موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: شُبُهاتُ المُعتَزِلةِ النَّقليَّةُ والعقليَّةُ التي يتمسَّكونَ بها في قولِهم: إنَّ أفعالَ العِبادِ المُباشِرةَ مخلوقةٌ لهم، ومُناقَشتُهم في ذلك


تمسَّك المُعتَزِلةُ في قولِهم: إنَّ العِبادَ يخلُقونَ أفعالَهم بشُبُهاتٍ نقليَّةٍ وعقليَّةٍ؛ منها ما يلي:
أوَّلًا: الشُّبُهاتُ النَّقليَّةُ
الشُّبهةُ الأولى:
أنَّ اللهَ تعالى قال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك: 3] .
وَجهُ الاستِدلالِ:
أنَّ اللهَ تعالى نفى التَّفاوُتَ عن خَلقِه؛ فلا يخلو: إمَّا أن يكونَ المُرادُ بالتَّفاوُتِ مِن جِهةِ الخِلقةِ أو مِن جِهةِ الحِكمةِ، ولا يجوزُ أن يكونَ المُرادُ به التَّفاوُتَ مِن جِهةِ الخِلقةِ؛ لأنَّ في خَلقِه المخلوقاتِ مِن التَّفاوُتِ ما لا يخفى، فليس إلَّا أنَّ المُرادَ به التَّفاوُتُ مِن جِهةِ الحِكمةِ، وإذا ثبَت هذا لم يصِحَّ في أفعالِ العِبادِ أن تكونَ مِن جهةِ اللهِ تعالى؛ لاشتِمالِها على التَّفاوُتِ وغَيرِه [869] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 355). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ:
يُقالُ لهم: إنَّ استِدلالَكم بالآيةِ ناتِجٌ عن سوءِ فَهمٍ، وذلك لأنَّ المقصودَ بالتَّفاوُتِ في الآيةِ التَّفاوُتُ في الخِلقةِ.
قال القُرطُبيُّ عندَ تفسيرِ هذه الآيةِ: (المُرادُ بخَلقِ الرَّحمنِ: السَّمواتُ خاصَّةً، أي: ما ترى في خَلقِ السَّمواتِ مِن عَيبٍ، وأصلُه مِن الفَوتِ، وهو أن يفوتَ شيءٌ شيئًا، فيقعَ الخَللُ لقِلَّةِ استِوائِها؛ يدُلُّ عليه قولُ ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: "مِن تفرُّقٍ") [870] ((الجامع لأحكام القرآن)) (18/208- 209). .
وقال ابنُ جُزَيٍّ: (قولُه: مِنْ تَفَاوُتٍ أي: مِن قِلَّةِ تَناسُبٍ وخُروجٍ عن الإتقانِ، والمعنى: أنَّ خَلقَ السَّمواتِ في غايةِ الإتقانِ، وتخصيصُ الآيةِ بخَلقِ السَّمواتِ لوُرودِها بَعدَ قولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك: 3] ) [871] ((التسهيل في علوم التنزيل)) (4/250). .
وإذا ثبَت أنَّ المقصودَ بالتَّفاوُتِ في الآيةِ التَّفاوُتُ مِن جهةِ الخِلقةِ بطَل قولُكم: "ولا يجوزُ أن يكونَ المُرادُ به التَّفاوُتَ مِن جهةِ الخِلقةِ"، وعليه فيَبطُلُ استِدلالُكم بالآيةِ.
وأيضًا: فإنَّ أوَّلَ الآيةِ حُجَّةٌ عليكم، وهو قولُه تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك: 2] ، وبَينَ الموتِ والحياةِ تفاوُتٌ، وهو خالِقُ الجميعِ، لا خالِقًا لذلك غَيرُه؛ فكذلك كُفرُ الكافِرينَ، وإيمانُ المُؤمِنينَ، وإن كان بَينَهما تفاوُتٌ في الحُكمِ فليس بَينَهما تفاوُتٌ في الإيجادِ والاختِراعِ، وإحكامِ الخَلقِ؛ فصحَّ أنَّ الآيةَ حُجَّةٌ عليهم لا لهم [872] يُنظر: ((الإنصاف)) للباقِلَّاني (ص: 133). ، وبهذا يظهَرُ بُطلانُ استِدلالِ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّانيةُ:
قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] .
وَجهُ الاستِدلالِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ بَعدَ أن أورَد هذه الآيةَ للاستِدلالِ على أنَّ العِبادِ يخلُقونَ أفعالَهم: (إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى بيَّن أنَّ أفعالَه كُلَّها مُتقَنةٌ، والإتقانُ يتضمَّنُ الإحكامَ والحُسنَ جميعًا، حتَّى لو كان مُحكَمًا ولا يكونُ حَسنًا، لكان لا يوصَفُ بالإتقانِ، ألا ترى أنَّ أحدَنا لو تكلَّم بكلامٍ فصيحٍ يشتمِلُ على الفُحشِ والخَنا فإنَّه وإن وُصِف بالإحكامِ لا يوصَفُ بالإتقانِ؟ إذًا ثبَت هذا، ومعلومٌ أنَّ في أفعالِ العِبادِ ما يشتمِلُ على التَّهوُّدِ والتَّنصُّرِ والتَّمجُّسِ، وليس شيءٌ مِن ذلك مُتقَنًا؛ فلا يجوزُ أن يكونَ اللهُ تعالى خالِقًا لها) [873] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 358). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ:
هذه الشُّبهةُ باطِلةٌ لِما يلي:
أوَّلًا: أنَّ الإتقانَ لا يحصُلُ إلَّا في المُركَّباتِ، فيمتنِعُ وَصفُ الأعراضِ بها [874] يُنظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (24/220). ، وإذا لم توصَفِ الأعراضُ بالإتقانِ بطَل الاستِدلالُ بالآيةِ؛ لأنَّ الاستِدلالَ بها ينبني على أنَّ الإتقانَ يكونُ في الأعراضِ.
ثانيًا: قال ابنُ حَزمٍ: (إنَّ هذه الآيةَ حُجَّةٌ عليهم لا لهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى أخبَر أنَّه بصُنعِه أتقَن كُلَّ شيءٍ، وهذا على عُمومِه وظاهِرِه؛ فاللهُ تعالى صانِعُ كُلِّ شيءٍ، وإتقانُه له أنْ خلَقه جوهَرًا أو عَرَضًا جارِيَينِ على رُتبةٍ واحِدةٍ أبدًا، وهذا عَينُ الإتقانِ) [875] ((الفصل)) (3 /65). .
وبهذا يظهَرُ بُطلانُ الاستِدلالِ بهذه الآيةِ على أنَّ العِبادَ هم الخالِقونَ لأفعالِهم. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّالثةُ:
قال اللهُ تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص: 27] .
وَجهُ الاستِدلالِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (نفى اللهُ تعالى أن يكونَ في خَلقِه باطِلٌ، فلولا أنَّ هذه القبائِحَ وغَيرَها مِن التَّصرُّفاتِ مِن جِهتِنا ومُتعلِّقةٌ بنا، وإلَّا كان يجِبُ أن تكونَ الأباطيلُ كُلُّها مِن قِبَلِه، فيكونَ مُبطِلًا كاذِبًا، تعالى اللهُ عمَّا يقولونَ عُلوًّا كبيرًا) [876] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 362). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ:
إنَّ معنى الآيةِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ما خلَق السَّمواتِ والأرضَ وما بَينَهما عَبَثًا ولَعِبًا على ما يتوهَّمُه مَن زعَم أنَّه لا حَشرَ ولا نَشرَ، ولا ثوابَ ولا عِقابَ، بل خلَقهما بالحقِّ للاعتِبارِ بهما والاستِدلالِ على خالِقِهما، ومِن ثَمَّ إثابةِ المُتَّقينَ الطَّائِعينَ، ومُجازاةِ المُذنِبينَ والكافِرينَ؛ ولذا قال تعالى بَعدَها: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] ، يعني: مِن إنكارِهم الثَّوابَ والجزاءَ والعِقابَ [877] يُنظر: ((التسهيل)) لابن جزي (3/400). ويُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (2/173)، ((جامع أحكام القرآن)) للقرطبي (5/191)، ((التمهيد)) للباقِلَّاني (ص: 312). .
وعلى ذلك: فقولُهم: إنَّ معنى الآيةِ "نَفيُ أن يكونَ في خَلقِه باطِلٌ، غَيرُ صحيحٍ"، وإذا كان غَيرَ صحيحٍ بطَل استِدلالُهم بالآيةِ.
الشُّبهةُ الرَّابعةُ:
قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .
وَجهُ الاستِدلالِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (لا تخلو الآيةُ؛ إمَّا أن يكونَ المُرادُ بها أنَّ جميعَ ما فعَله اللهُ سُبحانَه وتعالى فهو إحسانٌ، أو المُرادُ بها أنَّ جميعَه حَسنٌ، ولمَّا كان لا يجوزُ أن يكونَ المُرادُ بها الإحسانَ؛ لأنَّ في أفعالِه تعالى ما لا يكونُ إحسانًا، كالعِقابِ، فليس إلَّا أنَّ المُرادَ بها الحَسنُ، على ما نقولُه، إذا ثبَت هذا -ومعلومٌ أنَّ أفعالَ العِبادِ تشتمِلُ على الحَسنِ والقبيحِ- فلا يجوزُ أن تكونَ مُضافةً إلى اللهِ تعالى) [878] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 357). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ:
يُقالُ لهم: ليس "أحسَنُ" مِن معنى "حَسُن"، وإنَّما معناها أنَّه يُحسِنُ ويعلَمُ كيف يخلُقُ، كما يُقالُ: فلانٌ يُحسِنُ الظُّلمَ، ويُحسِنُ السَّفهَ، ويُحسِنُ فِعلَ الخيرِ والجميلِ، أي: يعلَمُ كيف يفعَلُ ذلك [879] يُنظر: ((التمهيد)) للباقِلَّاني (ص: 312). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (قولُه تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] ، أي: لم يتعلَّمْه مِن أحدٍ؛ كما يُقالُ: فلانٌ يُحسِنُ كذا: إذا عَلِمه، قاله مُقاتِلٌ والسُّدِّيُّ) [880] ((زاد المسير في علم التفسير)) (6/334). . وعلى ذلك، فقولُهم: إنَّ "أحسَنَ" مِن معنى حسُن: باطِلٌ، وعليه فيَبطُلُ استِدلالُهم بالآيةِ. واللهُ أعلَمُ.
ثانيًا: الشُّبُهاتُ العقليَّةُ
مِن الشُّبُهاتِ العقليَّةِ التي تمسَّك بها المُعتَزِلةُ في قولِهم: إنَّ العِبادَ يخلُقونَ أفعالَهم، ما يلي:
الشُّبهةُ الأولى:
قالت المُعتَزِلةُ: الدَّليلُ على أنَّه لا يجوزُ أن تكونَ أفعالُنا خَلقًا للهِ تعالى، وأنَّ العِبادَ لا فِعلَ لهم؛ أنَّه لو كان الخالِقَ لها لم يصِحَّ أمرُه بها ونَهيُه عن بعضِها، وإثابتُه على الحَسنِ والجميلِ منها، وذمُّه وعِقابُه على القبيحِ مِن جُملتِها [881] يُنظر: ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 83- 84)، ((التمهيد)) (ص: 307)، ((الإنصاف)) (ص: 155) كلاهما للباقِلَّاني. .
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (لو كان تعالى هو الخالِقَ لفِعلِهم لوجَب ألَّا يستحِقُّوا الذَّمَّ على قبيحِه، والمدحَ على حَسنِه؛ لأنَّ استِحقاقَ الذَّمِّ والمدحِ على فِعلِ الغَيرِ لا يصِحُّ) [882] ((المغني في أبواب العدل)) (8/193). .
وقال ثُمامةُ بنُ الأشرَسِ: (لا تخلو أفعالُ العِبادِ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ: إمَّا كُلُّها مِن اللهِ ولا فِعلَ لهم؛ فلم يستحِقُّوا ثوابًا ولا عِقابًا ولا مَدحًا ولا ذَمًّا، أو تكونُ منهم ومِن اللهِ، فيجِبُ المَدحُ والذَّمُّ لهم جميعًا، أو منهم فقط؛ فكان لهم الثَّوابُ والعِقابُ والمَدحُ والذَّمُّ) [883] ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضي (ص: 35). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ:
أوَّلًا: هذه الشُّبهةُ تنبني على أنَّ العِبادَ لا فِعلَ لهم، بمعنى أنَّهم مجبورونَ على ما يكونُ منهم مِن تصرُّفاتٍ، وهذا باطِلٌ، ولا يقولُ به أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
فأفعالُ العِبادِ خَلقًا للهِ وكَسبًا للعِبادِ بمنزِلةِ الأسبابِ للمُسبَّباتِ؛ فالعِبادُ لهم قُدرةٌ ومشيئةٌ وإرادةٌ، ولكنَّها تحتَ قُدرةِ اللهِ ومشيئتِه؛ قال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29] .
كذلك نطَق القرآنُ بإثباتِ الفِعلِ للعِبادِ؛ قال تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] . وأمثالُ هذه الآيةِ كثيرٌ.
وليس إضافةُ التَّأثيرِ بهذا التَّفسيرِ إلى قُدرةِ العبدِ شِركًا، وإلَّا فيكونُ إثباتُ جميعِ الأسبابِ شِركًا؛ قال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة: 14] ، فبيَّن سُبحانَه وتعالى أنَّه المُعذِّبُ، وأنَّ أيديَنا أسبابٌ وآلاتٌ وأوساطٌ وأدواتٌ في وُصولِ العذابِ إليهم [884] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (8/389- 390). .
كما لا يلزَمُ مِن ذلك أن يكونَ العبدُ مجبورًا على أعمالِه؛ فإنَّ الجبرَ الذي أنكَره سَلفُ الأمَّةِ هو أن يكونَ الفِعلُ صادِرًا عن الشَّيءِ مِن غَيرِ إرادةٍ ولا مشيئةٍ ولا اختِيارٍ، مِثلُ: هُبوبِ حركةِ الأشجارِ؛ ولذلك انقسمَت الأفعالُ إلى اختياريٍّ واضطِراريٍّ، واختصَّ المُختارُ منها بإثباتِ الأمرِ والنَّهيِ [885] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (8/393- 394) بتصَرُّفٍ. ، وعلى هذا فإنَّه يَبطُلُ قولُهم: إنَّ العِبادَ لا فِعلَ لهم، وإذا بطَل الأصلُ بطَل الفَرعُ.
ثانيًا: أنَّا لا نقولُ: إنَّ اللهَ تعالى آمِرٌ أحدًا مِن خَلقِه بخلقِ شيءٍ مِن الأفعالِ، ولا ناهٍ له عن ذلك؛ لأنَّ الخَلقَ مُستحيلٌ مِن العبدِ، وإنَّما نقولُ: إنَّ اللهَ تعالى إنَّما أمَر باكتِسابِ ما خلَقه ونهى عن ذلك [886] يُنظر: ((التمهيد)) للباقِلَّاني (ص: 307). ، وإذا كان الأمرُ والنَّهيُ مُتوجِّهًا إلى جهةِ الاكتِسابِ، فلا مُنافاةَ بَينَ الخَلقِ والأمرِ.
ثالثًا: أنَّا لا نقولُ: إنَّ المدحَ والثَّوابَ والذَّمَّ والعِقابَ يحصُلُ بفِعلِ الفاعِلِ منَّا حتَّى يوجِبَ ذلك كونَه خَلقًا له واختِراعًا، بل نقولُ: إنَّ ذلك يحصُلُ بحُكمِ اللهِ تعالى، ويجِبُ ويُستحَقُّ بحُكمِه؛ ألا ترى بالإجماعِ منَّا ومنكم ومِن جميعِ المُسلِمينَ أنَّ الدَّابَّةَ تجِبُ على العاقِلةِ بقَتلِ غَيرِها خطأً، وإن لم تفعلِ العاقِلةُ شيئًا يُستحَقُّ به إيجابُ ذلك عليها، وأنَّ ذلك الذي فعلَته ليس خَلقًا لها، بل هو خَلقٌ لغَيرِها، وهو اللهُ تعالى عندَ المُسلِمينَ، وخَلقٌ للقاتِلِ على زَعمِكم؟ فصحَّ أنَّ الوُجوبَ حصَل بإيجابِ اللهِ تعالى وحُكمِه، لا بخَلقِ العاقِلةِ وفِعلِها، وكذلك جميعُ الأحكامِ في الدُّنيا والآخِرةِ إنَّما تجِبُ بإيجابِ اللهِ تعالى وإرادتِه، لا بكونِها خَلقًا للفاعِلِ، ومِثلُ ذلك: الأكلُ في الصِّيامِ إذا كان العبدُ ناسيًا، يُعتبَرُ فِعلًا للعبدِ كما هو فِعلٌ له عندَ تعمُّدِه، لكنَّ اللهَ تعالى حكَم بأنَّ أحدَهما مُفطِرٌ ومُبطِلٌ للصَّومِ، ويُذَمُّ ويُعاقَبُ عليه، والآخَرَ بالضِّدِّ مِن ذلك، وإن كان الجميعُ فِعلًا للعبدِ؛ ممَّا يدُلُّ أنَّ ذلك إنَّما يكونُ بحُكمِ اللهِ تعالى، لا بكونِه خَلقًا للفاعِلِ [887] يُنظر: ((الإنصاف)) للباقِلَّاني (ص: 155) بتصَرُّفٍ. .
فإذا كان الثَّوابُ والعِقابُ يحصُلُ بحُكمِ اللهِ تعالى لم يلزَمْ مُنافاةٌ بَينَ خَلقِ اللهِ تعالى لأفعالِ العِبادِ وإثابتِهم أو عقابِهم عليها، إضافةً إلى هذا فإنَّ الإثابةَ والعِقابَ على الاكتِسابِ لا على الخَلقِ [888] يُنظر: ((التمهيد)) للباقِلَّاني (ص: 307). .
وإذا كان لا مُنافاةَ بَينَ خَلقِ اللهِ لأفعالِ العِبادِ وأمرِهم ونَهيِهم وإثابتِهم وعِقابِهم عليها، بطَلَت هذه الشُّبهةُ. واللهُ أعلَمُ.
وأمَّا قولُ ثُمامةَ: إنَّ أفعالَ العِبادِ لا تخلو مِن ثلاثةِ أوجُهٍ: إمَّا كُلُّها مِن اللهِ ولا فِعلَ لهم، ولم يستحِقُّوا ثوابًا ولا عِقابًا، أو منهم فقط، كان لهم الثَّوابُ والعِقابُ، أو منهم ومِن اللهِ، وجَب المدحُ والذَّمُّ لهم جميعًا.
فنقولُ: إنَّ قولَ ثُمامةَ باطِلٌ، وقد بيَّنَّا بُطلانَ الوَجهَينِ الأوَّلَينِ مِن قولِه، وهُما قولُه: (إمَّا كُلُّها مِن اللهِ ولم يستحِقُّوا ثوابًا ولا عِقابًا، أو كُلُّها مِن الخَلقِ...).
بيَّنَّا بُطلانَ هذَينِ الوَجهَينِ بقولِنا: أفعالُ العِبادِ خَلقٌ للهِ وكَسبٌ للعِبادِ؛ فالوَجهُ المُتعلِّقُ بالعِبادِ والذي عليه الثَّوابُ والعِقابُ غَيرُ الوَجهِ المُتعلِّقِ باللهِ، فمِن اللهِ خَلْقُها، ويُثابونَ ويُعاقَبونَ على كَسبِها.
أمَّا الوَجهُ الثَّالثُ مِن قولِ ثُمامةَ: وهو قولُه: (أو تكونُ مِن الخَلقِ ومِن اللهِ، فحينَئذٍ يستحِقُّونَ الثَّوابَ والعِقابَ جميعًا)؛ فهذا القولُ أيضًا باطِلٌ؛ إذ يستلزِمُ الشَّرِكةَ بَينَ اللهِ وخَلقِه، ولا يلزَمُنا، بل إنَّ قولَكم هذا عائِدٌ عليكم؛ لأنَّكم تقولونَ: إنَّ العبادَ يخلُقونَ أفعالَهم، وهي بعضُ الأعراضِ، وإنَّ اللهَ تعالى يفعَلُ سائِرَ الأعراضِ؛ فهذا عَينُ الشِّركِ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا. وأمَّا نحن فلا يلزَمُنا إيجابُ الشَّرِكةِ للهِ تعالى فيما قُلْنا؛ لأنَّ الاشتِراكَ لا يجِبُ بَينَ المُشترِكَينِ إلَّا باتِّفاقِهما فيما اشترَكا فيه، وبُرهانُ ذلك: أنَّ أموالَنا مِلكٌ لنا ومِلكٌ للهِ عزَّ وجلَّ بإجماعٍ منَّا ومنكم، وليس ذلك بموجِبٍ أن نكونَ شرُكاءَه فيها؛ لاختِلافِ جِهاتِ المِلكِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى إنَّما هو المالِكُ لها؛ لأنَّها مخلوقةٌ له تعالى، وهي مِلكٌ لنا؛ لأنَّها كَسبٌ لنا، ومُلزَمونَ بأحكامِها، ومِثلُ ذلك أفعالُنا؛ فهي مخلوقةٌ للهِ وكَسبٌ لنا؛ فلسْنا شُرَكاءَ له [889] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (7/64- 65) بتصَرُّفٍ. .
وبهذا يظهَرُ بُطلانُ الوَجهِ الثَّالثِ مِن قولِ ثُمامةَ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّانيةُ:
قالت المُعتَزِلةُ: وجَدْنا أفعالَنا واقِعةً على حسَبِ قَصدِنا، فوجَب أن تكونَ خَلقًا لنا، وفِعلًا لنا؛ قالوا: وبيانُ ذلك: أنَّ الواحِدَ منَّا إذا أراد أن يقومَ قام، وإذا أراد أن يقعُدَ قعَد، وإذا أراد أن يتحرَّك تحرَّك، وإذا أراد أن يسكُنَ سكَن، وغَيرُ ذلك، فإذا حصلَت أفعالُه على حسَبِ قَصدِه ومقتضى إرادتِه دلَّ على أنَّ أفعالَه خَلقٌ له وفِعلٌ له [890] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 336- 337)، ((الإنصاف)) للباقِلَّاني (ص: 135). .
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (طريقةٌ أخرى في أنَّ أفعالَ العِبادِ غَيرُ مخلوقةٍ فيهم، وأنَّهم المُحدِثونَ لها. وتحريرُها: هو أنَّ هذه التَّصرُّفاتِ يجِبُ وُقوعُها بحسَبِ قُصودِنا ودواعينا، ويجِبُ انتِفاؤُها بحسَبِ كراهتِنا وصَرفِنا، معَ سلامةِ الأحوالِ؛ إمَّا مُحقَّقًا أو مُقَدَّرًا، فلولا أنَّها مُحتاجةٌ إلينا ومُتعلِّقةٌ بنا، وإلَّا لَما وجَب ذلك فيها) [891] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 336). .
وقال القاضي عبدُ الجبَّارِ أيضًا وهو يسوقُ الدَّلالةَ على أنَّ الواحِدَ منَّا فاعِلٌ على الحقيقةِ: (إنَّ العِلمَ بوُقوعِ تصرُّفِنا بحسَبِ دواعينا وقُصودِنا وغَيرِ ذلك مِن أحوالِنا حاصِلٌ على وَجهٍ لا يُمكِنُ دَفعُه عن النَّفسِ، ومعلومٌ استِمرارُ ذلك...، فكُلُّ ما نقَض هذه الجُملةَ يجِبُ بُطلانُه) [892] ((المحيط بالتكليف)) (ص: 340). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ:
أوَّلًا: قولُكم: "إنَّ أفعالَ العِبادِ تحصُلُ بحسَبِ قُصودِهم..." غَيرُ صحيحٍ على إطلاقِه، وذلك أنَّنا نرى مَن يُريدُ شيئًا ويقصِدُه، ولا يحصُلُ له ما يُريدُه وما يقصِدُه، فإنَّه ربَّما أراد أن ينطِقَ بصوابٍ فيُخطِئَ، وربَّما أراد أكلًا لقوَّةٍ وصحَّةٍ، فيضعُفُ ويمرَضُ، وربَّما ابتاع سِلعةً ليربَحَ فيخسَرُ، وربَّما أراد القيامَ فيَعرِضُ له ما يمنعُه منه، إلى غَيرِ ذلك؛ فبطَل ما ذكرْتُموه [893] يُنظر: ((الإنصاف)) للباقِلَّاني (ص: 153) بتصَرُّفٍ. .
ثانيًا: إنَّ وُقوعَ الكَسبِ مِن الخَلقِ على حسَبِ القَصدِ منهم لا يدُلُّ على أنَّه خَلقٌ لهم، ودليلُ ذلك: أنَّ مَشيَ الفَرسِ مَثلًا يحصُلُ على قَصدِ الرَّاكِبِ وإرادتِه مِن عَدْوٍ وتقريبٍ ووقوفٍ، إلى غَيرِ ذلك، ولا يقولُ عاقِلٌ: إنَّ الرَّاكِبَ خَلقَ جَريَ الفَرسِ ولا سُرعتَه ولا غَيرَ ذلك مِن أفعالِه؛ فبطَل أن يكونَ حُصولُ الفِعلِ على قَصدِ الفاعِلِ دليلًا على أنَّه خلَقه، ومِثلُ ذلك السُّفنُ يحصُل سَيرُها وتَوجُّهُها في السَّيرِ يمينًا وشِمالًا على حسَبِ قَصدِ المَلَّاحِ، ولا يدُلُّ ذلك على أنَّ المَلَّاحَ خلَق سَيرَ السُّفنِ ولا تَوجُّهَها؛ فإن كابَروا الحقائِقَ وقالوا: نقولُ: إنَّ ذلك خلَقه المَلَّاحُ والفارِسُ فقد خرَجوا عن الدِّينِ، وسوَّوا بَينَ الخالِقِ والعِبادِ في أنَّ قُدرةَ كُلِّ واحِدٍ منهما تتعلَّقُ بمقدوراتٍ، وهذا كُفرٌ صُراحٌ.
وإن قالوا: حركاتُ السُّفنِ تقعُ على حسَبِ قَصدِ المَلَّاحِ، وليست بخَلقٍ له، قُلْنا: فكذلك أفعالُ أحدِنا قد تقعُ -ولا نقولُ: إنَّها تقعُ في كُلِّ حالٍ- على حسَبِ قَصدِه، ولا يدُلُّ ذلك على أنَّه خلَقها، يُؤكِّدُ ذلك أيضًا أنَّ نُموَّ الزَّرعِ يحصُلُ على حسَبِ قَصدِ الزَّارِعِ وقيامِه عليه بسَقيِه، وغِيرِ ذلك، ولا يقولُ أحدٌ: إنَّ نُموَّ الزَّرعِ خلَقه الزَّارِعُ، وإن كان حاصِلًا على حسَبِ إرادةِ القائِمِ عليه وقَصْدِه، وكذلك فيما يحصُلُ مِن الواحِدِ منَّا إذا أراد اللهُ تعالى حُصولَه على حسَبِ قَصدِه لا يدُلُّ على أنَّه هو خلَقه، بل الخالِقُ له هو اللهُ تعالى [894] يُنظر: ((الإنصاف)) للباقِلَّاني (ص: 153، 154) بتصَرُّفٍ. .
ثالثًا: نحن لا نقولُ: إنَّ العبدَ مجبورٌ على أفعالِه حتَّى يلزَمَنا ما ذكَرْتُم، بل نقولُ: إنَّ العبدَ له قُدرةٌ ومشيئةٌ، لكنَّها تحتَ قُدرةِ اللهِ ومشيئتِه، كما بيَّنَّاه عندَ الرَّدِّ على الشُّبهةِ الأولى.
وإذا كان العبدُ غَيرَ مجبورٍ على أفعالِه، وله قُدرةٌ ومشيئةٌ؛ فإنَّ ما يحصُلُ منه مِن تصرُّفاتٍ قد تقعُ على حسَبِ قَصدِه، لا يمنَعُ أن تكونَ بهذه القُدرةِ التي أعطاه اللهُ إيَّاها، والتي لا تخرُجُ عن قُدرةِ اللهِ الشَّامِلةِ، وعلى ذلك فكونُ العبدِ يحصُلُ له بعضُ التَّصرُّفاتِ على حسَبِ قَصدِه لا يدُلُّ على أنَّه هو الخالِقُ لأفعالِه، وعليه فتبطُلُ هذه الشُّبهةُ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّالثةُ: نَفيُ الظُّلمِ عن اللهِ تعالى
ترى المُعتَزِلةُ أنَّ في القولِ بأنَّ اللهَ تعالى خالِقُ أفعالِ العِبادِ تجويرًا له تعالى مِن وُجوهٍ؛ منها:
أوَّلًا: قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (أحدُ ما يدُلُّ على أنَّه تعالى لا يجوزُ أن يكونَ خالِقًا لأفعالِ العِبادِ هو أنَّ في أفعالِ العِبادِ ما هو ظُلمٌ وجَورٌ، فلو كان تعالى خالِقًا لها لوجَب أن يكونَ ظالِمًا جائِرًا، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا) [895] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 345). .
ثانيًا: قالت المُعتَزِلةُ: (كيف يستقيمُ الحُكمُ على قولِكم بأنَّ اللهَ يُعذِّبُ المُكلَّفينَ على ذُنوبِهم، وهو خلَقها فيهم؟ فأين العَدلُ في تعذيبِهم على ما هو خالِقُه فيهم؟!) [896] ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 497). ويُنظر ((المغني)) لعبد الجبار (8/173-193). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ:
أوَّلًا: الرَّدُّ على القِسمِ الأوَّلِ مِن الشُّبهةِ
وهو قولُهم: إنَّ في أفعالِ العِبادِ ما هو ظُلمٌ وجَورٌ، فلو كان اللهُ خالِقًا لها لنُسِبَت إليه:
فيُقالُ لهم: هذا الإلزامُ غَيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ كونَ الباري تعالى خالِقًا لا يوجِبُ أن يتَّصِفَ بما وُجِد مِن ظُلمٍ وكذِبٍ وطاعةٍ ومعصيةٍ؛ لأنَّ هذه الصِّفاتِ إنَّما هي لمَن قامت به؛ فالظُّلمُ مَثلًا صفةٌ للظَّالِمِ، ألا ترى أنَّ الأسوَدَ صفةٌ لمَن قام به السَّوادُ، ولا يكونُ صفةً للهِ تعالى، وإن كان تعالى هو خالِقُ السَّوادِ، فكذلك الظُّلمُ والكذِبُ والطَّاعةُ والمعصيةُ كُلُّها صفاتٌ لمَن حلَّت به، ولا يوجِبُ ذلك وَصفَ خالِقِها بها [897] يُنظر: ((الإنصاف)) للباقِلَّاني (ص: 155) بتصَرُّفٍ. ويُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تَيميَّة (1/321). .
كما أنَّ هذه الصِّفاتِ مِن ظُلمٍ وكذِبٍ وجَورٍ ومعصيةٍ وطاعةٍ، إنَّما خلَقها سُبحانَه وتعالى لمَن حلَّت فيه؛ فالظُّلمُ خلَقه تعالى للظَّالِمِ به، وخلَق الجَورَ للجائِرِ به، وكذلك الكذِبُ والمعصيةُ، كما أنَّه خلَق الظُّلمةَ للمُظلِمِ بها، وخلَق الضَّوءَ للمُستضيءِ به، فكما أنَّه تعالى خلَق الظُّلمةَ للَّيلِ، والضِّياءَ للنَّهارِ ولم يوجِبْ ذلك كونَه ظُلمةً ولا ضياءً، فكذلك خَلقُ الطَّاعةِ للطَّائِعِ بها، والكذِبِ كذِبًا للكاذِبِ به، والجَورِ جَورًا للجائِرِ به، ولم يوجِبْ ذلك كونَه جائِرًا ولا ظالِمًا ولا كاذِبًا؛ فصحَّ أنَّ خَلقَه تعالى لهذه الصِّفاتِ لا يلزَمُ وَصفُه بها [898] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تَيميَّة (1/321). ويُنظر: ((الإنصاف)) للباقِلَّاني (ص: 156) بتصَرُّفٍ. .
كما أنَّ الظُّلمَ والجَورَ والكذِبَ لا يكونُ ظُلمًا ولا جَورًا ولا كذِبًا إلَّا إذا خالَف الأمرَ، وهذا كُلُّه يصِحُّ الوَصفُ به لمَن فوقَه آمِرٌ أمرَه وناهٍ نُهاه، وهُم الخَلقُ، وأمَّا الخالِقُ فليس فوقَه آمِرٌ ولا ناهٍ، فلا يصِحُّ وَصفُه بشيءٍ مِن هذا [899] يُنظر: ((الإنصاف)) (ص: 156) بتصَرُّفٍ. .
فإذا كان لا يلزَمُ مِن كونِه تعالى خالِقًا للجَورِ والظُّلمِ وَصفُه بشيءٍ منها، إضافةً إلى أنَّه لا يصِحُّ وَصفُه بهذه الصِّفاتِ؛ لأنَّها تستلزِمُ أن يكونَ فوقَه تعالى آمِرٌ، واللهُ يتنزَّهُ عن ذلك؛ فإذًا يَبطُلُ قولُكم: "إنَّ في أفعالِ العِبادِ ما هو ظُلمٌ وكذِبٌ، فلو كان اللهُ خالِقًا لها لنُسِبَت إليه"، وبذلك يَبطُلُ الجُزءُ الأوَّلُ مِن هذه الشُّبهةِ. واللهُ أعلَمُ.
ثانيًا: الرَّدُّ على القِسمِ الثَّاني مِن الشُّبهةِ
وهو قولُهم: كيف يُعذِّبُ اللهُ المُكلَّفينَ على ذُنوبِهم، وهو خلَقها فيهم؟ فأين العَدلُ في تعذيبِهم على ما هو خالِقُه فيهم؟!
لقد ردَّ ابنُ أبي العِزِّ على هذا، فقال: (إنَّ ما يُبتَلى به العبدُ مِن الذُّنوبِ الوُجوديَّةِ، وإن كانت خَلقًا للهِ تعالى؛ فهي عقوبةٌ له على ذُنوبٍ قَبلَها؛ فالذَّنبُ يُكسِبُ الذَّنبَ، ومِن عِقابِ السَّيِّئةِ السَّيِّئةُ بَعدَها؛ فالذُّنوبُ كالأمراضِ التي يُورِثُ بعضُها بعضًا، بقِي أن يُقالَ: فالكلامُ في الذَّنبِ الأوَّلِ الجالِبِ لِما بَعدَه مِن الذُّنوبِ، يُقالُ: هو عُقوبةٌ أيضًا على عَدمِ فِعلِ ما خُلِق له وفُطِر عليه؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى خلَقه لعبادتِه وحدَه لا شريكَ له، وفطَره على محبَّتِه وتأليهِه والإنابةِ إليه، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] ، فلمَّا لم يفعَلْ ما خُلِق له وفُطِر عليه مِن محبَّةِ اللهِ وعُبوديَّتِه، عُوقِب على ذلك بأن زيَّن له الشَّيطانُ ما يفعَلُه مِن الشِّركِ والمعاصي؛ فإنَّه صادَف قلبًا خاليًا قابلًا للخيرِ والشَّرِّ، ولو كان فيه الخيرُ الذي يمنَعُ ضِدَّه لم يتمكَّنْ منه الشَّرُّ؛ قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] ، وأمَّا إذا صادَف قلبًا فارِغًا تمكَّن منه بحسَبِ فراغِه، فيكونُ جَعْلُه مُذنبًا مُسيئًا في هذا الحالِ عُقوبةً له على عَدمِ الإخلاصِ، وهو محضُ العدلِ.
فإن قيل: فذلك العَدمُ مَن خلَقه فيه؟ فالجوابُ: هذا سُؤالٌ فاسِدٌ؛ فإنَّ العَدمَ كاسمِه لا يفتقِرُ إلى التَّكوينِ والإحداثِ؛ فعَدمُ الفِعلِ ليس أمرًا وُجوديًّا حتَّى يُضافَ إلى الفاعِلِ) [900] ((شرح الطحاوية)) (ص: 497- 498). .
وبذلك تبطُلُ هذه الشُّبهةُ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الرَّابعةُ: تبريرُ إرسالِ الرُّسلِ
إذا كان اللهُ خالِقَ أفعالِ العِبادِ، وكان العِبادُ لا فِعلَ لهم، فأيُّ فائِدةٍ في إرسالِ الرُّسلِ [901] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 96). ويُنظر: ((الانتصار)) للباقِلَّاني (ص: 117). ؟!
قال هشامٌ الفُوَطيُّ: (إذا كان اللهُ لم يزَلْ عالِمًا بكُفرِ الكافِرينَ، فما معنى إرسالِ الرُّسلِ إليهم؟ وما معنى الاحتِجاجِ عليهم؟ وما معنى تعويضِهم لِما قد عُلِم أنَّهم لا يتعرَّضونَ له؟ هل يكونُ حكيمًا مَن دعا مَن يعلَمُ أنَّه لا يستجيبُ له ومَن لا يرجو إجابتَه؟) [902] ((الانتصار)) للباقِلَّاني (ص: 117). .
مُناقَشةُ هذه الشُّبهةِ:
الجوابُ على هذه الشُّبهةِ مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: هذه الشُّبهةُ تنبني على أنَّ العِبادَ لا فِعلَ لهم، بمعنى: أنَّهم مجبورونَ على ما يكونُ منهم مِن تصرُّفاتٍ، وقد سبَق بيانُ ما في هذا القولِ مِن لَبْسٍ، وإبطالُه عندَ الرَّدِّ على الشُّبهةِ الأولى، فإذا بطَل الأصلُ بطَل الفَرعُ.
الثَّاني: أنَّ في قولِ هشامٍ ما يُشيرُ إلى أنَّ اللهَ غَيرُ عالِمٍ بمَن سيُؤمِنُ مِن عِبادِه قَبلَ إرسالِ الرُّسلِ، وفي هذا إضافةُ نقصٍ إلى اللهِ تعالى، وأنَّه سُبحانَه غَيرُ عالِمٍ بما سيكونُ! وإضافةُ النَّقصِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ كُفرٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه.
الثَّالثُ: أنَّ القَدَرَ يُؤمَنُ به ولا يُحتَجُّ به، فمَن لم يُؤمِنْ بالقَدَرِ ضارَع المجوسَ؛ حيثُ أثبَت خالِقًا معَ اللهِ، ومَن احتجَّ بالقَدَرِ ضارَع المُشرِكينَ؛ قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: 35] ، ومَن أقرَّ بالأمرِ والقَدَرِ وطعَن في عدلِ اللهِ وحِكمتِه كان شبيهًا بإبليسَ؛ فإنَّ اللهَ ذكَر عنه أنَّه طعَن في حِكمتِه وعارَضه برأيِه، وأنَّه قال: بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، وإذا كان الاحتِجاجُ بالقَدَرِ باطِلًا فهذه الشُّبهةُ باطِلةٌ مِن بابِ أَولى؛ لأنَّ فيها احتِجاجًا بالقَدَرِ على إرسالِ الرُّسلِ [903] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (8/114) بتصَرُّفٍ. .
الرابعُ: معلومٌ أنَّ اللهَ أرسَل الرُّسلَ، وأنزَل الكُتُبَ؛ لتُصدَّقَ الرُّسلُ فيما أخبَرَت، وتُطاعَ فيما أمرَت؛ قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] ، والإيمانُ بالقَدَرِ مِن تمامِ ذلك؛ إذ هو مِن جُملةِ ما أمَرَت به الرُّسلُ [904] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (8/106) بتصَرُّفٍ. ؛ فمَن نفى القَدَرَ على زَعمِ أنَّه يُعارِضُ إرسالَ الرُّسلِ فقد كذَّب الرُّسُلَ في بعضِ ما أمرَت به، ومعلومٌ أنَّ تكذيبَ الرُّسلِ كُفرٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه.
الخامسُ: أنَّ الرُّسلَ إنَّما بُعِثوا بتحصيلِ المصالِحِ وتكميلِها، وتعطيلِ المفاسِدِ وتقليلِها؛ بحسَبِ الإمكانِ؛ فإنَّ ما أتَوا به مِن أمرٍ لا يُعارِضُ القَدرَ، إنَّما هو تفصيلٌ كاشِفٌ له، وحاكِمٌ عليه؛ فالقَدَرُ أصلٌ للأمرِ ومُنفِذٌ له، وشاهِدٌ ومُصدِّقٌ له، فلولا القَدَرُ لَما وُجِد الأمرُ ولا تحقَّق، ولا قام على ساقِه، ولولا الأمرُ لَما تميَّز القَدَرُ ولا تبيَّنَت مراتِبُه وتصاريفُه؛ فالقَدَرُ مُظهِرٌ للأمرِ، والأمرُ تفصيلٌ له، واللهُ له الخَلقُ والأمرُ، أمرُه تصريفٌ لقَدَرِه، وقَدَرُه مُنفِذٌ لأمرِه، والقَدحُ في القَدَرِ إبطالٌ للأمرِ، وكمالُ التَّوحيدِ إثباتُه، وبذلك يتبيَّنُ سِرُّ إرسالِ الرُّسلِ، وأنَّه لا يتعارَضُ معَ القَدَرِ، بل كُلٌّ منهما يُصدِّقُ الآخَرَ [905] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (8/93-94)، ((الكواشف الجلية)) للسلمان (ص: 523) بتصَرُّفٍ. ، وبذلك تبطُلُ هذه الشُّبهةُ.

انظر أيضا: