موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: أدلَّةُ أهلِ السُّنَّةِ على إثباتِ رُؤيةِ المُؤمِنينَ ربَّهم في الآخِرةِ


 ذهَب أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ والأشاعِرةُ إلى أنَّ رُؤيةَ اللهِ تعالى جائِزةٌ عقلًا وواقِعةٌ فِعلًا في الآخِرةِ، واستدلُّوا على ذلك بأدلَّةٍ عديدةٍ مِن صحيحِ النَّقلِ، ومِن أدلَّة العقلِ، وسوف نَبسُطُ ذلك بما فيه مِن إيرادِ التَّعقُّباتِ والمُناقَشاتِ التي أُثيرَت حَولَها.
وإيضاحُ ذلك كالآتي:
أوَّلًا: مِن جهةِ النَّقلِ استدلُّوا بأدلَّةٍ كثيرةٍ؛ منها
1- قولُ اللهِ تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] .
والاستِدلالُ بهذه الآيةِ مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ موسى عليه السَّلامُ سأل الرُّؤيةَ، ولو امتنَع كونُه تعالى مرئيًّا لَما سأل؛ لأنَّه حينَئذٍ إمَّا أن يعلَمَ امتِناعَها أو يجهَلَه؛ فإن علِمه فالعاقِلُ لا يطلُبُ المُحالَ المُمتنِعَ؛ لأنَّه عَبثٌ يُنزَّهُ الأنبياءُ عنه، وإن جهِله فالجاهِلُ بما لا يجوزُ على اللهِ ويمتنِعُ لا يكونُ نبيًّا كليمًا، وقد وصَفه اللهُ تعالى بذلك قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] ، فالمقصودُ مِن البَعثةِ والرِّسالةِ هو الدَّعوةُ إلى العقائِدِ الحقَّةِ، والأعمالِ الصَّالحةِ المُوافِقةِ لدينِ اللهِ وشَرعِه؛ فالسُّؤالُ دلَّ على عَدمِ الامتِناعِ، وكونِه رسولًا مُصطفًى مُختارًا يمتنِعُ عليه الجَهلُ بمَن أرسَله واصطفاه [761] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/107)، ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (2/82). .
واعترضَت المُعتَزِلةُ على الاستِدلالِ بهذا بالدَّليلِ بعِدَّةِ اعتِراضاتٍ:
الاعتِراضُ الأوَّلُ: أنَّ موسى عليه السَّلامُ لم يطلُبِ الرُّؤيةَ، وإنَّما طلَب العِلمَ، وعبَّر بها عن لازِمِها الذي هو العِلمُ الضَّروريُّ، وإطلاقُ اسمِ الملزومِ على اللَّازِمِ شائِعٌ، فكأنَّه قال: اجعَلْني عالِمًا بك عِلمًا ضروريًّا، وهذا تأويلُ أبي الهُذَيلِ العلَّافِ، ووافَقه الجُبَّائيُّ وأكثَرُ البَصريِّينَ [762] يُنظر: ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 198)، ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/117). .
وقد ردَّ بعضُ المُعتَزِلةِ أنفُسِهم على هذا الاعتِراضِ، فقال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (قد أجاب شيخُنا أبو الهُذَيلِ عن هذا: بأنَّ الرُّؤيةَ ههنا بمعنى العِلمِ، ولا اعتِمادَ عليه؛ لأنَّ الرُّؤيةَ إنَّما تكونُ بمعنى العِلمِ متى تجرَّدَت، فأمَّا إذا قارَنها النَّظرُ فلا تكونُ بمعنى العِلمِ) [763] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 262). .
وأجاب أهلُ السُّنَّةِ عنه فقالوا: إنَّ الرُّؤيةَ المقرونةَ بالنَّظرِ الموصولِ بـإلى نصٌّ في الرُّؤيةِ، فلو كانت الرُّؤيةُ المطلوبةُ في أَرِنِي بمعنى العِلمِ لكان النَّظرُ المُترتِّبُ عليه بمعناه أيضًا، وإن كان استِعمالُ النَّظرِ بمعنى العِلمِ جائِزًا إلَّا أنَّه في حالِ وَصلِه بـإلى يكونُ بعيدًا مُخالِفًا للظَّاهِرِ، ولا تجوزُ مُخالَفةُ الظَّاهِرِ إلَّا بدليلٍ، ولا دليلَ؛ فوجَب إذًا حَملُه على الرُّؤيةِ بالعِيانِ، ويمتنِعُ حَملُ الرُّؤيةِ على العِلمِ الضَّروريِّ ههنا أيضًا؛ لأنَّه يلزَمُ ألَّا يكونَ موسى عالِمًا بربِّه ضرورةً معَ أنَّه يُكلِّمُه مِن غَيرِ وساطةٍ، وإنَّما طَلبَ الرُّؤيةَ شوقًا إليها بَعدَ سماعِ الكلامِ، فدعوى عَدمِ العِلمِ غَيرُ معقولةٍ؛ حيثُ إنَّ المُخاطَبَ في حُكمِ الحاضِرِ المُشاهِدِ، وما هو معلومٌ بالنَّظرِ ليس كذلك، ولأنَّه تعالى أجاب موسى بقولِه: لَنْ تَرَانِي، وهذا نَفيٌ للرُّؤيةِ لا للعِلمِ الضَّروريِّ.
والجوابُ ينبغي أن يُطابِقَ السُّؤالَ، ولو حُمِل سُؤالُ موسى على طَلبِ العِلمِ لم يكنْ هذا جوابَه [764] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/117)، ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (2/82). .
الاعتِراضُ الثَّاني: أنَّ موسى عليه السَّلامُ لم يسألِ اللهَ أن يُريَه ذاتَه، وإنَّما سأله أن يُريَه عِلمًا مِن عُلومِه، ويكونُ تقديرُ الكلامِ (أرِني أنظُرْ إلى عِلمِك) فحذَف المُضافَ وأقام المُضافَ إليه مقامَه، فقال: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ، فتكونُ الرُّؤيةُ المطلوبةُ مُتعلِّقةً بالعِلمِ، ويكونُ المعنى: أرِني عِلمًا مِن عُلومِك أنظُرْ إلى عِلمِك.
وقد أجاب الباقِلَّانيُّ عن هذا الاعتِراضِ، فقال: (إنَّ هذا غَيرُ جائِزٍ في اللُّغةِ؛ لأنَّ القائِلَ لا يجوزُ أن يقولَ لمَن يسمَعُ كلامَه ويعرِفُه ولا يشُكُّ فيه: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ، وهو يُريُد "عرِّفْني نَفسَك"، أو "أرني فِعلًا مِن أفعالِك"، هذا غَيرُ مُستعمَلٍ في اللِّسانِ، ولأنَّ النَّظرَ إذا أُطلِق فليس معناه إلَّا رُؤيةَ العَينِ، وإن أُريد به العِلمُ فبدليلٍ، ولأنَّ النَّظرَ الذي في الآيةِ مُعدًّى بقولِه: "إليك"، والنَّظرُ المُعدَّى بـ "إلى" لا يجوزُ في كلامِ العربِ أن يُرادَ به إلَّا نَظرُ العَينِ) [765] ((التمهيد)) (ص: 272). .
وقال الجُرجانيُّ: (إنَّه خلافُ الظَّاهِرِ، فلا يُرتكَبُ إلَّا لدليلٍ، ومعَ ذلك لا يستقيمُ:
أمَّا أوَّلًا: فلقولِه لَنْ تَرَانِي؛ فإنَّه نَفيٌ لرُؤيتِه تعالى لا لرُؤيةِ علَمٍ مِن أعلامِه بإجماعِهم؛ فلا يُطابِقُ الجوابُ السُّؤالَ حينَئذٍ.
وأمَّا ثانيًا: فلأنَّ تَدكدُكَ الجبلِ الذي شاهَده موسى عليه السَّلامُ مِن أعظَمِ الأعلامِ، فلا يُناسِبُ قولُه: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ المَنعَ مِن رُؤيةِ العلامةِ المُستفادةِ مِن قولِه: لَنْ تَرَانِي على هذا التَّأويلِ، بل يُناسِبُ رُؤيتَها، وأيضًا قولُه: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ لا يُلائِمُ رُؤيتَها؛ لأنَّ الآيةَ في تَدكدُكِ الجَبلِ لا في استِقرارِه) [766] ((شرح المواقف)) (8/118). .
الاعتِراضُ الثَّالثُ: ما قاله أبو عليٍّ وأبو هاشِمٍ: (إنَّ السُّؤالَ لم يكنْ سُؤالَ موسى، وإنَّما كان سُؤالًا عن قومِه، والذي يدُلُّ عليه قولُه عزَّ وجلَّ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء: 153] ، وقولُه عزَّ وجلَّ: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55] فصرَّح تعالى بأنَّ القومَ هم الذين حمَلوه على هذا السُّؤالِ.
ويدُلُّ عليه أيضًا قولُه حاكيًا عن موسى عليه السَّلامُ: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ [الأعراف: 155] ، فبيَّن أنَّ السُّؤالَ سُؤالٌ عن قومِه، وأنَّ الذَّنبَ ذَنبُهم) [767] ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 262)، ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 198). .
وقال الزَّمَخشَريُّ: (ما طلَب الرُّؤيةَ إلَّا ليُبَكِّتَ هؤلاء الذين دعاهم سُفهاءَ وضُلَّالًا، وتَبرَّأَ مِن فِعلِهم، ولِيُلقِمَهم الحَجرَ، وذلك أنَّهم حينَ طلَبوا الرُّؤيةَ أنكَر عليهم وأعلَمهم الخطأَ، ونبَّههم على الحقِّ، فلجُّوا وتمادَوا في لَجاجِهم، وقالوا: لا بُدَّ، ولن نُؤمِنَ لك حتَّى نرى اللهَ جَهرةً، فأرادوا أن يسمعوا النَّصَّ مِن عندِ اللهِ باستِحالةِ ذلك، وهو قولُه لَنْ تَرَانِي؛ ليتيقَّنوا وينزاحَ عنهم ما دخَلهم مِن الشُّبَهِ؛ فلذلك قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] .
فإن قُلتَ: فهلَّا قال: أرِهم ينظُرونَ إليك؟
قُلْتُ: لأنَّ اللهَ سُبحانَه إنَّما كلَّم موسى عليه السَّلامُ وهُم يسمَعونَ، فلمَّا سمِعوا كلامَ ربِّ العِزَّةِ أرادوا أن يرى موسى ذاتَه، فيُبصِروه معَه كما أسمَعه كلامَه، فسمِعوه معَه إرادةً مبنيَّةً على قياسٍ فاسِدٍ؛ فلذلك قال موسى: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ، ولأنَّه إذا زُجِر عمَّا طلَب وأُنكِر عليه في نُبوَّتِه واختِصاصِه وزُلفتِه عندَ اللهِ تعالى، وقيل له: لن يكونَ ذلك؛ كان غَيرُه أَولى بالإنكارِ، ولأنَّ الرَّسولَ إمامُ أمَّتِه، فكان ما يُخاطَبُ به أو ما يُخاطِبُ راجِعًا إليهم، وقولُه: أَنْظُرْ إِلَيْكَ، وما فيه مِن معنى المُقابَلةِ التي هي محضُ التَّشبيهِ والتَّجسيمِ دليلٌ على أنَّه ترجمةٌ عن مُقترحاتِهم وحكايةٌ لقولِهم) [768] ((الكشاف)) (2/113). .
وعلى هذا التَّأويلِ الجاحِظُ وأكثَرُ المُعتَزِلةِ؛ فهم يقولونَ: إنَّ الطَّلبَ ليس مِن موسى عليه السَّلامُ لنَفسِه، وإنَّما لقومِه، على ما مرَّ [769] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/119). .
وقد أجاب الرَّازيُّ عن هذا الاعتِراضِ، فقال: (هذا تأويلٌ فاسِدٌ، ويدُلُّ عليه وُجوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّه لو كان الأمرُ كذلك لقال موسى: (أرِهم ينظُروا إليك)، ولقال تعالى: (لن يَرَوني)، فلمَّا لم يكنْ كذلك بطَل هذا التَّأويلُ.
الثَّاني: أنَّه لو كان هذا السُّؤالُ طَلبًا للمُحالِ لَمنَعهم عنه، كما أنَّهم لمَّا قالوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] ؛ منَعهم عنه بقولِه: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] .
الثَّالثُ: أنَّه كان يجِبُ على موسى عليه السَّلامُ إقامةُ الدَّلائِلِ القاطِعةِ على أنَّه تعالى لا تجوزُ رُؤيتُه، وأن يمنَعَ قومَه بتلك الدَّلائِلِ عن هذا السُّؤالِ؛ فأمَّا ألَّا يذكُرَ شيئًا مِن تلك الدَّلائِلِ البتَّةَ معَ أنَّ ذِكرَها كان فَرضًا، كان هذا نِسبةً لتَركِ الواجِبِ إلى موسى عليه السَّلامُ.
الرَّابعُ: أنَّ أولئك الأقوامَ الذين طلبوا الرُّؤيةَ إمَّا أن يكونوا قد آمَنوا بنُبوَّةِ موسى عليه السَّلامُ أو لا؛ فإن كان الأوَّلَ كفاهم في الاقتِناعِ عن ذلك السُّؤالِ الباطِلِ مُجرَّدُ قولِ موسى عليه السَّلامُ، فلا حاجةَ إلى هذا السُّؤالِ الذي ذكَره موسى عليه السَّلامُ، وإن كان الثَّانيَ لم ينتفِعوا بهذا الجوابِ؛ لأنَّهم يقولونَ له: لا نُسلِّمُ أنَّ اللهَ منَع مِن الرُّؤيةِ، بل هذا قولٌ افترَيتَه على اللهِ تعالى، فثبَت أنَّ على كِلا التَّقديرَينِ لا فائِدةَ للقومِ في قولِ موسى عليه السَّلامُ: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) [770] ((التفسير الكبير)) (14/220). .
جوابٌ آخَرُ عن هذا الاعتِراضِ:
أنَّهم لمَّا طلَبوا مِن موسى أن يُريَهم اللهَ جَهرةً زجَرهم اللهُ تعالى، وردَعهم عن سُؤالِهم بأخْذِ الصَّاعِقةِ مِن غَيرِ ما طَلَبٍ مِن موسى إلى زَجرِهم بطَلبِ الرُّؤيةِ وإضافتِها إلى نَفسِه.
فإن قيل: إنَّ أخْذَ الصَّاعِقةِ لهم لا يدُلُّ على أنَّ الرُّؤيةَ ممنوعةٌ فالصَّاعِقةُ أخذَتهم عَقِيبَ السُّؤالِ، ولا يدُلُّ على امتِناعِ ما طلَبوه لجوازِ أن يكونَ الأخْذُ بالصَّاعِقةِ؛ لأنَّهم قصَدوا إعجازَ موسى عليه السَّلامُ مِن الإتيانِ بما طلَبوه معَ كونِه مُمكِنًا، فأنكَر اللهُ ذلك عليهم وعاقَبهم، كما أنكَر تعالى قولَ أهلِ مكَّةَ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا [الإسراء: 90] ، وقولَ أهلِ الكتابِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنزِلْ علينا كتابًا مِن السَّماءِ؛ قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء: 153] ، وما ذلك إلَّا بسببِ التَّعنُّتِ، وإن كان المسؤولُ أمرًا مُمكِنًا في نَفسِه، فأظهَر اللهُ لهم ما يدُلُّ على صِدقِه مُعجِزًا ورادِعًا لهم عن التَّعنُّتِ [771] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/119). .
أمَّا استِدلالُهم بقولِ اللهِ تعالى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ [الأعراف: 155] على أنَّه سُؤالٌ عن قومِه، وتعقيبُ الزَّمَخشَريِّ على ذلك فلا يُسلَّمُ لهم.
قال ابنُ المُنَيِّرِ: (إنَّ الذي كان الإهلاكُ بسببِه إنَّما هو عِبادةُ العِجلِ في قولِ أكثَرِ المُفسِّرينَ، ثُمَّ وإن كان السَّببُ طَلبَهم للرُّؤيةِ فليس لأنَّها غَيرُ جائِزةٍ على اللهِ، ولكنَّ اللهَ تعالى أخبَر أنَّها لا تقعُ في دارِ الدُّنيا، والخبرُ صِدقٌ، وذلك بَعدَ سُؤالِ موسى للرُّؤيةِ، فلمَّا سألوه وقد سمِعوا الخبرَ بعَدمِ وُقوعِها كان طَلبُهم خِلافَ المعلومِ تكذيبًا للخبرِ؛ فمِن ثَمَّ سفَّههم موسى عليه السَّلامُ، وتبرَّأ مِن طَلبِ ما أخبَر اللهُ أنَّه لا يقعُ، ثُمَّ ولو كان سُؤالُهم الرُّؤيةَ قَبلَ إخبارِ اللهِ تعالى بعَدمِ وُقوعِها فإنَّما سفَّههم موسى عليه السَّلامُ لاقتِراحِهم على اللهِ هذه الآيةَ الخاصَّةَ وتوقيفِهم الإيمانَ عليها؛ حيثُ قالوا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55] ، ألا ترى أنَّ قولَ أهلِ مكَّةَ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء: 90] إنَّما سألوا منه جائِزًا، ومعَ ذلك قُرِّعوا لاقتِراحِهم على اللهِ ما لا يتوقَّفُ وُجوبُ الإيمانِ عليه؟) [772] ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) (2/112) بهامش ((الكشاف)) بتصَرُّفٍ. .
الاعتِراضُ الرَّابعُ:
أنَّ موسى عليه السَّلامُ ما عرَف أنَّ الرُّؤيةَ غَيرُ جائِزةٍ على اللهِ تعالى، ومعَ الجهلِ بهذا المعنى قد يكونُ المرءُ عارِفًا بربِّه وبعَدلِه وتوحيدِه؛ فلم يبعُدْ أن يكونَ العِلمُ بامتِناعِ الرُّؤيةِ وجوازِها موقوفًا على السَّمعِ [773] يُنظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (14/229). .
قال الرَّازيُّ في الجوابِ عن هذا: (قال أصحابُنا: أمَّا هذا الوَجهُ فضعيفٌ، ويدلُّ عليه وُجوهٌ:
الأوَّلُ: إجماعُ العُقلاءِ على أنَّ موسى عليه السَّلامُ ما كان في العِلمِ باللهِ أقَلَّ منزِلةً ومَرتَبةً مِن أراذِلِ المُعتَزِلةِ، فلمَّا كان كلُّهم عالِمينَ بامتِناعِ الرُّؤيةِ على اللهِ تعالى، وفرَضْنا أنَّ موسى عليه السَّلامُ لم يعرِفْ ذلك كانت معرفتُه باللهِ أقَلَّ درجةً مِن معرفةِ كُلِّ واحِدٍ مِن أراذِلِ المُعتَزِلةِ، وذلك باطِلٌ بإجماعِ المُسلِمينَ.
الثَّاني: أنَّ المُعتَزِلةَ يَدَّعونَ العِلمَ الضَّروريِّ بأنَّ كُلَّ ما كان مرئيًّا فإنَّه يجِبُ أن يكونَ مُقابِلًا، أو في حُكمِ المُقابِلِ؛ فإمَّا أن يُقالَ: إنَّ موسى عليه السَّلامُ حصَل له هذا العِلمُ، أو لم يحصُلْ له هذا العِلمُ؛ فإن كان الأوَّلَ كان تجويزُه لكونِه تعالى مرئيًّا يوجِبُ تجويزَ كونِه تعالى حاصِلًا في الحيِّزِ والجهةِ، وتجويزُ هذا المعنى على اللهِ تعالى يوجِبُ الكُفرَ عندَ المُعتَزِلةِ؛ فيلزَمُ كونُ موسى عليه السَّلامُ كافِرًا، وذلك لا يقولُه عاقِلٌ.
وإن كان الثَّانيَ فنقولُ: لمَّا كان العِلمُ بأنَّ كُلَّ مرئيٍّ يجِبُ أن يكونَ مُقابِلًا أو في حُكمِ المُقابِلِ عِلمًا بَدَهيًّا ضروريًّا، ثُمَّ فرضْنا أنَّ هذا العِلمَ ما كان حاصِلًا لموسى عليه السَّلامُ لزِم أن يُقالَ: إنَّ موسى عليه السَّلامُ لم يحصُلْ فيه جميعُ العُلومِ الضَّروريَّةِ، ومَن كان كذلك فهو مجنونٌ، فيلزَمُهم الحُكمُ بأنَّه عليه السَّلامُ ما كان كامِلَ العقلِ، بل كان مجنونًا، وذلك كُفرٌ بإجماعِ الأمَّةِ، فثبَت أنَّ القولَ بأنَّ موسى عليه السَّلامُ ما كان عالِمًا بامتِناعِ الرُّؤيةِ معَ فَرضِ أنَّه تعالى مُمتنِعُ الرُّؤيةِ يوجِبُ أحدَ هذَينِ القِسمَينِ الباطِلَينِ؛ فكان القولُ به باطِلًا. واللهُ أعلَمُ) [774] ((التفسير الكبير)) (14/229). .
وبتصوُّرِ اعتِراضِ المُعتَزِلةِ على الوَجهِ الأوَّلِ مِن وَجهَي الرَّدِّ بأنَّ هذه العقيدةَ سمعيَّةٌ؛ ففي الوقتِ الذي سأل موسى ربَّه الرُّؤيةَ لم يكنْ جاءه وحيٌ بامتِناعِها؛ بخِلافِ المُعتَزِلةِ؛ فإنَّهم علِموا ذلك مِن الوحيِ الذي نزَل على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّها مُمتنِعةٌ، وهذا لا يوجِبُ أفضليَّةَ المُعتَزِلةِ على موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّ المسألةَ راجِعةٌ إلى السَّمعِ والوَحيِ، هذا ما يُمكِنُ أن يعترِضَ به المُعتَزِلةُ على هذا الجوابِ.
فيُقالُ: إنَّ عقيدةَ الرُّؤيةِ ليست سمعيَّةً، بل هي عقيدةٌ عقليَّةٌ باعتِرافِكم أنفُسِكم؛ فإنَّكم حينَ أردْتُم الاستِدلالَ على دعواكم امتِناعَ الرُّؤيةِ قسَّمْتُم الأدلَّةَ إلى عقليَّةٍ ونقليَّةٍ، فإذًا هذه عقيدةٌ يُمكِنُ الاستِدلالُ عليها بالعقلِ، فما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ في الرَّدِّ على اعتِراضِكم قولٌ صحيحٌ حاسِمٌ؛ لأنَّه يلزَمُ أن تكونوا أقوى عقلًا مِن موسى؛ حيثُ علِمْتُم بعُقولِكم امتِناعَ الرُّؤيةِ معَ أنَّ موسى عليه السَّلامُ كان جاهِلًا بامتِناعِها، وهذا مِن أبعَدِ المُحالِ.
الاعتِراضُ الخامسُ:
ذكَر أبو الهُذَيلِ العلَّافُ أنَّه معَ عِلمِ موسى باستِحالتِها عقلًا طلَبها ليُؤكِّدَ لديه دليلَ العقلِ بدليلِ السَّمعِ؛ حتَّى يَقْوى عِلمُه بهذه الاستِحالةِ؛ لأنَّ تعدُّدَ الأدلَّةِ وإن كان مِن جنسٍ واحِدٍ يُفيدُ زيادةَ العِلمِ بالمدلولِ، فكيف إذا كانت مِن جِنسَينِ، وقد فعَل مِثلَ هذا قَبلَه إبراهيمُ عليه السَّلامُ حينَ طلَب الطُّمأنينةَ فيما يعتقِدُه ويعلَمُه بانضِمامِ المُشاهَدةِ إلى الدَّليلِ حينَ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] .
والجوابُ:
استِبعادُ هذا؛ لأنَّ العِلمَ لا يقبَلُ التَّفاوُتَ، فهو صفةٌ توجِبُ تمييزًا لا يحتمِلُ مُتعلِّقُه النَّقيضَ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، ولأنَّه لو كان المقصودُ إظهارَ آيةٍ سمعيَّةٍ تُقوِّي ما دلَّ العقلُ عليه؛ لوجَب أن يطلُبَ ذلك صريحًا مِن اللهِ بما يُقوِّي امتِناعَ رُؤيتِه تعالى بوُجوهٍ زائِدةٍ على ما ظهَر في العقلِ، وحيثُ لم يطلُبْ ذلك بل طلَب الرُّؤيةَ عُلِم فسادُ مُدَّعاهم.
أمَّا مُقارَنةُ ذلك بطَلبِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ فالفارِقُ ظاهِرٌ بَينَ طَلبِ إبراهيمَ وموسى على قولِهم؛ لأنَّ إبراهيمَ طلَب أن يرى الكيفيَّةَ مُشاهَدةً ظاهِرةً جليَّةً معَ تصديقِه، أمَّا طلبُ موسى على مُدَّعاهم فهو يطلُبُ دليلًا سمعيًّا يُقوِّي به العقلَ معَ عِلمِه بالاستِحالةِ، فما طلَبه موسى هو عَينُ ما يَعلَمُ، والعِلمُ لا يقبَلُ التَّفاوُتَ [775] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/120). .
الوَجهُ الثَّاني مِن أوجُهِ الاستِدلالِ بالآيةِ على الجوازِ هو:
أنَّ اللهَ لم ينْهَه ولا أيأَسه لمَّا طلَب الرُّؤيةَ، ولو كانت مُحالةً لأنكَر عليه؛ فقد أنكَر جلَّ وعلا على نوحٍ لمَّا سأله نجاةَ ابنِه؛ حيثُ قال: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47] . وحينَما قال الخليلُ عليه السَّلامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] لم يُنكِرْ عليه سُؤالَه، ولمَّا قال عيسى عليه السَّلامُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المائدة: 114] لم يُنكِرْ عليه سُؤالَه؛ ففي إنكارِه جلَّ وعلا على نوحٍ عليه السَّلامُ دليلُ عَدمِ جوازِ ما طلَب، وعَدمُ الإنكارِ على الخليلِ وموسى وعيسى صلَّى اللهُ عليهم وسلَّم دليلُ الجوازِ وعَدمِ الاستِحالةِ [776] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (223). .
الوَجهُ الثَّالثُ مِن أوجُهِ الاستِدلالِ بالآيةِ على الجوازِ هو:
أنَّ اللهَ تعالى أجابه بقولِه لَنْ تَرَانِي، وهذا دليلٌ على الجوازِ؛ فلو كانت الرُّؤيةُ مُستحيلةً عليه لقال: لا تراني، أو لسْتُ بمَرئيٍّ، أو لا تجوزُ رُؤيتي؛ ألا ترى أنَّه لو كان في يدِ رجُلٍ حَجرٌ مَثلًا فقال له آخَرُ: أعطِني هذا لِآكُلَه، فإنَّه يقولُ له: هذا لا يُؤكَلُ، ولا يقولُ له: لا تأكُلْه، ولو كان في يدِه بَدلَ الحَجرِ تُفَّاحةٌ لقال له: لا تأكُلْها، أي هذا ممَّا يُؤكَلُ، ولكنَّك لا تأكُلُه، والفرقُ بَينَ الجوابَينِ ظاهِرٌ لمَن تأمَّلَه؛ ففي قولِه في الجوابِ: لَنْ تَرَانِي دليلٌ على أنَّه سُبحانَه وتعالى يُرى، ولكنَّ موسى عليه السَّلامُ لا تَحتمِلُ قُواه رُؤيتَه في هذه الدَّارِ لِضَعفِ قوَّةِ البَشرِ فيها عن رُؤيةِ العليِّ العظيمِ [777] يُنظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (14/231)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 223). .
قال أبو سعيدٍ الدَّارِميُّ في قولِه تعالى: لَنْ تَرَانِي: (في الدُّنيا؛ لأنَّ بصرَ موسى مِن الأبصارِ التي كتَب اللهُ عليها الفَناءَ في الدُّنيا؛ فلا تحتمِلُ النَّظرَ إلى نورِ البقاءِ، فإذا كانت يومَ القيامةِ رُكِّبَت الأبصارُ والأسماعُ للبقاءِ، فاحتمَلَت النَّظرَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بما يُطوِّقُها اللهُ، ألا ترى أنَّه يقولُ: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ولو قد شاء لاستقرَّ الجبلُ، ورآه موسى، ولكن سبقَت منه الكَلِمةُ ألَّا يراه أحدٌ في الدُّنيا؛ فلذلك قال: لَنْ تَرَانِي، فأمَّا في الآخِرةِ فإنَّ اللهَ تعالى يُنشِئُ خَلقَه، فيُركِّبُ أسماعَهم وأبصارَهم للبقاءِ، فيراه أولياؤُه جَهرًا، كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [778] حديثُ رؤيةِ اللهِ جَهرًا يومَ القيامةِ. أخرجه البُخاريُّ (806)، ومُسلمٌ (182) من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: (أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ اللهِ، هل نرى رَبَّنا يومَ القيامةِ؟ قال: هل تُمارُونَ في القَمَرِ ليلةَ البَدرِ ليس دونَه سَحابٌ؟ قالوا: لا يا رسولَ اللهِ. قال: فهل تُمارُونَ في الشَّمسِ ليس دونَها سحابٌ؟ قالوا: لا. قال: فإنَّكم تَرَونَه كذلك). [779] ((الرد على الجهمية)) (ص: 55). .
الوَجهُ الرَّابعُ مِن أوجُهِ الاستِدلالِ بالآيةِ على الجوازِ:
أنَّه تعالى علَّق الرُّؤيةَ على أمرٍ جائِزٍ، وهو استِقرارُ الجبلِ، والمُعلَّقُ على الجائِزِ جائِزٌ؛ فيلزَمُ كونُ الرُّؤيةِ في نَفسِها جائِزةً.
قال الرَّازيُّ: (إذا ثبَت هذا وجَب أن تكونَ رُؤيتُه جائِزةَ الوُجودِ في نَفسِها؛ لأنَّه لمَّا كان ذلك الشَّرطُ أمرًا جائِزَ الوُجودِ لم يلزَمْ مِن فَرضِ وُقوعِه مُحالٌ، فبتقديرِ حُصولِ ذلك الشَّرطِ، إمَّا أن يترتَّبَ عليه الجزاءُ الذي هو حُصولُ الرُّؤيةِ أو لا يترتَّبُ؛ فإن ترتَّب عليه حُصولُ الرُّؤيةِ لَزِم القَطعُ بكونِ الرُّؤيةِ جائِزةَ الحُصولِ، وإن لم يترتَّبْ عليه حُصولُ الرُّؤيةِ قدَح هذا في صحَّةِ قولِه: إنَّه متى حصَل ذلك الشَّرطُ حصَلَت الرُّؤيةُ، وذلك باطِلٌ) [780] ((التفسير الكبير)) (14/231). .
وللمُعتَزِلةِ على هذا الوَجهِ اعتِراضانِ:
الاعتِراضُ الأوَّلُ:
أنَّه علَّق الرُّؤيةَ على استِقرارِ الجبلِ، ولا يخلو؛ إمَّا أن يكونَ علَّقها باستِقرارِه بَعدَ تحرُّكِه وتَدكدُكِه، أو علَّقها به حالَ تحرُّكِه، ولا يجوزُ أن يكونَ بالاستِقرارِ بَعدَ التَّحرُّكِ؛ لأنَّه لم يَرَه؛ فصحَّ أنَّ التَّعليقَ كان حالَ الحركةِ، وذلك دليلٌ على استِحالةِ الرُّؤيةِ كاستِحالةِ استِقرارِ الجبلِ حالَ حركتِه، والمعلومُ أنَّه لا يستقِرُّ، وهذه طريقةُ العربِ إذا أرادوا تأكيدَ اليأسِ مِن الشَّيءِ علَّقوه بأمرٍ يَبعُدُ حُصولُه، فلمَّا جعَله تعالى دكًّا وظهَر بَعدَ استِقرارِه لذلك في النُّفوسِ حلَّ مَحلَّ الأمورِ التي يَبعُدُ بها الشَّيءُ إذا عُلِّق بها في الكلامِ؛ لأنَّ استِقرارَه وقد جعَله دكًّا يستحيلُ؛ لِما فيه مِن اجتِماعِ الضِّدَّينِ؛ فما عُلِّق به يجِبُ أن يكونَ بمنزِلتِه.
الاعتِراضُ الثَّاني:
أنَّه لم يُقصَدْ مِن التَّعليقِ المذكورِ في الآيةِ بيانُ إمكانِ الرُّؤيةِ أو امتِناعِها، بل بيانُ عَدمِ وُقوعِها لعَدمِ المُعلَّقِ به، وهو الاستِقرارُ، بغضِّ النَّظرِ عن كونِه مُمكِنًا أو مُمتنِعًا [781] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 265)، ((متشابه القرآن)) (ص: 296)، كلاهما لعبد الجبار، ((الكشاف)) للزمخشري (2/114). .
هذا تصويرُ ما اعتَرضوا به على هذا الدَّليلِ.
أما الاعتراض الأوَّل: فهو أحدُ أوجُهِ استِدلالِهم بالآيةِ على مَنعِ الرُّؤيةِ، وقدَّمْنا الجوابَ على الدَّليلِ هناك، ونُعيدُ الجوابَ مِن وَجهٍ آخَرَ يُناسِبُ الاعتِراضَ؛ قال الرَّازيُّ: (إنَّ اعتِبارَ حالِ الجبلِ مِن حيثُ هو مُغايِرٌ لاعتِبارِ حالِه مِن حيثُ إنَّه مُتحرِّكٌ أو ساكِنٌ، وكونُه مُمتنِعَ الخُلوِّ عن الحركةِ أو السُّكونِ لا يمنَعُ اعتِبارَ حالِه مِن حيثُ إنَّه مُتحرِّكٌ أو ساكِنٌ، ألا ترى أنَّ الشَّيءَ لو أخذْتَه بشرطِ كونِه موجودًا كان واجِبَ الوُجودِ، ولو أخذْتَه بشرطِ كونِه معدومًا كان واجِبَ العَدمِ؛ فلو أخذْتَه مِن حيثُ هو معَ قَطعِ النَّظرِ عن كونِه موجودًا أو كونِه معدومًا كان مُمكِنَ الوُجودِ؛ فكذا ههنا الذي جُعِل شرطًا في اللَّفظِ هو استِقرارُ الجبلِ، وهذا القَدْرُ مُمكِنُ الوُجودِ؛ فثبَت أنَّ القَدْرَ الذي جُعِل شرطًا أمرٌ مُمكِنُ الوُجودِ جائِزُ الحُصولِ، وهذا القَدْرُ يكفي لبناءِ المطلوبِ عليه) [782] ((التفسير الكبير)) (14/232). .
وقد سبَق في دَفعِ الاعتِراضِ أنَّه إذا علَّق اللهُ تعالى رُؤيةَ موسى على استِقرارِ الجبلِ فليس المُرادُ بالاستِقرارِ أن يحصُلَ معَ الاندِكاكِ كما زعَم المُعتَزِلةُ، بل المُرادُ أن يحصُلَ الاستِقرارُ بَدلَ الاندِكاكِ، ولا شكَّ أنَّ هذا أمرٌ مُمكِنٌ، وهذا هو المعروفُ في أساليبِ الكلامِ؛ فإنَّك لو قلْتَ لشخصٍ وهو جالِسٌ: إن قمْتَ أعطَيتُك جائِزةً مَثلًا لم يكنِ المُرادُ أن يقومَ وهو جالِسٌ، بل المُرادُ أن يقومَ بَدلَ جُلوسِه، وهذا ظاهِرٌ.
والجوابُ عن الاعتِراضِ الثَّاني: وهو قولُهم: إنَّ المقصودَ مِن التَّعليقِ بيانُ عَدمِ المُعلَّقِ لعَدمِ المُعلَّقِ به، ذكَره الجُرجانيُّ، فقال: (إنَّه قد لا يُقصَدُ الشَّيءُ في الكلامِ قَصدًا بالذَّاتِ، ويلزَمُ منه لُزومًا قطعيًّا، والحالُ ههنا كذلك؛ فإنَّه إذا فُرِض وُقوعُ الشَّرطِ الذي هو مُمكِنٌ في نَفسِه؛ فإمَّا أن يقعَ المشروطُ فيكونَ مُمكِنًا، وإلَّا فلا معنى للتَّعليقِ وإيرادِ الشَّرطِ والمشروطِ؛ لأنَّه حينَئذٍ مُنتفٍ على تقديرَيْ وُجودِ الشَّرطِ وعَدمِه، لا يُقالُ: فائِدةُ التَّعليقِ رَبطُ العَدمِ بالعَدمِ معَ السُّكوتِ عن ربطِ الوُجودِ بالوُجودِ؛ لأنَّا نقولُ: إنَّ المُتبادِرَ في اللُّغةِ مِن مِثلِ قولِنا: إن ضرَبْتَني ضرَبْتُك هو الرَّبطُ في جانبَيِ الوُجودِ والعَدمِ معًا، لا في جانِبِ العَدمِ فقط، كما هو المُعتبَرُ في الشَّرطِ المُصطلَحِ) [783] ((شرح المواقف)) (8/121). .
الوَجهُ الخامسُ مِن أوجُهِ الاستِدلالِ بالآيةِ على الجوازِ هو:
تجلِّي اللهِ تعالى للجبلِ، وهذا التَّجلِّي هو الظُّهورُ.
قال القُرطُبيُّ: (تجلَّى، أي: ظهَر، مِن قولِك: جلَوْتُ العروسَ، أي: أبرَزْتُها، وجلَوْتُ السَّيفَ: أبرَزْتُه مِن الصَّدأِ، جَلاءً فيهما، وتجلَّى الشَّيءُ: انكشَف) [784] ((الجامع لأحكام القرآن)) (7/278). ، والمقصودُ: إعلامُ نبيِّ اللهِ موسى عليه السَّلامُ أنَّ الإنسانَ لا يُطيقُ رُؤيةَ اللهِ تعالى؛ حيثُ إنَّ الجبلَ معَ قوَّتِه وصلابتِه لمَّا رأى اللهَ تعالى اندكَّ وتفرَّقَت أجزاؤُه؛ فبدا مُسوًّى بالأرضِ مدكوكًا، وحيثُ جاز تجلِّي اللهِ للجبلِ ورُؤيتُه له وهو جمادٌ لا ثوابَ له ولا عِقابَ، فكيف يمتنِعُ أن يتجلَّى لأنبيائِه ورُسلِه وأوليائِه في دارِ كرامتِه ويُريهم نَفسَه؟
فإذا قال المُعتَزِلةُ إنَّ المُرادَ بقولِه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أنَّه لمَّا ظهَر مِن آياتِه وقُدرتِه ما أوجَب أن يصيرَ دكًّا، فيجِبُ أن يُحمَلَ على إظهارِ القُدرةِ؛ يُبيِّنُ ذلك أنَّه تعالى علَّق جَعْلَه الجبلَ دكًّا بالتَّجلِّي، ولو أراد به تجلَّيَ ذاتِه لم يكنْ لذلك معنًى؛ لأنَّه لو كان يجِبُ أن يصيرَ الجبلُ دكًّا، أو أراد تجلَّى بمعنى: المُقابَلةِ، لوجَب ألَّا يستقِرَّ له مكانٌ، بل كان يجِبُ في العَرَضِ أن يصيرَ دكًّا، وأن يكونَ بهذه الصِّفةِ أحَقَّ [785] يُنظر: ((متشابه القرآن)) لعبد الجبار (1/298). .
فإنَّه يُقالُ لهم: إنَّ معنى التَّجلِّي في اللُّغةِ الظُّهورُ الحقيقيُّ، والعُدولُ عنه عُدولٌ عن الحقِّ، ثُمَّ القولُ: (إنَّه تعالى علَّق جَعْلَه الجبلَ دكًّا بالتَّجلِّي، ولو أراد به تجلِّيَ ذاتِه لم يكن لذلك معنًى) هذا بعيدٌ عن الصَّوابِ؛ إذ لا يعدَمُ المعنى إلَّا فيما إذا أُريد بالتَّجلِّي غَيرُ ذاتِه؛ فموسى طلَب رُؤيةَ الذَّاتِ لا القُدرةِ، وقد سبَق هذا رُؤيةُ الكثيرِ مِن قُدرتِه تعالى لموسى كالمُعجِزاتِ التي أيَّده اللهُ بها، وكُلُّ ذلك رُؤيةٌ لآثارِ القُدرةِ؛ فالحَملُ على أنَّ التَّجلِّيَ تجلِّي القُدرةِ لهذا بعيدٌ جدًّا.
ثُمَّ القولُ (بأنَّه لو كان المُرادُ بالتَّجلِّي المُقابَلةَ لوجَب ألَّا يستقِرَّ له مكانٌ، وهذا في العَرشِ يكونُ أَولى)؛ قولٌ في غايةِ الضَّعفِ؛ فالعرشُ قد خلَقه اللهُ تعالى لهذا الشَّأنِ، وجعَل فيه الصُّمودَ والتَّحمُّلَ لِما خلَقه له، والكُرسيُّ والحِجابُ كذلك، وما خلَقه لغَيرِ ذلك لا يحتمِلُ ظُهورَ ذاتِه في الدُّنيا؛ فـ "حِجابُه النُّورُ، ولو كشَفه لأحرَقَت سُبُحاتُ وُجهِه ما انتهى إليه بَصَرُه مِن خَلقِه" [786] أخرجه مسلم (179) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، أي: لاحترَقَت السَّمواتُ والأرضُ ومَن فيهنَّ، وقالوا: (لو كان في الحقيقةِ تجلَّى للجبلِ بمعنى أنَّه ظهَر وزال الحُجُبُ، لكان مَن على الجبلِ يراه أيضًا، فكان لا يصِحُّ معَ ذلك قولُه: لَنْ تَرَانِي، وكان لا يصِحُّ أن يُعلَّقَ نَفيُ الرُّؤيةِ بألَّا يستقِرَّ الجبلُ، والمعلومُ أنَّه لا يستقِرُّ بأن ينكشِفَ ويُرى؛ لأنَّ ذلك في حُكمِ أن يُجعَلَ الشَّرطُ في ألَّا يُرى ما يوجِبُ أن يُرى، وذلك مُتناقِضٌ) [787] ((متشابه القرآن)) لعبد الجبار (1/258). .
والجوابُ عن هذا بقولِ اللهِ تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [الأنفال: 44] ، فإذا جاز أن يُقلِّلَ الكثيرَ في العَينِ الصَّحيحةِ جاز معَ صحَّتِها وارتِفاعِ الموانِعِ أن نراه عزَّ وجلَّ؛ حيث أجابوا بأنَّ الظَّاهِرَ يقتضي أنَّه قلَّل العددَ في أعيُنِ المُؤمِنينَ، وليس فيه أنَّه فعَل ذلك مِن غَيرِ مانِعٍ، ومِن قولِنا: إنَّ ذلك يجوزُ للموانِعِ، وإنَّما أنكَرْنا القولَ بأنَّ المرئيَّ لا نراه بالعَينِ الصَّحيحةِ معَ ارتِفاعِ جميعِ الموانِعِ [788] يُنظر: ((متشابه القرآن)) لعبد الجبار (1/323). ، فيحِقُّ لنا القولُ بحُصولِ التَّجلِّي للذَّاتِ، ووُجودِ مانِعٍ مِن الرُّؤيةِ لِما سِوى الجبلِ أوجَده اللهُ تعالى حيثُ قضى بأنَّه لا يُرى في الدُّنيا، وأنَّ الخَلقَ لا تتحمَّلُ النَّظرَ إليه، ولا تناقُضَ على ما يدَّعونَ؛ حيثُ إنَّ الشَّرطَ في الرُّؤيةِ وعَدمِها استِقرارُ الجبلِ وعُدمُه، لا الانكِشافُ، وهذا ظاهِرٌ.
فإن قيل: إنَّ الجبلَ جمادٌ فكيف يُتصوَّرُ أن يرى اللهَ تعالى؟!
قُلْنا: لا يمتنِعُ أن يخلُقَ اللهُ تعالى في ذاتِ الجبلِ الحياةَ والعَقلَ والفَهمَ وسائِرَ ما يتَّصِفُ به الحيُّ، ثُمَّ يخلُقَ فيه رُؤيةً مُتعلِّقةً بذاتِه تعالى حينَ تجلَّى له، ويُؤيِّدُ هذا أنَّه تعالى قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10] ، وكونُه مُخاطَبًا بهذا الخِطابِ مشروطٌ بحُصولِ الحياةِ والعقلِ، ونحتجُّ لهذا بتسبيحِ الحصى بيدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [789] لفظُ الحديثِ: عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((كنتُ أتبَعُ خَلَواتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأتعلَّمُ منه، فتناول النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبعَ حَصَياتٍ أو سَبعَ حَصَياتٍ، فسَبَّحْنَ في يدِه حتَّى سمِعتُ لهنَّ حنينًا كحنينِ النَّحلِ، ثُمَّ وضَعَهنَّ فخَرَسْنَ..)). أخرجه البزَّارُ كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (2413) واللَّفظُ له، وأبو نُعَيم في ((دلائل النبوة)) (538). قال النَّسائي كما في ((العلل المتناهية)) لابن الجوزي (1/207): باطلٌ مُنكَرٌ. وقال ابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) (1/206): لا يصِحُّ. وضَعَّفه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (6/685). ، وسلامِ الحَجرِ عليه [790] أخرجه مسلم (2277) من حديثِ جابرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((إنِّي لأعرِفُ حَجَرًا بمكَّةَ كان يُسَلِّمُ عليَّ قبل أن أُبعَثَ، إنِّي لأعرِفُه الآنَ)). [791] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تَيميَّة (ص: 7). ، وغَيرِ ذلك، وهو ليس بغريبٍ. واللهُ أعلَمُ.
الوَجهُ السَّادسُ مِن أوجُهِ الاستِدلالِ بالآيةِ على الجوازِ هو:
أنَّ مَن جاز عليه التَّكلُّمُ والتَّكليمُ، وأن يسمَعَ مُخاطَبةَ كلامِه بغَيرِ وساطةٍ فرُؤيتُه أَولى بالجوازِ، وكليمُ اللهِ وأعرَفُ النَّاسِ به في زمانِه لمَّا سمِع كلامَه ومُناجاتَه له مِن غَيرِ وَساطةٍ اشتاقَت نَفسُه إلى رُؤيتِه لعِلمِه عَدمَ التَّفريقِ بَينَ الرُّؤيةِ والكلامِ؛ لهذا فلا يتمُّ إنكارُ الرُّؤيةِ إلَّا بإنكارِ التَّكليمِ [792] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 224)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 133). .
2- مِن أدلَّةِ النَّقلِ على جوازِ رُؤيةِ اللهِ تعالى:
استنبَط بعضُ العُلماءِ دليلًا على جوازِ رُؤيةِ اللهِ تعالى مُطلَقًا مِن قولِه لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعدَما منَعه الرُّؤيةَ: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] .
فقال إسماعيلُ البُرُوسَويُّ عندَ تفسيرِ الآيةِ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ: (يعني ما ركَّبْتُ فيك استِعدادَه، واصطفَيتُك به مِن الرِّسالةِ والمُكالَمةِ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ؛ فإنَّ الشُّكرَ يُبلِّغُك إلى ما سألْتَ مِن الرُّؤيةِ؛ لأنَّ الشُّكرَ يستدعي الزِّيادةَ؛ لقولِه تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] ، والزِّيادةُ هي الرُّؤيةُ؛ لقولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: الزِّيادةُ: هي الرُّؤيةُ، والحُسنى: هي الجنَّةُ [793] أخرجه مسلم (181) من حديثِ صُهَيبِ بنِ سِنانٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، قال: يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدُكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّضْ وُجوهَنا؟ ألم تدخِلْنا الجنَّةَ وتنَجِّنا من النَّارِ؟ قال: فيَكشِفُ الحجابَ، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظَرِ إلى ربِّهم عزَّ وجَلَّ)) وفي روايةٍ ((ثُمَّ تلا هذه الآيةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] )). [794] ((تفسير روح البيان)) (3/239). .
وقال الرَّازيُّ: (اعلَمْ أنَّ موسى عليه السَّلامُ لمَّا طلَب الرُّؤيةَ ومنَعه اللهُ منها، عدَّد اللهُ عليه وُجوهَ نِعَمِه العظيمةِ التي له عليه، وأمَره أن يشتغِلَ بذِكرِها، كأنَّه قال له: إن كنْتُ قد منعْتُك الرُّؤيةَ فقد أعطَيتُك مِن النِّعَمِ العظيمةِ كذا وكذا، فلا يَضيقُ صَدرُك بسببِ مَنعِ الرُّؤيةِ، وانظُرْ إلى سائِرِ أنواعِ النِّعَمِ التي خصَصْتُك بها، واشتغِلْ بشُكرِها.
والمقصودُ تسليةُ موسى عليه السَّلامُ عن مَنعِ الرُّؤيةِ، وهذا أيضًا أحدُ ما يدُلُّ على أنَّ الرُّؤيةَ جائِزةٌ على اللهِ تعالى؛ إذ لو كانت مُمتنِعةً في نَفسِها لَما كان إلى ذِكرِ هذا القَدْرِ حاجةٌ) [795] ((التفسير الكبير)) (14/235). ويُنظر: ((روح المعاني)) للألوسي (9/55). .
والاستِدلالُ بهذه الآيةِ على الجوازِ قوِيٌّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عدَّد لموسى عليه السَّلامُ هذه النِّعَمَ التي أنعَم بها عليه لمَّا منَعه مِن حُصولِ جائِزِ طَلبِه منه، فذكَر ما ذكَر تسليةً له، ولو منَعه مِن مُمتنِعٍ لكان بخِطابٍ آخَرَ، وذلك مِثلُ خِطابِه تعالى لنوحٍ عليه السَّلامُ حينَ قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46] .
والفرقُ بَينَ خِطابِ اللهِ تعالى لموسى عليه السَّلامُ، وبَينَ خِطابِه لنوحٍ عليه السَّلامُ: ظاهِرٌ.
3- مِن أدلَّةِ النَّقلِ على جوازِ الرُّؤيةِ:
قولُ اللهِ تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] .
قال الألوسيُّ: (الأبصارُ: جَمعُ بَصَرٍ، يُطلَقُ -كما قال الرَّاغِبُ- على الجارِحةِ النَّاظِرةِ، وعلى القوَّةِ التي فيها، وعلى البصيرةِ، وهو قوَّةُ القلبِ المُدرِكةُ، وإدراكُ الشَّيءِ عبارةٌ عن الوُصولِ إلى غايتِه والإحاطةِ به، وأكثَرُ المُتكلِّمينَ على حَملِ البَصرِ هنا على الجارِحةِ مِن حيثُ إنَّها محَلُّ القوَّةِ، وقيل: هو إشارةٌ إلى ذلك وإلى الأوهامِ والأفهامِ، كما قال أميرُ المُؤمِنينَ عليٌّ كرَّم اللهُ تعالى وَجهَه: التَّوحيدُ أن لا تتوهَّمَه، وقال أيضًا: كُلُّ ما أدرَكْتَه فهو غَيرُه، ونقَل الرَّاغِبُ عن بعضِهم أنَّه حمَل ذلك على البَصيرةِ) [796] ((روح المعاني)) (7/244). .
وقال الرَّازيُّ في تقريرِ وَجهِ الدَّلالةِ على المدحِ: (لو لم يكنْ تعالى جائِزَ الرُّؤيةِ لَما حصَل التَّمدُّحُ بقولِه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام: 103] ؛ ألا ترى أنَّ المعدومَ لا تصِحُّ رُؤيتُه، والعُلومُ والقُدرةُ والإرادةُ والرَّوائِحُ والطُّعومُ لا يصِحُّ رُؤيةُ شيءٍ منها، ولا مَدحٌ لشيءٍ منها في كونِها بحيثُ لا تصِحُّ رُؤيتُها؟ فثبَت أنَّ قولَه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يُفيدُ المَدحَ، وثبَت أنَّ ذلك إنَّما يُفيدُ المدحَ لو كان صحيحَ الرُّؤيةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ قولَه تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يُفيدُ كونَه تعالى جائِزَ الرُّؤيةِ. وتمامُ التَّحقيقِ فيه: أنَّ الشَّيءَ إذا كان في نَفسِه بحيثُ تمتنِعُ رُؤيتُه فحينَئذٍ لا يلزَمُ مِن عَدمِ رُؤيتِه مَدحٌ وتعظيمٌ للشَّيءِ، أمَّا إذا كان في نَفسِه جائِزَ الرُّؤيةِ، ثُمَّ إنَّه قدَر على حَجبِ الأبصارِ عن رُؤيتِه وعن إدراكِه؛ كانت هذه القُدرةُ الكامِلةُ دالَّةً على المدحِ والعظَمةِ، فثبَت أنَّ هذه الآيةَ دالَّةٌ على أنَّه تعالى جائِزُ الرُّؤيةِ بحسَبِ ذاتِه) [797] ((التفسير الكبير)) (13/125). .
قال ابنُ القيِّمِ: (الاستِدلالُ بهذه الآيةِ على جوازِ الرُّؤيةِ أعجَبُ؛ فإنَّها مِن أدلَّةِ النُّفاةِ، وقد قرَّر شيخُنا وَجهَ الاستِدلالِ بها أحسَنَ تقريرٍ وألطَفَه، وقال: أنا ألتزِمُ أنَّه لا يحتَجُّ مُبطِلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطِلِه إلَّا وفي ذلك الدَّليلِ ما يدُلُّ على نقيضِ قولِه؛ فمنها هذه الآيةُ، وهي على جوازِ الرُّؤيةِ أدَلُّ منها على امتِناعِها؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى إنَّما ذكَرها في سِياقِ التَّمدُّحِ، ومعلومٌ أنَّ المَدحَ إنَّما يكونُ بالأوصافِ الثُّبوتيَّةِ، وأمَّا العَدمُ المحضُ فليس بكمالٍ، ولا يُمدَحُ الرَّبُّ تبارَك وتعالى بالعَدمِ إلَّا إذا تضمَّن أمرًا وُجوديًّا، كتمدُّحِه بنَفيِ السِّنةِ والنَّومِ المُتضمِّنةِ كمالَ القيُّوميَّةِ...، فقولُه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يدُلُّ على غايةِ عظَمتِه، وأنَّه أكبَرُ مِن كُلِّ شيءٍ، وأنَّه لعظَمتِه لا يُدرَكُ بحيثُ يُحاطُ به؛ فإنَّ الإدراكَ هو الإحاطةُ بالشَّيءِ، وهو قَدْرٌ زائِدٌ على الرُّؤيةِ...؛ فالمُؤمِنونَ يرَونَ ربَّهم تبارَك وتعالى بأبصارِهم عٍيانًا، ولا تُدرِكُه أبصارُهم؛ بمعنى أنَّها لا تُحيطُ به؛ إذ كان غَيرَ جائِزٍ أن يوصَفَ اللهُ عزَّ وجلَّ بأنَّ شيئًا يُحيطُ به، وهو بكُلِّ شيءٍ مُحيطٌ، وهكذا يسمَعُ كلامَ مَن يشاءُ مِن خَلقِه، ولا يُحيطونَ بكلامِه، وكذا يعلَمُ الخَلقُ ما علَّمهم، ولا يُحيطونَ بعِلمِه.
ونظيرُ هذا استِدلالُهم على نَفيِ الصِّفاتِ بقولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، وهذا مِن أعظَمِ الأدلَّةِ على كثرةِ صفاتِ كمالِه ونُعوتِ جلالِه، وأنَّها لكثرتِها وعظَمتِها وسَعتِها لم يكنْ له مِثلٌ فيها، وإلَّا فلو أُريد بها نَفيُ الصِّفاتِ لكان العَدمُ المحضُ أَولى بهذا المدحِ منه...، وقولُه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِن أدَلِّ شيءٍ على أنَّه يُرى ولا يُدرَكُ، وقولُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4] مِن أدَلِّ شيءٍ على مُبايَنةِ الرَّبِّ لخَلقِه؛ فإنَّه لم يخلُقْهم في ذاتِه، بل خلَقهم خارِجًا عن ذاتِه، ثُمَّ بان عنهم باستِوائِه على عرشِه، وهو يعلَمُ ما هم عليه، فيراهم ويَنفُذُهم بَصرُه، ويُحيطُ بهم عِلمًا وقُدرةً وإرادةً وسَمعًا وبَصرًا؛ فهذا معنى كونِه سُبحانَه معَهم أينما كانوا، وتأمَّلْ حُسنَ هذه المُقابَلةِ لفظًا ومعنًى بَينَ قولِه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103] ؛ فإنَّه سُبحانَه لعظَمتِه يتعالى أن تُدرِكَه الأبصارُ وتُحيطَ به، وللُطفِه وخِبرتِه يُدرِكُ الأبصارَ؛ فلا تخفى عليه، فهو العظيمُ في لُطفِه، اللَّطيفُ في عظَمتِه، العالي في قُربِه، والقريبُ في عُلوِّه، الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] ) [798] ((حادي الأرواح)) (228). .
إنَّ اللهَ تعالى نفى إدراكَ الأبصارِ له، وهو أن تُحيطَ به؛ فهذا النَّفيُ ورَد على مُقيَّدٍ، وهي الرُّؤيةُ المُحيطةُ؛ فإذًا المنفيُّ هو قيدُ الإحاطةِ، وهذا يشهَدُ بأنَّ الرُّؤيةَ جائِزةٌ؛ لأنَّها لو كانت مُمتنِعةً لنفى أصلَ الرُّؤيةِ لا الرُّؤيةَ المُحيطةَ، نظيرُ ذلك أنَّه إذا كان هناك شَخصانِ أحدُهما لم يَجِئْ إليك، والثَّاني جاء غَيرَ راكِبٍ؛ فإنَّك تقولُ في الثَّاني: ما جاء راكِبًا؛ تُريدُ: نَفيَ الرُّكوبِ لا نَفيَ المجيءِ، ولا تقولُ في الأوَّلِ: ما جاء راكِبًا، بل تقولُ: ما جاء، وهذا معنى قولِهم في القواعِدِ العامَّةِ: إذا ورَد النَّفيُ على مُقيَّدٍ بقَيدٍ كان النَّفيُ مُنصَبًّا على القَيدِ لا المُقيَّدِ، والنَّفيُ في الآيةِ الكريمةِ ورَد على الرُّؤيةِ المُحيطةِ؛ فيكونُ المُرادُ نَفيَ الإحاطةِ، وهذا بدَورِه يقتضي ثُبوتَ أصلِ الرُّؤيةِ. واللهُ تعالى أعلَمُ.
4- مِن أدلَّةِ أهلِ السُّنَّةِ على ثُبوتِ رُؤيةِ اللهِ تعالى:
عن جَريرٍ رضِي اللهُ عنه قال: كنَّا جُلوسًا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ نظَر إلى القَمرِ ليلةَ البَدرِ، قال: ((إنَّكم سترَونَ ربَّكم كما ترَونَ هذا القَمرَ، لا تُضامُّونَ في رُؤيتِه؛ فإن استطَعْتُم أن لا تُغلَبوا على صلاةٍ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وصلاةٍ قَبلَ غُروبِ الشَّمسِ، فافعَلوا )) [799] أخرجه البُخاريُّ (7434) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (633). .
قال ابنُ القيِّمِ: (أمَّا الأحاديثُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه الدَّالةُ على الرُّؤيةِ فمُتواتِرةٌ، رواها عنه أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وأبو هُرَيرةَ، وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ، وجَريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ، وصُهَيبُ بنُ سِنانٍ الرُّوميُّ، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ الهُذَليُّ، وعليُّ بنُ أبي طالِبٍ، وأبو موسى الأشعَريُّ، وعَديُّ بنُ حاتِمٍ الطَّائيُّ، وأنسُ بنُ مالِكٍ الأنصاريُّ، وبُرَيدةُ بنُ الحُصَيبِ الأسلَميُّ، وأبو رَزينٍ العُقَيليُّ، وجابِرُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ، وأبو أُمامةَ الباهِليُّ، وزيدُ بنُ ثابِتٍ، وعمَّارُ بنُ ياسِرٍ، وعائِشةُ أمُّ المُؤمِنينَ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمرَ، وعُمارةُ بنُ رُوَيبةَ، وسَلمانُ الفارِسيُّ، وحُذَيفةُ بنُ اليَمانِ، وعبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ، وحديثُه موقوفٌ، وأُبَيُّ بنُ كَعبٍ، وكَعبُ بنُ عُجرةَ، وفَضالةُ بنُ عُبَيدٍ، وحديثُه موقوفٌ، ورجُلٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَيرُ مُسمًّى، فهاك سِياقَ أحاديثِهم مِن الصِّحاحِ والمسانيدِ والسُّنَنِ، وتلقَّها بالقَبولِ والتَّسليمِ وانشِراحِ الصَّدرِ، لا بالتَّحريفِ والتَّبديلِ وضيقِ الطَّعنِ، ولا تُكذِّبْ بها؛ فمَن كذَّب بها لم يكنْ إلى وَجهِ ربِّه مِن النَّاظِرينَ، وكان عنه يومَ القيامةِ مِن المحجوبينَ) [800] ((حادي الأرواح)) (ص: 231). .
وهناك أدلَّةٌ سمعيَّةٌ كثيرةٌ تدُلُّ على وُقوعِ الرُّؤيةِ، ومِن هذه الأدلَّةِ:
1- قولُ اللهِ تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] .
قال القُرطُبيُّ: (قد ورَد هذا عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وعليِّ بنِ أبي طالِبٍ في روايةٍ، وحُذَيفةَ، وعُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، وكَعبِ بنِ عُجرةَ، وأبي موسى، وصُهَيبٍ، وابنِ عبَّاسٍ في روايةٍ، وهو قولُ جماعةٍ مِن التَّابِعينَ، وهو الصَّحيحُ في البابِ، وروى مُسلِمٌ في صحيحِه عن صُهَيبٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دخَل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ قال اللهُ تبارَك وتعالى: تُريدونَ شيئًا أزيدُكم؟ فيقولونَ: ألم تُبيِّضْ وُجوهَنا؟! ألم تُدخِلْنا الجنَّةَ وتُنجِّنا مِن النَّارِ؟! قال: فيُكشَفُ الحِجابُ، فما أُعطوا شيئًا أحَبَّ إليهم مِن النَّظرِ إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، وفي روايةٍ، ثُمَّ تلا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [801] أخرجه مسلم (181). [802] ((الجامع لأحكام القرآن)) (8/330). .
2- قولُ اللهِ سُبحانَه: لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (إنَّ المزيدَ الذي يتفضَّلُ اللهُ به على عِبادِه فوقَ ما يشاؤونَ هو ظُهورُه تعالى لهم) [803] ((تفسير ابن كثير)) (6/408). ، وبهذا فسَّر الآيةَ ابنُ جَريرٍ الطَّبريُّ، والقُرطُبيُّ، وغَيُرهما.
3- قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 – 23].
قال أبو الحَسنِ الأشعَريُّ: (قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة: 22]، يعني: مُشرِقةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23] ، يعني: رائِيةٌ...، ولا يجوزُ أن يكونَ بمعنى نَظرِ التَّفكُّرِ والاعتِبارِ؛ لأنَّ الآخِرةَ ليست بدارِ الاعتِبارِ، ولا يجوزُ أن يكونَ عنى نَظرَ الانتِظارِ؛ لأنَّ النَّظرَ إذا ذُكِر معَ ذِكرِ الوَجهِ فمعناه نَظرُ العينَينِ اللَّتَينِ في الوَجهِ) [804] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 12). .
4- قولُ اللهِ تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] .
قال الألوسيُّ: (احتجَّ بالآيةِ مالِكٌ على رُؤيةِ المُؤمِنينَ له تعالى مِن جهةِ دليلِ الخِطابِ، وإلَّا فلو حُجِب الكُلُّ لَما أغنى هذا التَّخصيصُ، وقال الشَّافِعيُّ: لمَّا حجَب سُبحانَه قومًا بالسَّخطِ دلَّ على أنَّ قومًا يرَونَه بالرِّضا) [805] ((روح المعاني)) (30/73). ويُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 256). .
ثانيًا: الأدلَّةُ العقليَّةُ على جوازِ الرُّؤيةِ
قال ابنُ تيميَّةَ: (معلومٌ أنَّ الرُّؤيةَ تُعلَّقُ بالموجودِ دونَ المعدومِ، ومعلومٌ أنَّها أمرٌ وُجوديٌّ محضٌ لا يُسيطرُ فيها أمرٌ عَدَميٌّ كالذَّوقِ الذي يتضمَّنُ استِحالةَ المأكولِ والمشروبِ، ودُخولَه في مواضِعَ مِن الآكِلِ والشَّارِبِ، وذلك لا يكونُ إلَّا عن استِحالةٍ وخَلقٍ، وإذا كانت أمرًا وُجوديًّا مَحضًا، ولا تتعلَّقُ إلَّا بالموجودِ؛ فالمُصحِّحُ لها الفارِقُ بَينَ ما يُمكِنُ رُؤيتُه وما لا يُمكِنُ رُؤيتُه: إمَّا أن يكونَ وُجودًا مَحضًا، أو مُتضمِّنًا أمرًا عَدميًّا، والثَّاني باطِلٌ؛ لأنَّ العَدمَ لا يكونُ له تأثيرٌ في الوُجودِ المحضِ؛ فلا يكونُ سببًا له، ولا يكونُ أيضًا شرطًا أو جُزءًا مِن السَّببِ، إلَّا أن يتضمَّنَ وُجودًا، فيكونَ ذلك الوُجودُ هو المُؤثِّرَ في الوُجودِ، ويكونَ ذلك العَدمُ دليلًا عليه ومُستلزِمًا له، ونَحوُ ذلك، وهذا مِن الأمورِ البيِّنةِ عندَ التَّأمُّلِ، ومَن قال مِن العُلماءِ: إنَّ العَدمَ يكونُ عِلَّةً للأمرِ الثُّبوتيِّ أو جُزءَ عِلَّةٍ، أو شَرْطَ عِلَّةٍ؛ فإنَّما يقولونَ ذلك في قياسِ الدَّلالةِ ونَحوِه ممَّا يُستدَلُّ فيه بالوَصفِ على الحُكمِ، لا يقولُ أحدٌ: إنَّ نَفسَ العَدمِ هو المقتضي للوُجودِ، ولا يقولُ: إنَّ الوَصفَ المُركَّبَ مِن وُجودٍ وعَدمٍ هُما جميعًا مُقتضِيانِ للوُجودِ المحضِ، وشُروطُ العِلَّةِ هي مِن جُملةِ أجزاءِ العِلَّةِ التَّامَّةِ، وإذا كان المُقتضي لجوازِ الرُّؤيةِ، والمُصحِّحُ للرُّؤيةِ، والفارِقُ بَينَ ما تجوزُ رُؤيتُه وبَينَ ما لا تجوزُ: إمَّا أن يكونَ وُجودًا مَحضًا؛ فلا حاجةَ بنا إلى تعيينِه، سواءٌ قيل: هو مُطلَقُ الوُجودِ أو القيامُ بالنَّفسِ أو بالعَينِ بشَرطِ المُقابَلةِ والمُحاذاةِ، أو غَيرُ ذلك ممَّا يُقالُ: إنَّه معَ وُجودِه تصِحُّ الرُّؤيةُ، ومعَ عَدمِه تمتنِعُ، لكنَّ المقصودَ أنَّه أمورٌ وُجوديَّةٌ، وإذا كان كذلك فقد عُلِم أنَّ اللهَ تعالى هو أحَقُّ بالوُجودِ وكمالِه مِن كُلِّ موجودٍ؛ إذ وُجودُه هو الوُجودُ الواجِبُ، ووُجودُ كُلِّ ما سِواه هو مِن وُجودِه، وله الكمالُ التَّامُّ في جميعِ الأمورِ الوُجوديَّةِ المحضةِ؛ فإنَّها هي الصِّفاتُ التي بها يكونُ كمالُ الوُجودِ، وحينَئذٍ فيكونُ اللهُ -وله المَثلُ الأعلى- أحَقَّ بأن تجوزَ رُؤيتُه لكمالِ وُجودِه، ولكن لم نَرَه في الدُّنيا لعَجزِنا عن ذلك وضَعفِنا، كما لا نستطيعُ التَّحديقَ في شُعاعِ الشَّمسِ، بل كما لا تُطيقُ الخفَّاشُ أن تراها؛ لا لامتِناعِ رُؤيتِها، بل لضَعفِ بَصرِه وعَجزِه، كما قد لا يُستطاعُ سماعُ الأصواتِ العظيمةِ جدًّا؛ لا لكونِها لا تُسمَعُ، بل لضَعفِ السَّامِعِ وعَجزِه؛ ولهذا يحصُلُ لكثيرٍ مِن النَّاسِ عندَ سماعِ الأصواتِ العظيمةِ ورُؤيةِ الأشياءِ الجليلةِ- ضَعفٌ أو رَجَفانٌ أو نَحوُ ذلك ممَّا سبَّبه ضَعفُه عن الرُّؤيةِ والسَّماعِ؛ لا لكونِ ذلك الأمرِ ممَّا تمتنِعُ رُؤيتُه وسماعُه، ولهذا وردَت الأخبارُ في قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ وغَيرِه بأنَّ النَّاسَ إنَّما لا يرَونَ اللهَ في الدُّنيا للضَّعفِ والعَجزِ، واللهُ سُبحانَه وتعالى قادِرٌ على أن يُقوِّيَهم على ما عجَزوا عنه) [806] ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/357). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (6/136). .
وقال عُثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِميُّ لمَن أبى إلَّا التَّمسُّكَ بالمعقولِ وحدَه: (ههنا ضللْتُم عن سَواءِ السَّبيلِ، ووقعْتُم في تِيهٍ لا مَخرَجَ لكم منه؛ لأنَّ المعقولَ ليس لشيءٍ واحِدٍ موصوفٍ بحُدودٍ عندَ جميعِ النَّاسِ؛ فيُقتصَرَ عليه، ولو كان كذلك كان راحةً للنَّاسِ، ولقُلْنا به، ولم نَعْدُ، ولم يكنِ اللهُ تبارَك وتعالى قال: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 32] ، فوجَدْنا المعقولَ عندَ كُلِّ حِزبٍ ما هم عليه، والمجهولَ عندَهم ما خالَفهم، فوجَدْنا فِرَقَكم -مَعشَرَ الجَهميَّةِ- في المعقولِ مُختلِفينَ، كُلُّ فِرقةٍ منكم تدَّعي أنَّ المعقولَ عندَها ما تدعو إليه، والمجهولَ ما خالَفها، فحينَ رأَينا المعقولَ اختلَف منَّا ومنكم ومِن جميعِ أهلِ الأهواءِ، ولم تقِفْ له على حدٍّ بيِّنٍ في كُلِّ شيءٍ؛ رأَينا أرشَدَ الوُجوهِ وأهداها أن نَرُدَّ المعقولاتِ كُلَّها إلى أمرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإلى المعقولِ عندَ أصحابِه المُستفيضِ بَينَ أظهُرِهم؛ لأنَّ الوَحيَ كان ينزِلُ بَينَ أظهُرِهم، فكانوا أعلَمَ بتأويلِه منَّا ومنكم، وكانوا مُؤتلِفينَ في أُصولِ الدِّينِ، لم يفترِقوا فيه، ولم تظهَرْ فيهم البِدَعُ والأهواءُ الحائِدةُ عن الطَّريقِ؛ فالمعقولُ عندَنا ما وافَق هَديَهم، والمجهولُ ما خالَفهم، ولا سبيلَ إلى معرفةِ هَديِهم وطريقتِهم إلَّا هذه الآثارُ، وقد انسلَخْتُم منها، وانتفَيتُم منها بزَعمِكم، فأنَّى تهتدونَ؟!) [807] ((الرد على الجهمية)) (ص: 57). .
مِن هنا فقد رجَّح أكثَرُ العُلماءِ الاعتِمادَ في الاستِدلالِ على أدلَّةِ النَّقلِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أخبَر عن نَفسِه بأنَّه يُرى يومَ القيامةِ، وهو أعلَمُ بما يجوزُ عليه تعالى، وأخبَر عنه رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو أعلَمُ الخَلقِ بربِّه تعالى، وأعلَمُهم بما يصِحُّ عليه ويمتنِعُ؛ فإن وافَق الاستِدلالُ العقليُّ ما ثبَت عن اللهِ تعالى وعن رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهذا توفيقٌ مِن اللهِ وهو حقٌّ، وإن خالَفه فتجِبُ مُراجَعةُ العقلِ؛ لأنَّ الإسلامَ لا يأتي بما تُحيلُه العُقولُ، ولكنَّه يأتي بما يُحيِّرُها ويُدهِشُها.

انظر أيضا: