موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: الأدلَّةُ السَّمعيَّةُ التي استدلَّ بها المُعتَزِلةُ على خُلودِ مُرتكِبِ الكبيرةِ في النَّارِ


استدلُّوا بعُمومِ الآياتِ الوارِدةِ في الوعيدِ، ومِن هذه الآياتِ التي هي مَناطُ استِدلالِهم:
1- قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 14] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تبارَك وتعالى أخبَر أنَّ العُصاةَ يُعذَّبونَ بالنَّارِ ويُخَلَّدونَ فيها، والعاصي اسمٌ يتناوَلُ الفاسِقَ والكافِرَ جميعًا، فيجِبُ حَملُه عليهما؛ لأنَّه تعالى لو أراد أحدَهما دونَ الآخَرِ لبيَّنه، فلمَّا لم يُبيِّنْه دلَّ على ما ذكَرْناه [1095] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 657). .
2- قولُ اللهِ سُبحانَه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تعالى بيَّن أنَّ مَن يقتُلْ مُؤمِنًا عَمدًا جازاه وعاقَبه، وغضِب عليه ولعَنه، وفي ذلك ما يُؤكِّدُ كونَه على سبيلِ الدَّوامِ، كما هو مُصرَّحٌ بذِكرِ الخُلودِ في الآيةِ [1096] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 660). .
3- قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المُجرِمَ اسمٌ يتناوَلُ الكافِرَ والفاسِقَ جميعًا، فيجِبُ أن يكونا مُرادَينِ بالآيةِ، معنيَّينِ بالنَّارِ؛ لأنَّه تعالى لو أراد أحدَهما دونَ الآخَرِ لبيَّنه، فلمَّا لم يُبيِّنْه دلَّ على أنَّه أرادهما جميعًا [1097] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 660). .
هذه بعضُ أدلَّةِ المُعتَزِلةِ مِن القرآنِ الكريمِ على قولِهم بتخليدِ مُرتكِبِ الكبيرةِ في النَّارِ.
وذكَر القاضي عبدُ الجبَّارِ طريقةً أخرى للاستِدلالِ على هذا المُعتقَدِ، فقال: (هنا طريقةٌ أخرى مُركَّبةٌ مِن السَّمعِ، وتحريرُها: هو أنَّ العاصيَ لا يخلو حالُه مِن أحدِ أمرَينِ: إمَّا أن يُعفى عنه، أو لا يُعفى عنه؛ فإن لم يُعفَ عنه فقد بقِي في النَّارِ خالِدًا، وهو الذي نقولُه، وإن عُفِي عنه فلا يخلو إمَّا أن يدخُلَ الجنَّةَ أو لا؛ فإن لم يدخُلِ الجنَّةَ لم يصِحَّ؛ لأنَّه لا دارَ بَينَ الجنَّةِ والنَّارِ، فإذا لم يكنْ في النَّارِ وجَب أن يكونَ في الجنَّةِ لا محالةَ، وإذا دخَل الجنَّةَ فلا يخلو إمَّا أن يدخُلَها مُثابًا أو مُتفضَّلًا عليه، ولا يجوزُ أن يدخُلَ الجنَّةَ مُتفضَّلًا عليه؛ لأنَّ الأمَّةَ اتَّفَقَت على أنَّ المُكلَّفَ إذا دخَل الجنَّةَ فلا بُدَّ أن يكونَ حالُه مُتميِّزًا عن حالِ الوِلدانِ المُخلَّدينَ، وعن حالِ الأطفالِ والمجانينِ، ولا يجوزُ أن يدخُلَ الجنَّةَ مُثابًا؛ لأنَّه غَيرُ مُستحِقٍّ، وإثابةُ مَن لا يستحِقُّ الثَّوابَ قبيحٌ، واللهُ تعالى لا يفعَلُ القبيحَ) [1098] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 666). .
وغَرضُه مِن هذا الكلامِ هو القولُ بأنَّ الفاسِقَ لا يجوزُ على اللهِ تعالى أن يعفوَ عنه ويُدخِلَه الجنَّةَ؛ لأنَّ دُخولَه الجنَّةَ لا يكونُ إلَّا عن ثوابٍ لا عن تفضُّلٍ مِن اللهِ سُبحانَه؛ فالجنَّةُ عِوَضٌ لازِمٌ للإنسانِ عن أعمالِ الخيرِ إذا لم يَشُبْها كبائِرُ، والفاسِقُ لا ثوابَ له، وإثابةُ مَن لا يستحِقُّ الثَّوابَ قبيحٌ على اللهِ تعالى، والحُسنُ والقُبحُ -كما هو معروفٌ- أحدُ أُصولِ المُعتَزِلةِ التي يسيرونَ عليها في مُعتقَداتِهم، وإذا ثبَت هذا فلا بُدَّ مِن دُخولِ الفاسِقِ النَّارَ خالِدًا، ولا يجوزُ على اللهِ تعالى أن يعفوَ عنه، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا.

انظر أيضا: