موسوعة الفرق

الفَرعُ الثَّالثُ: مُناقَشةُ رأيِ المُعتَزِلةِ في الصَّلاحِ والأصلَحِ


عندَ عَرضِ رأيِ المُعتَزِلةِ في الصَّلاحِ والأصلَحِ جاء أنَّ المُعتَزِلةَ يرَونَ وُجوبَ الصَّلاحِ والأصلَحِ على اللهِ لعِبادِه.
فيُقالُ: إنَّ اللهَ تعالى أمَر العِبادَ بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عمَّا فيه فسادُهم، وأنَّه تعالى يفعَلُ بالعِبادِ ما فيه [943] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تَيميَّة (1/325). صلاحُهم، لكن لا على سبيلِ الوُجوبِ؛ وذلك لأنَّ الوُجوبَ منفيٌّ عن اللهِ تعالى؛ إذ المفهومُ منه ما ينالُ تارِكَه ضَررٌ عاجِلًا أو آجِلًا، أو ما يكونُ نقيضُه مُحالًا، وهذه كُلُّها يتنزَّهُ اللهُ عنها؛ فإنَّه تعالى لا ينتفِعُ بعَملٍ ولا يتضرَّرُ بتَركِه، ولا يلزَمُ مِن ذلك مُحالٌ [944] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 175، 184). ويُنظر: ((الإحياء)) (1/111، 112) كلاهما للغزالي. ، بل إنَّ الواجِبَ على اللهِ مُحالٌ؛ لاستِحالةِ موجِبٍ فوقَه يوجِبُ عليه شيئًا.
قال ابنُ تيميَّةَ في مَعرِضِ دَرءٍ على مَن يقولُ بالوُجوبِ على اللهِ: (وأمَّا الإيجابُ عليه سُبحانَه وتعالى والتَّحريمُ بالقياسِ على خَلقِه؛ فهذا قولُ القَدَريَّةِ، وهو قولٌ مُبتدَعٌ مُخالِفٌ لصحيحِ المنقولِ، وصريحِ المعقولِ، وأهلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقونَ على أنَّه سُبحانَه خالِقُ كُلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، وأنَّه ما شاء كان، وما لم يشَأْ لم يكنْ، وأنَّ العِبادَ لا يوجِبونَ عليه شيئًا؛ ولهذا كان مَن قال مِن أهلِ السُّنَّةِ بالوُجوبِ قال: إنَّه كتَب على نَفسِه الرَّحمةَ وحرَّم الظُّلمَ على نَفسِه، لا أنَّ العبدَ نَفسَه مُستحِقٌّ على اللهِ شيئًا كما يكونُ للمخلوقِ على المخلوقِ؛ فإنَّ اللهَ هو المُنعِمُ على العِبادِ بكُلِّ خيرٍ، وهو الخالِقُ لهم، وهو المُرسِلُ إليهم الرُّسلَ، وهو المُيسِّرُ لهم بالإيمانِ والعَملِ الصَّالِحِ.
ومَن توهَّم مِن القَدَريَّةِ والمُعتَزِلةِ ونَحوِهم: أنَّهم يستحِقُّونَ عليه مِن جنسِ ما يستحِقُّه الأجيرُ على المُستأجِرِ، فهو جاهِلٌ في ذلك، وإذا كان كذلك لم تكنِ الوسيلةُ إليه إلَّا بما منَّ به مِن فَضلِه وإحسانِه، والحقُّ الذي لعِبادِه هو مِن فَضلِه وإحسانِه، ليس مِن بابِ المُعاوَضةِ، ولا مِن بابِ ما أوجَبه غَيرُه عليه؛ فإنَّه سُبحانَه يتعالى عن ذلك) [945] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص: 409- 410). .
إذًا: كُلُّ نِعمةٍ مِن اللهِ على خَلقِه تُعتبَرُ مِن بابِ التَّفضُّلِ، حتَّى ما أوجَبه سُبحانَه وتعالى على نَفسِه مِن بابِ التَّفضُّلِ؛ لأنَّه لم يوجِبْه أحدٌ عليه، وبذلك يَبطُلُ الوُجوبُ على اللهِ، وإذا بطَل الوُجوبُ عليه سُبحانَه وتعالى بطَل قولُ المُعتَزِلةِ بوُجوبِ الصَّلاحِ والأصلَحِ على اللهِ لعِبادِه.
كذلك ردَّ الغَزاليُّ على المُعتَزِلةِ قولَهم بوُجوبِ الصَّلاحِ والأصلَحِ على اللهِ، فقال: (وممَّا يدُلُّ على بُطلانِ قولِ المُعتَزِلةِ بوُجوبِ الصَّلاحِ والأصلَحِ المُشاهَدةُ والوُجودُ.
فإنَّنا نُريهم مِن أفعالِ اللهِ تعالى ما يلزَمُهم الاعتِرافُ بأنَّه لا صلاحَ فيها للعبدِ؛ فإنَّا نفرِضُ ثلاثةَ أطفالٍ مات أحدُهم وهو مُسلِمٌ في الصِّبا، وبلَغ الآخَرُ وأسلَم ومات مُسلِمًا بالِغًا، وبلَغ الثَّالثُ كافِرًا ومات على الكُفرِ؛ فإنَّ العدلَ عندَهم أن يُخَلَّدَ الكافِرُ البالِغُ في النَّارِ، وأن يكونَ للبالِغِ المُسلِمِ في الجنَّةِ رُتبةٌ فوقَ رُتبةِ الصَّبيِّ المُسلِمِ، فإذا قال الصَّبيُّ: يا ربِّ لمَ حططْتَ رُتبتي عن رُتبتِه؟ فيقولُ: لأنَّه بلَغ فأطاعني، وأنت لم تُطِعْني بالعِباداتِ بَعدَ البُلوغِ، فيقولُ: يا ربِّ؛ لأنَّك أمتَّني قَبلَ البُلوغِ؛ فكان صلاحي في أن تمُدَّني بالحياةِ حتَّى أبلُغَ فأُطيعَ فأنالَ رُتبتَه، فلِمَ حرَمْتَني هذه الرُّتبةَ أبدَ الآبِدينَ، وكنْتَ قادِرًا على أن تُؤهِّلَني لها؟ فلا يكونُ له جوابٌ إلَّا أن يقولَ: علمْتُ أنَّك لو بلغْتَ لعصَيتَ، وما أطعْتَ وتعرَّضْتَ لعِقابي وسَخَطي، فرأَيتُ هذه الرُّتبةَ النَّازِلةَ أَولى بك وأصلَحَ لك مِن العُقوبةِ، فيُنادي الكافِرُ البالِغُ مِن الهاويةِ، ويقولُ: يا ربِّ، أوَما علِمْتَ أنِّي إذا بلغْتُ كفرْتُ؟ فلو أمتَّني في الصِّبا، وأنزَلْتَني في تلك المنزِلةِ النَّازِلةِ؛ لكان أحَبَّ إليَّ مِن التَّخليدِ في النَّارِ، وأصلَحَ لي، فلِمَ أحيَيْتَني؟ ثُمَّ قال: ومعلومٌ أنَّ هذه الأقسامَ موجودةٌ، وبها يظهَرُ على القَطعِ؛ لأنَّ الأصلَحَ ليس بواجِبٍ) [946] ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 184- 185). .
كذلك ردَّ عليهم الإسْفِرايِينيُّ فقال في جُملةِ ردِّه: (كُلُّ عاقِلٍ يعلَمُ أنَّ الكافِرَ لا صلاحَ له في كُفرِه ولا ما يحِلُّ به مِن تَبِعاتِ فِعلِه، فعلى هذا يجِبُ أن تكونَ حُجَّةُ اللهِ مُنقطِعةً؛ حتَّى لا يكونَ له على عبيدِه حُجَّةٌ، ويُصوِّرُ ذلك في ثلاثةٍ وُلِدوا دَفعةً واحِدةً: أمات اللهُ أحدَهم في حالِ الطُّفولةِ، وبلَغ الاثنانِ، أسلَم أحدُهما، وبقِي الآخَرُ كافِرًا) [947] ((التبصير في الدين)) (ص: 68). ، ثُمَّ أتى بردِّ الغَزاليِّ.
وبما ذُكِر يتَّضِحُ بُطلانُ قولِ المُعتَزِلةِ: يجِبُ على اللهِ أن يفعَلَ بالعِبادِ ما فيه صلاحُهم. واللهُ أعلَمُ.

انظر أيضا: