موسوعة الفرق

الفصلُ التَّاسعُ: مِن أسبابِ التَّفرُّقِ: اتِّباعُ الهوى


أمرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ بوُجوبِ طاعتِه وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووصَّانا سبحانَه بلُزومِ الصِّراطِ المُستقيمِ واتِّباعِه، وبيَّن عزَّ وجلَّ أنَّ مَن خرَج عن الصِّراطِ المُستقيمِ لِما تهواه نَفسُه فهو تائِهٌ ضالٌّ بذلك  [224] يُنظر: ((منهاج السُّنَّة النبوية)) لابن تيمية (1/19). .
قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
فهما أمرانِ لا ثالثَ لهما: إمَّا أن يكونَ المرءُ مُتَّبِعًا للحقِّ، أو يكونَ مُتَّبِعًا للهوى.
قال الشَّاطِبيُّ في ذمِّه للبِدَعِ: (... أنَّه اتِّباعٌ للهوى؛ لأنَّ العقلَ إذا لم يكنْ مُتَّبِعًا للشَّرعِ لم يبقَ له إلَّا الهوى والشَّهوةُ، وأنت تعلَمُ ما في اتِّباعِ الهوى، وأنَّه ضلالٌ مُبينٌ، ألا ترى قولَ اللهِ تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26] ؟ فحصَر الحُكمَ في أمرَينِ لا ثالِثَ لهما عندَه، وهو الحقُّ والهوى، وعزَل العَقلَ مُجرَّدًا؛ إذ لا يمكِنُ في العادةِ إلَّا ذلك)  [225] ((الاعتصام)) (ص: 35). .
وقال أيضًا: (مِن أسبابِ الخلافِ: اتِّباعُ الهوى؛ ولذلك سُمِّي أهلُ البِدَعِ أهلَ الأهواءِ؛ لأنَّهم اتَّبَعوا أهواءَهم، فلم يأخُذوا الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ مأخَذَ الافتِقارِ إليها، والتَّعويلِ عليها حتَّى يَصدُروا عنها، بل قدَّموا أهواءَهم، واعتمَدوا على آرائِهم، ثُمَّ جعَلوا الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ منظورًا فيها مِن وراءِ ذلك)  [226] ((الاعتصام)) (ص: 447). .
والدَّليلُ على ذلك أنَّك لا تجِدُ مُبتدِعًا ممَّن يُنسَبُ إلى المِلَّةِ إلَّا وهو يستشهِدُ على بِدعتِه بدليلٍ شرعيٍّ، فيُنزِلُه على ما وافَق عَقلَه وشهوتَه.
وإذا دخل الهوى أدَّى إلى اتِّباعِ المُتشابِهِ، وأدَّى إلى الفُرقةِ والتَّقاطُعِ والعداوةِ والبغضاءِ؛ لاختِلافِ الأهواءِ وعَدمِ اتِّفاقِها، وإنَّما جاء الشَّرعُ بحَسمِ مادَّةِ الهوى بإطلاقٍ  [227] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/576)، ويُنظر: منه (4/536). ؛ لذلك لم يأتِ في القرآنِ ذِكرُ الهوى إلَّا في مَعرِضِ الذَّمِّ  [228] يُنظر: ((الاعتصام)) (ص: 450). .
وقد جاء الأمرُ صريحًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّباعِ الشَّرعِ الحنيفِ، والنَّهيِ عن اتِّباعِ الهوى، فقال سُبحانَه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18] .
قال السَّعديُّ: (أي: ثُمَّ شرَعْنا لك شريعةً كامِلةً تدعو إلى كُلِّ خيرٍ، وتنهى عن كُلِّ شرٍّ مِن أمرِنا الشَّرعيِّ، فاتَّبِعْهَا؛ فإنَّ في اتِّباعِها السَّعادةَ الأبديَّةَ والصَّلاحَ والفلاحَ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، أي: الذين تكونُ أهويتُهم غَيرَ تابِعةٍ للعِلمِ، ولا ماشِيةٍ خَلفَه، وهُم كُلُّ مَن خالَف شريعةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هواه وإرادتُه؛ فإنَّه مِن أهواءِ الذين لا يعلَمونَ)  [229] ((تفسير السعدي)) (ص: 777). .
وقد كان السَّلفُ يعُدُّونَ كُلَّ مَن خرَج عن الشَّريعةِ في شيءٍ مِن الدِّينِ مِن أهلِ الأهواءِ، ويجعَلونَ أهلَ البِدَعِ هم أهلَ الأهواءِ، ويذُمُّونَهم بذلك.
قال أبو العاليةِ: (تعلَّموا الإسلامَ؛ فإذا علِمْتُموه فلا ترغَبوا عنه، وعليكم بالصِّراطِ المُستقيمِ؛ فإنَّ الصِّراطَ المُستقيمَ الإسلامُ، ولا تُحرِّفوه يمينًا وشِمالًا، وعليكم بسُنَّةِ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه...، وإيَّاكم وهذه الأمورَ التي تُلقي بَينَ النَّاسِ العَداوةَ والبَغضاءَ)  [230] أخرجه عبد الرزاق (20758) واللَّفظُ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/163)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/218). .
ولْيُعلَمْ أنَّ النَّهيَ عن اتِّباعِ الهوى نَهيٌ يشمَلُ:
1. هوى الشَّهواتِ: وهو داءُ العُصاةِ.
2. هوى الشُّبهاتِ: وهو داءُ المُبتدِعةِ وأهلِ الأهواءِ والخُصوماتِ.
وهُما مذكورانِ في قولِ اللهِ تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [التوبة: 69] .
قال السَّعديُّ: (أنتم أعمالُكم شبيهةٌ بأعمالِهم؛ استمتَعْتُم بخَلاقِكم، أي: بنَصيبِكم مِن الدُّنيا، فتناوَلْتُموه على وَجهِ اللَّذَّةِ والشَّهوةِ مُعرِضينَ عن المُرادِ منه، واستعنْتُم به على معاصي اللهِ، ولم تتعَدَّ همَّتُكم وإرادتُكم ما خُوِّلْتُم مِن النِّعَمِ كما فعَل الذين مِن قَبلِكم، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا، أي: وخُضْتُم بالباطِلِ والزُّورِ وجادَلْتُم بالباطِلِ لتَدحَضوا به الحقَّ، فهذه أعمالُهم وعُلومُهم؛ استِمتاعٌ بالخَلَاقِ وخوضٌ بالباطِلِ؛ فاستحَقُّوا مِن العُقوبةِ والإهلاكِ ما استحقَّ مَن قَبلَهم ممَّن فعَلوا كفِعلِهم، وأمَّا المُؤمِنونَ فهُم وإن استمْتَعوا بنَصيبِهم وما خُوِّلوا مِن الدُّنيا؛ فإنَّه على وَجهِ الاستِعانةِ به على طاعةِ اللهِ، وأمَّا عُلومُهم فهي عُلومُ الرُّسلِ، وهي الوُصولُ إلى اليقينِ في جميعِ المطالِبِ العالِيةِ، والمجادَلةُ بالحقِّ لإدحاضِ الباطِلِ)  [231] ((تفسير السعدي)) (ص: 343). .
وكان السَّلفُ يقولونَ: احذَروا مِن النَّاسِ صِنفَينِ: صاحِبَ هوًى قد فتَنه هواه، وصاحِبَ دُنيا أعمَتْه دُنياه، والدَّواءُ لهذَينِ الدَّاءَينِ يكونُ بالصَّبرِ واليقينِ، كما قال اللهُ تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] ، فبالصَّبرِ تُترَكُ الشَّهواتُ، وباليقينِ تُدفَعُ الشُّبُهاتُ  [232] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/118 - 123)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/68، 136)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/397). .

انظر أيضا: