موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: مُناقَشةُ رأيِ المُعتَزِلةِ في بَعثةِ الأنبياءِ


يُقالُ لهم: ما مُرادُكم بالواجِبِ هنا؟ إن كنتُم تُريدونَ واجِبًا على اللهِ أوجَبه الغَيرُ عليه، فهذا باطِلٌ؛ لأنَّه يستحيلُ مُوجِبٌ يُوجِبُ على اللهِ شيئًا [953] يُنظر: ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 79). ؛ لمُنافاتِه مشيئةَ اللهِ واختيارَه المُطلَقَ في مخلوقاتِه، ولأنَّ في تَركِ هذا النَّوعِ مِن الواجِبِ إمَّا حُصولُ مضرَّةٍ، أو فَواتُ منفعةٍ، أو لُزومُ مُحالِ. واللهُ تعالى يتنزَّهُ عن ذلك كُلِّه؛ فإنَّه لا ينتفِعُ بإرسالِ الرُّسلِ، ولا يتضرَّرُ بتَركِ إرسالِهم، ولا يلزَمُ مِن عَدمِ إرسالِهم مُحالٌ بالنِّسبةِ له تعالى [954] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 175). .
وإذًا فالقولُ بوُجوبِ بَعثةِ الرُّسلِ مِن هذا الوَجهِ باطِلٌ.
بقي الواجِبُ الذي أوجَبه سُبحانَه وتعالى على نَفسِه بمُقتضى وعدِه وعدلِه وحِكمتِه، وهو أنَّه تعالى لا يعذِّبُ إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسلِ؛ قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، وقال تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] ، وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] ، وإذا كان مُرادُكم بوُجوبِ بَعثةِ الرُّسلِ مِن هذا الوَجهِ فنحن نُوافِقُكم عليه.
قال ابنُ القيِّمِ: (إنَّ تعذيبَ اللهِ لمَن يُريدُ تعذيبَه لا يكونُ إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسلِ، أمَّا قَبلَ ذلك فإنَّه لا يُريدُ هلاكَهم؛ لأنَّهم معذورونَ بغفلتِهم وعَدمِ بُلوغِ الرِّسالةِ إليهم، قال تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] ) [955] ((شفاء العليل)) (ص: 281). .
ثُمَّ إنَّ هذا الواجِبَ مِن بابِ التَّفضُّلِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى تفضَّل به ولم يوجِبْه أحدٌ عليه، ولا يلزَمُ منه أنَّ اللهَ تعالى لو لم يفعَلْه لأخَلَّ بما هو واجِبٌ عليه، وإلَّا انتفَت مشيئةُ اللهِ واختيارُه المُطلَقُ.
وإذًا فإرسالُ الرُّسلِ مِنَّةٌ مِن اللهِ وفَضلٌ، وليس مِن قَبيلِ الواجِبِ الذي أوجَبه الغَيرُ عليه؛ بحيثُ لو لم يفعَلْه لأخَلَّ بما هو واجِبٌ عليه.

انظر أيضا: