موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: خِلافُ المُعتَزِلةِ في أفعالِ التَّولُّدِ


اختلَف المُعتَزِلةُ في أفعالِ التَّولُّدِ على أقوالٍ؛ أهَمُّها ما يلي:
القولُ الأوَّلُ: قولُ مَن قال: إنَّ المُتولِّداتِ أفعالٌ لا مُحدِثَ لها
وممَّن قال بهذا القولِ: ثُمامةُ بنُ الأشرَسِ.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ وهو يتكلَّمُ عن الخِلافِ حَولَ المُتولِّداتِ: (فأمَّا ثُمامةُ بنُ الأشرَسِ فإنَّه جعَل هذه الحوادِثَ -ما عدا الإرادةَ- حَدَثًا لا مُحدِثَ له) [908] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 388). .
شُبهةُ ثُمامةَ:
روى الشَّهْرَسْتانيُّ رأيَ ثُمامةَ في الفِعلِ المُتولِّدِ وشُبهتَه، فقال: (انفرَد ثُمامةُ عن أصحابِه بمسائِلَ؛ منها: قولُه: إنَّ الأفعالَ المُتولِّدةَ لا فاعِلَ لها؛ إذ لم يُمكِنْه إضافتُها إلى فاعِلِ أسبابِها؛ لأنَّه يلزَمُ أن يُضيفَ الفِعلَ إلى ميِّتٍ مِثلَما إذا فَعَل السَّببَ ومات ووُجد المُتولِّدُ بَعدَه، ولم يُمكِنْه إضافتُها إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى فِعلِ القبيحِ، وذلك مُحالٌ، فتحيَّر فيه، وقال: المُتولِّداتُ أفعالٌ لا فاعِلَ لها) [909] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/71). .
المُناقَشةُ:
يُقالُ لثُمامةَ: إنَّك حصَرْتَ أفعالَ التَّولُّدِ بَينَ أن تكونَ فِعلًا للهِ، أو فِعلًا للعِبادِ، أو فِعلًا لا فاعِلَ له، ثُمَّ أبطلْتَ أن تكونَ فِعلًا للهِ أو فِعلًا للعِبادِ؛ لِيَثبُتَ لك رأيُك، وهو أنَّها فِعلٌ لا فاعِلَ له، ونقولُ: إنَّ قولَك: أفعالُ التَّولُّدِ فِعلٌ لا فاعِلَ له غَيرُ صحيحٍ، وذلك أنَّه يلزَمُ مِن هذا القولِ إجازةُ حُدوثِ كُلِّ فِعلٍ لا مِن فاعِلٍ؛ لأنَّه لا فرقَ بَينَ بعضِها وبَينَ البعضِ الآخَرِ في الاحتياجِ إلى مُحدِثٍ وفاعِلٍ [910] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 389)، ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 177) بتصَرُّفٍ. ، وإجازةُ حُدوثِ كُلِّ فِعلٍ لا مِن فاعِلٍ كُفرٌ؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى إبطالِ الصَّانِعِ، وما يُؤدِّي إلى الكُفرِ مِثلُه.
قال الجُوَينيُّ وهو يرُدُّ على أصحابِ التَّولُّدِ: (إذا جاز ثُبوتُ فِعلٍ لا فاعِلَ له، جاز أيضًا المصيرُ إلى أنَّ ما نعلَمُه مِن جواهِرِ العالَمِ وأعراضِه ليست فِعلًا للهِ، ولكنَّها واقِعةٌ عن سببٍ مقدورٍ موجِبٍ لِما عداه، وذلك خُروجٌ عن الدِّينِ وانسِلالٌ عن مذهَبِ المُسلِمينَ) [911] ((الإرشاد)) (ص: 232). .
وأيضًا: فإنَّ قولَكم هذا مُنافٍ للعقلِ الصَّحيحِ؛ فهذه المُتولِّداتُ مخلوقةٌ، وإذا كانت كذلك بطَل قولُكم: إنَّها فِعلٌ لا فاعِلَ له، فلم يبقَ إلَّا أن تكونَ فِعلًا للهِ أو للعِبادِ، وقد أقررْتَ بأنَّ المُتولِّداتِ ليست مِن أفعالِ العِبادِ، وهو ما نُوافِقُك عليه، وإذا بطَل أن تكونَ المُتولِّداتُ فِعلًا لا فاعِلَ له، ولم تكنْ مِن أفعالِ العِبادِ لم يبقَ إلَّا أنَّها مِن فِعلِ اللهِ تعالى، وهو القولُ الحقُّ إن شاء اللهُ، بل إنَّ في القولِ بأنَّها ليست مِن صُنعِ اللهِ مُنافاةً لصريحِ القرآنِ؛ قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] .
القولُ الثَّاني: قولُ مَن نسَبها إلى طبعِ الإنسانِ، كالجاحِظِ، أو فِعلِ اللهِ تعالى بإيجابِ الخِلقةِ، كالنَّظَّامِ ومَعمَرٍ.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (وأمَّا المُتولِّداتُ ففيها نوعٌ مِن الاختِلافِ؛ ففي النَّاسِ مَن علَّقها بالطَّبعِ، على ما قاله أبو عُثمانَ الجاحِظُ في أفعالِ الجوارِحِ والمعرفةِ، ولم يجعلِ الواقِعَ عندَ الاختِيارِ سِوى الإرادةِ دونَ الحركاتِ وما شاكَلها، وفيهم مَن قال: إنَّ هذه الحوادِثَ التي تَحدُثُ في الجماداتِ إنَّها تحصُلُ فيها بطبعِ المحَلِّ، وهو النَّظَّامُ، وإليه ذهَب مَعمَرٌ) [912] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 387). .
وقال النَّظَّامُ: (إنَّ كُلَّ ما جاوَز حدَّ القُدرةِ فهو مِن فِعلِ اللهِ تعالى بإيجابِ الخِلقةِ، بمعنى: أنَّ اللهَ طبَع الحَجرَ، إذا دَفعْتَه اندفَع) [913] ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (9/11). .
المُناقَشةُ:
ستتضمَّنُ المُناقَشةُ الرَّدَّ على الجاحِظِ، ثُمَّ الرَّدَّ على النَّظَّامِ ومَعمَرٍ، وذلك كالآتي:
أوَّلًا: الرَّدُّ على الجاحِظِ
ردَّ القاضي عبدُ الجبَّارِ على الجاحِظِ قولَه: إنَّ المُتولِّداتِ تحصُلُ بطبعِ الإنسانِ، وإليك بعضَ رُدودِه مُلخَّصةً:
1- إنَّ حالَ المُتولِّداتِ لا يختلِفُ عن حالِ المُباشَرةِ؛ لأنَّ الفِعلَ المُتولِّدَ يقعُ عندَ حُصولِ السَّببِ وزوالِ الموانِعِ، والفِعلُ المُباشِرُ يحصُلُ عندَ تكامُلِ البواعِثِ إلى الفِعلِ، وإذا ما حصلَت سببًا للفِعلينِ فهي سببٌ مُباشِرٌ للفِعلِ المُبتدِئِ، وسببٌ بالواسِطةِ للفِعلِ المُتولِّدِ، فأين الفرقُ بَينَهما وكلاهما يحصُلُ مِن الفاعِلِ؟ وكيف يحصُلُ المُرادُ بالطَّبعِ والإرادةِ باختِيارِ الفاعِلِ معَ أنَّ الحالةَ فيهما سواءٌ؟ فإمَّا أن يُعلَّقا جميعًا بالطَّبعِ، أو يُضافا إلى الفاعِلِ، أمَّا أن يُجعَلَ أحدُهما بالطَّبعِ، والآخَرُ باختِيارِ الفاعِلِ فلا [914] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 388)، ويُنظر: ((نظرية التكليف)) لعثمان (ص: 428). .
2- إنَّ تعليقَ الجاحِظِ للمُتولِّدِ بالطَّبعِ يوجِبُ أن يُضافَ الفِعلُ إلى المحَلِّ الذي حصَل له الفِعلُ لا إلينا، فيُسمَّى المحَلُّ فاعِلًا [915] يُنظر: ((نظرية التكليف)) لعثمان (ص: 428). ، ويستحِقُّ الذَّمَّ والمَدحَ، وهذا مُحالٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه.
3- إذا كان الإنسانُ يفعَلُ هذه المُتولِّداتِ طِباعًا عندَ الإرادةِ، فما هي الحاجةُ إلى وُجودِ القُدرةِ؟ إنَّ مِثلَ هذا القولِ يجوزُ أن يقعَ الفِعلُ دونَ القُدرةِ عليه [916] يُنظر: ((نظرية التكليف)) لعثمان (ص: 428). .
4- ما دام الفِعلُ يقعُ حَتمًا بطَبعِ الإنسانِ إذا وُجِدَت الإرادةُ والدَّواعي إليه، فإنَّه يجوزُ أن يوجَدَ داعٍ وإرادةٌ أخرى مُعارِضةٌ للإرادةِ الأُولى والدَّاعي الأوَّلِ، فيقعُ فِعلٌ أيضًا، وهكذا يجتمِعُ فِعلانِ مُتناقِضانِ في وقتٍ واحِدٍ، واجتِماعُ المُتناقِضَينِ مُستحيلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه [917] يُنظر: ((نظرية التكليف)) لعثمان (ص: 428). .
وإذًا فقولُ الجاحِظِ: إنَّ الفِعلَ المُتولِّدَ يقعُ بطَبعِ الإنسانِ، باطِلٌ، وإذا بطَل أن تكونَ الأفعالُ المُتولِّدةُ طِباعًا؛ فإمَّا أن تكونَ مِن اللهِ أو مِن الإنسانِ؛ إن كانت مِن الإنسانِ فتكونُ كالأفعالِ الاختياريَّةِ، ويشمَلُها ما يشمَلُ الأفعالَ الاختياريَّةَ مِن ردٍّ، وقد سبَق الرَّدُّ عليها عندَ الرَّدِّ على شُبُهاتِ المُعتَزِلةِ في أفعالِ العِبادِ الاختياريَّةِ، وإن كانت مِن اللهِ فقد سلَّموا وأذعَنوا للحقِّ. واللهُ أعلَمُ.
ثانيًا: الرَّدُّ على النَّظَّامِ ومَعمَرٍ
ذُكِر عندَ عَرضِ رأيِ النَّظَّامِ ومَعمَرٍ أنَّهما يذهبانِ إلى أنَّ المُتولِّداتِ مِن أفعالِ اللهِ تعالى بإيجابِ الخِلقةِ، وهذا الرَّأيُ يشتمِلُ على حقٍّ وباطِلٍ؛ فأمَّا قولُهم: إنَّ المُتولِّداتِ مِن أفعالِ اللهِ تعالى فهو حقٌّ.
وأمَّا قولُهم بإيجابِ الخِلقةِ فإنَّه باطِلٌ؛ ولذلك خطَّأهم البغداديُّ؛ حيثُ قال: (زعَم النَّظَّامُ منهم أنَّ المُتولِّداتِ كُلَّها مِن أفعالِ اللهِ تعالى بإيجابِ الخِلقةِ...، وهذا القائِلُ عندَنا مُصيبٌ في قولِه: إنَّ اللهَ خالِقُ المُتولِّداتِ ومُخطِئٌ في دعواه إيجابَ الخِلقةِ، على معنى أنَّ اللهَ طبَع الحَجرَ على ألَّا يقِفَ في الهواءِ؛ لأنَّ وُقوفَه جائِزٌ عندَنا) [918] ((أصول الدين)) (ص: 139). .
كذلك ردَّ القاضي على النَّظَّامِ ومَن معَه، ونختارُ مِن رُدودِه ما يتناسَبُ والجُزءَ المرفوضَ لدينا مِن قولِ النَّظَّامِ، وهو قولُه "بإيجابِ الخِلقةِ"، أي: إنَّ اللهَ طبَع الحَجرَ طَبعًا على أن يذهَبَ إذا دفَعه دافِعٌ، وينزِلَ إذا رماه رامٍ [919] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/55). ، فنقولُ:
1- يرى القاضي أنَّه بناءً على هذا القولِ يلزَمُ العبدَ ألَّا يفعَلَ شيئًا مِن الأعراضِ أو الأفعالِ أصلًا على وَجهٍ يتعلَّقُ به الاختِيارُ، ويستحِقُّ المدحَ والذَّمَّ عليه؛ لأنَّها كُلَّها تحصُلُ له بطبعِ المحَلِّ أو إيجابِ الخَلقِ [920] يُنظر: ((نظرية التكليف)) لعثمان (ص: 429). ، وهو باطِلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه.
2- يرى القاضي أيضًا أنَّ موقِفَ مَن يقولُ بالطَّبعِ والطَّبيعةِ أسوَأُ مِن موقِفِ الدَّهريَّةِ؛ فإنَّ هؤلاء نفَوا وُجودَ الصَّانِعِ، فأمكَن لهم أن يُعلِّقوا الفِعلَ بالطَّبعِ، أمَّا أولئك المُعتَزِلةُ فقد أثبَتوا اللهَ، فكيف يصِحُّ لهم أن ينفوا تعلُّقَ الأشياءِ به [921] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 389). ويُنظر: ((نظرية التكليف)) لعثمان (ص: 430). ؟!
3- إنَّ قولَ النَّظَّامِ ومَعمَرٍ: المُتولِّداتُ تحصُلُ بإيجابِ الخِلقةِ؛ فإنَّه يوجِبُ عليهم ألَّا تقعَ الثِّقةُ بالنُّبوُّاتِ؛ لتجويزِهم حُصولَ المُعجِزاتِ بطَبعِ المحَلِّ [922] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 389). ، ومعلومٌ بُطلانُ هذا؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه.
وإذًا، فقولُ النَّظَّامِ ومَعمَرٍ: المُتولِّداتُ تحصُلُ بطَبعِ المحَلِّ، باطِلٌ، وإذا بطَل هذا الجُزءُ بقِي الجُزءُ الأوَّلُ مِن قولِهم، وهو أنَّ المُتولِّداتِ مِن فِعلِ اللهِ، وهو القولُ الحقُّ.
القولُ الثَّالثُ: قولُ أكثَرِ المُعتَزِلةِ: وهو تقسيمُ أفعالِ التَّولُّدِ إلى قِسمَينِ
القِسمُ الأوَّلُ: ما تولَّد مِن غَيرِ الحيِّ، كحَرقِ النَّارِ، وتبريدِ الثَّلجِ، وقد اختلَفوا فيه؛ فقال بعضُهم: فِعلُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وقال آخَرونَ: فِعلُ الطَّبيعةِ، وقال فريقٌ ثالثٌ: أفعالُ اللهِ لا فاعِلَ لها.
القِسمُ الثَّاني: ما تولَّد مِن الإنسانِ أو الحيِّ، قالوا: هذا مِن فِعلِ الإنسانِ، وممَّن قال بهذا القولِ بِشرُ بنُ المُعتمِرِ مُنشِئُ القولِ بالتَّولُّدِ [923] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (5/59). ويُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/57، 86)، ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 137). .
المُناقَشةُ:
تقدَّم أنَّ القِسمَ الأوَّلَ مِن أفعالِ التَّولُّدِ -وهو ما تولَّد مِن غَيرِ الحيِّ- مُختلَفٌ فيه؛ فقال بعضُهم: إنَّه مِن فِعلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا هو القولُ الحقُّ، وقال البعضُ الآخَرُ: إنَّه مِن فِعلِ الطَّبيعةِ، وهؤلاء يتَّفِقُ قولُهم وقولُ النَّظَّامِ، وقد سبَق الرَّدُّ عليه، وقال الفريقُ الثَّالثُ: إنَّها أفعالٌ لا فاعِلَ لها، وهذا القولُ يتَّفِقُ معَ رأيِ ثُمامةَ، وقد سبَق الرَّدُّ عليه.
إذًا لم يبقَ إلَّا القِسمُ الثَّاني: وهو ما تولَّد مِن فِعلِ الإنسانِ أو الحيِّ، قالوا: إنَّه مِن فِعلِ الإنسانِ أو الحيِّ.
والرَّدُّ على هذا القِسمِ كالآتي:
أوَّلًا: ردَّ على هذا القولِ ابنُ حَزمٍ، فقال: (إنَّ كُلَّ ما في العالَمِ مِن جسمٍ أو عَرَضٍ في جسمٍ، أو أثرٍ في جسمٍ، فهو فِعلُ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ بمعنى أنَّه خلَقه، وكُلُّ ذلك مُضافٌ بنصِّ القرآنِ وبحُكمِ اللُّغةِ إلى ما ظهَر منه مِن حيٍّ أو جمادٍ؛ قال تعالى: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] ؛ فقد نسَب اللهُ عزَّ وجلَّ الاهتِزازَ والإنباتَ والرَّبْوَ إلى الأرضِ، معَ أنَّه سُبحانَه وتعالى هو الفاعِلُ لذلك؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ النِّسبةَ إليها؛ لكونِه ظهَر منها، وقال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء: 92] ، فسمَّى تعالى المُخطِئَ قاتِلًا، وأوجَب عليه حُكمًا، وهو لم يقصِدْ قَتلَه، لكنَّه تولَّد عن فِعلِه...، ولم تختلِفْ أمَّةٌ ولا لغةٌ في صحَّةِ قولِ القائِلِ: مات فلانٌ، وسقَط الحائِطُ؛ فقد نسَب اللهُ تعالى وجميعُ خَلقِه الموتَ إلى الميِّتِ، والسُّقوطَ إلى الحائِطِ؛ لظُهورِ كُلِّ ذلك منها، فصحَّ بكُلِّ ما ذكَرْنا أنَّ إضافةَ كُلِّ أثرٍ في العالَمِ إلى اللهِ تعالى هي غَيرُ إضافتِه إلى ما ظهَر منه أو تولَّد عنه؛ فلظُهورِه منه اتِّباعًا للقرآنِ والسُّنَّةِ وما يُفسِّرُهما مِن اللُّغةِ الفُصحى؛ لأنَّه لا فرقَ بَينَ ما ظهَر مِن حيٍّ مُختارٍ أو غَيرِ حيٍّ مُختارٍ، في أنَّ كُلَّ ذلك ظاهِرٌ ممَّا ظهَر منه، وأنَّه مخلوقٌ للهِ تعالى، إلَّا أنَّ اللهَ خلَق في الحيِّ اختِيارًا لِما ظهَر منه، ولم يخلُقِ الاختِيارَ فيما ليس حيًّا ولا مُريدًا؛ فما تولَّد عن فِعلِ فاعِلٍ فهو فِعلُ اللهِ عزَّ وجلَّ، بمعنى: أنَّه خلَقه، وهو فِعلُ ما ظهَر منه، بمعنى: أنَّه ظهَر منه؛ قال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17] ، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 63-64] ؛ فقد نسَب اللهُ عزَّ وجلَّ الرَّميَ إلى نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولنَفسِه؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ نِسبتَه للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لظُهورِه منه، ونِسبتَه إلى اللهِ لكونِه الفاعِلَ) [924] ((الفصل)) (5/59- 60) بتصَرُّفٍ. .
وأيضًا: فإنَّ هذا القولَ يُؤدِّي إلى إثباتِ صانِعٍ معَ اللهِ، وهو باطِلٌ باتِّفاقٍ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه. واللهُ أعلَمُ.

انظر أيضا: