؛ لأنَّهم يقولونَ: إنَّ مَن عمِل كبيرةً لم يبقَ معَه مِن الإيمانِ شيءٌ، وهو باطِلٌ.
قال ابنُ تيميَّةَ في مَعرِضِ الرَّدِّ على مَن قال بهذا القولِ: (وأمَّا قولُ القائِلِ: إنَّ الإيمانَ إذا ذهَب بعضُه ذهَب كُلُّه؛ فهذا ممنوعٌ، وهذا هو الأصلُ الذي تفرَّعَت عنه البِدَعُ في الإيمانِ؛ فإنَّهم ظنُّوا أنَّه متى ذهَب بعضُه ذهَب كُلُّه، ولم يبقَ منه شيءٌ، ثُمَّ قالت الخوارِجُ والمُعتَزِلةُ: هو مجموعُ ما أمَر اللهُ به ورسولُه، وهو الإيمانُ المُطلَقُ، كما قاله أهلُ الحديثِ، قالوا: فإذا ذهَب شيءٌ منه لم يبقَ معَ صاحِبِه مِن الإيمانِ شيءٌ، فيُخَلَّدُ في النَّارِ. وقالت المُرجِئةُ على اختِلافِ فِرَقِهم: لا تُذهِبُ الكبائِرُ وتَركُ الواجِباتِ الظَّاهِرةِ شيئًا مِن الإيمانِ؛ إذ لو ذهَب شيءٌ منه لم يبقَ منه شيءٌ، فيكونُ شيئًا واحِدًا يستوي فيه البَرُّ والفاجِرُ، ونُصوصُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه تدُلُّ على ذَهابِ بعضِه وبقاءِ بعضِه، كقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أخرِجوا مَن كان في قَلبِه مِثقالُ حبَّةٍ مِن خَردَلٍ مِن إيمانٍ )) [1110] أخرجه البُخاريُّ (22) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (184) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ ولهذا كان أهلُ السُّنَّةِ والحديثِ على أنَّه يتفاضَلُ، وجُمهورُهم يقولونَ: يزيدُ وينقُصُ، وقد ثبَت لفظُ الزِّيادةِ والنُّقصانِ منه عن الصَّحابةِ، ولم يُعرَفْ فيهم مُخالِفٌ؛ فمِن ذلك ما رُوِي مِن وُجوهٍ كثيرةٍ عن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، عن أبي جَعفَرٍ، عن جَدِّه عُمَيرِ بنِ حَبيبِ الخَطْميِّ، وهو مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (الإيمانُ يزيدُ وينقُصُ، قيل له: وما زيادتُه وما نُقصانُه؟ قال: إذا ذكَرْنا اللهَ وحمِدْناه وسبَّحْناه فتلك زيادتُه، وإذا غفَلنا ونسينا فذلك نُقصانُه) [1111] أخرجه ابنُ أبي شيبة (30963)، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (624)، والخَلَّال في ((السنة)) (1582) باختلافٍ يسيرٍ. قال ابنُ تَيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (7/224): رُوي من وجوهٍ كثيرةٍ، مشهورٌ. وقال السَّفَّاريني الحنبلي في ((لوائح الأنوار السنية)) (2/307): رُوِي من وجوهٍ كثيرةٍ شهيرةٍ. ...، وأيضًا: فإنَّ الزِّيادةَ قد نطَق بها القرآنُ في عِدَّةِ آياتٍ، كقولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] .
وهذه الزِّيادةُ وقتَ تلاوةِ الآيةِ، وليس هو تصديقَهم بها عندَ النُّزولِ، وكقولِه تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] ؛ فهذه الزِّيادةُ عندَ تخويفِهم العَدُوَّ لم تكنْ عندَ آيةٍ نزلَت، فازدادوا يقينًا وتوكُّلًا على اللهِ، وثباتًا على الجِهادِ) [1112] ((الإيمان)) لابن تَيميَّة (ص: 190- 192) بتصَرُّفٍ، ويُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 276- 278). .
ومِثلُ هذه الآياتِ كثيرٌ؛ فإذا ثبَت أنَّ الإيمانَ يذهَبُ بعضُه، ويبقى بعضُه، وأنَّه يزيدُ ويَنقُصُ، بطَل قولُهم: إنَّ الفِسقَ يُخرِجُ مِن الإيمانِ، وعلى ذلك فالفاسِقُ مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، وليس في منزِلةٍ بَينَ منزِلتَيِ الكُفرِ والإيمانِ كما تدَّعونَ.
ونقولُ أيضًا: ما دام مُرتكِبُ الكبيرةِ معَه مِن الإيمانِ شيءٌ ولو إيمانًا ناقِصًا، فإنَّه لا يُخَلَّدُ في النَّارِ، بل يُعذَّبُ على قَدرِ ذَنبِه، ثُمَّ يُخرَجُ مِن النَّارِ ويُدخَلُ الجنَّةَ؛ لقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، ولقولِه تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ، ولقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يدخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يقولُ اللهُ تعالى: أخرِجوا مَن كان في قلبِه مِثقالُ حبَّةٍ مِن خَردَلٍ مِن إيمانٍ )) [1113] أخرجه البُخاريُّ (22) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (184) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقد سبَق عَرضُ شيءٍ مِن شُبُهاتِ المُعتَزِلةِ في قولِهم بتخليدِ صاحِبِ الكبيرةِ في النَّارِ معَ مُناقَشتِها، عندَ الكلامِ على أصلِ الوعدِ والوعيدِ؛ فإذًا: قولُهم بتخليدِ صاحِبِ الكبيرةِ في النَّارِ باطِلٌ، وعليه فتَبطُلُ هذه الشُّبهةُ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّانيةُ:
قال الخيَّاطُ: (إنَّ واصِلَ بنَ عطاءٍ لم يُحدِثْ قولًا لم تكنِ الأمَّةُ تقولُ به؛ إذ إنَّه وجَد الأمَّةَ مُجمِعةً على تسميةِ أهلِ الكبائِرِ بالفِسقِ والفُجورِ، مُختلِفةً فيما سِوى ذلك مِن أسمائِهم؛ فأخَذ بما أجمَعوا عليه، وتفسيرُ ذلك: أنَّ الخوارِجَ وأصحابَ الحَسنِ كُلُّهم مُجمِعونَ والمُرجِئةَ على أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ فاسِقٌ فاجِرٌ، ثُمَّ تفرَّدَت الخوارِجُ، فقالت: هو معَ فِسقِه وفُجورِه كافِرٌ، وقالت المُرجِئةُ هو معَ فِسقِه وفُجورِه مُؤمِنٌ، وقال الحَسنُ ومَن تابَعه: هو معَ فِسقِه وفُجورِه مُنافِقٌ.
فقال لهم واصِلُ بنُ عطاءٍ: قد أجمعْتُم على أن سمَّيتُم صاحِبَ الكبيرةِ بالفِسقِ والفُجورِ؛ فهو اسمٌ له صحيحٌ بإجماعِكم، وقد نطَق القرآنُ به في آيةِ القاذِفِ وغَيرِها مِن القرآنِ؛ فوجَب تسميتُه بذلك، وما تفرَّد به كُلُّ فريقٍ منكم مِن الأسماءِ فدعوى لا تُقبَلُ منه إلَّا ببيِّنةٍ مِن كتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1114] ((الانتصار)) للخيَّاط (ص: 118). .
المُناقَشةُ:
1- إنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ؛ فهو مُؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه، كما تبيَّن عندَ الرَّدِّ على الشُّبهةِ الأولى، ثُمَّ إنَّ إيمانَه مُتَّفَقٌ عليه بَينَ السَّلفِ؛ فإذًا قولُهم: إنَّ إيمانَه مُختلَفٌ فيه، باطِلٌ [1115] يُنظر: ((المواقف في علم الكلام)) للإيجِيِّ (8/339) بتصَرُّفٍ. .
2- إنَّ في قولِهم بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ تَركًا للمُتَّفَقِ عليه بَينَ السَّلفِ، ومنهم الحَسنُ؛ لأنَّ النِّفاقَ كُفرٌ إن أظهَره صاحِبُه، وإن لم يُظهِرْه فيُعامَلُ مُعامَلةَ المُسلِمينَ، إضافةً إلى ذلك فقد نُقِل عنه الرُّجوعُ عن هذا القولِ إلى المذهَبِ الحقِّ والمُتَّفَقِ عليه، وهو أنَّ المُكلَّفَ إمَّا مُؤمِنٌ أو كافِرٌ، ولا واسِطةَ بَينَهما، وأخَذَ بما لم يقُلْ به أحدٌ فَضلًا عن الاتِّفاقِ؛ فإذًا قولُهم بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ إحداثٌ للقولِ المُخالِفِ لِما أجمَع عليه السَّلفُ [1116] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/334). ؛ فيكونُ باطِلًا، وبذلك تَبطُلُ هذه الشُّبهةُ. واللهُ أعلَمُ.

انظر أيضا: