موسوعة الفرق

الفصلُ الخامسُ: مِن أسبابِ التَّفرُّقِ: الغُلوُّ في الدِّينِ


الإسلامُ يأمُرُ بالاعتِدالِ والاقتِصادِ في كُلِّ أمرٍ، وقد تميَّزَت هذه الأمَّةُ وخُصَّت بالوَسَطيَّةِ  [194] يُنظر ((مجموع الفتاوى)) (3/244، 247، 250 – 252)، ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (2/133). كلاهما لابن تيمية. .
قال اللهُ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، كما هدَيناكم أيُّها المُؤمِنونَ بمُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبما جاءكم به مِن عندِ اللهِ، فخصَصْناكم بالتَّوفيقِ لقِبلةِ إبراهيمَ ومِلَّتِه، وفضَّلْناكم بذلك على مَن سِواكم مِن أهلِ المِلَلِ؛ كذلك خصَصْناكم ففضَّلْناكم على غَيرِكم مِن أهلِ الأديانِ بأن جعَلْناكم أمَّةً وَسَطًا) [195] ((تفسير ابن جرير)) (2/ 626). .
وقال اللهُ سبحانَه آمِرًا بالاستِقامةِ والاعتِدالِ، ناهِيًا عن الغُلوِّ والطُّغيانِ: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 112] .
قال الشَّوكانيُّ: (أمَر سبحانَه رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَلِمةٍ جامِعةٍ لأنواعِ الطَّاعةِ له سبحانَه، فقال: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، أي: كما أمَرك اللهُ، فيدخُلُ في ذلك جميعُ ما أمَره به، وجميعُ ما نهاه عنه؛ لأنَّه قد أمَره بتجنُّبِ ما نهاه عنه، كما أمَره بفِعلِ ما تعبَّده بفِعلِه، وأمَّتُه أُسوتُه في ذلك؛ ولهذا قال: وَمَنْ تَابَ مَعَكَ، أي: رجَع مِن الكُفرِ إلى الإسلامِ، وشارَكك في الإيمانِ...، وما أعظَمَ موقِعَ هذه الآيةِ، وأشَدَّ أمْرَها! فإنَّ الاستِقامةَ كما أمَر اللهُ لا تقومُ بها إلَّا الأنفُسُ المُطهَّرةُ والذَّواتُ المُقدَّسةُ، وَلَا تَطْغَوا الطُّغيانُ: مُجاوَزةُ الحدِّ، لمَّا أمَر اللهُ سبحانَه بالاستِقامةِ المذكورةِ بيَّن أنَّ الغُلوَّ في العِبادةِ والإفراطَ في الطَّاعةِ على وَجهٍ تخرُجُ به عن الحدِّ الذي حدَّه، والمِقدارِ الذي قدَّره: ممنوعٌ منه منهيٌّ عنه، وذلك كمَن يصومُ ولا يُفطِرُ، ويقومُ اللَّيلَ ولا ينامُ، ويترُكُ الحلالَ الذي أذِن اللهُ به، ورغَّب فيه) [196] ((تفسير الشوكاني)) (2/ 600). .
وحذَّرنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الغُلوِّ ومُجاوَزةِ الحدِّ المشروعِ لنا، وبيَّن أنَّه سببُ هلاكِ مَن قَبلَنا؛ ففي حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ؛ فإنَّما أهلَك مَن كان قَبلَكم الغُلوُّ في الدِّينِ )) [197] أخرجه النسائي (3057) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1851). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (3871)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/428)، وابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/327). .
قال المُناويُّ: («إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ»، أي: التَّشديدَ فيه، ومُجاوَزةَ الحدِّ، والبحثَ عن غوامِضِ الأشياءِ، والكشفَ عن عِلَلِها وغوامِضِ مُتعبَّداتِها، «فإنَّما أهلَك مَن كان قَبلَكم» مِن الأمَمِ «الغُلوُّ في الدِّينِ»، والسَّعيدُ مَن اتَّعَظ بغَيرِه، وهذا قاله غَداةَ العَقَبةِ، وأمَرهم بمِثلِ حصى الخَذْفِ، قال ابنُ تيميَّةَ: قولُه: إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ، عامٌّ في جميعِ أنواعِ الغُلوِّ في الاعتِقاداتِ والأعمالِ، والغُلوُّ: مُجاوَزةُ الحدِّ بأن يُزادَ في مَدحِ الشَّيءِ أو ذمِّه على ما يستحِقُّ، ونَحوُ ذلك)  [198] ((فيض القدير)) (3/ 125). .
وبيَّن عليه السَّلامُ أنَّ هذا المُتنطِّعَ الغاليَ المُتعمِّقَ المُجاوِزَ للحدِّ في قولِه وفِعلِه  [199] يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (16/220). هالِكٌ لا محالةَ، فقال: ((هلَك المُتنطِّعونَ ))، قالها ثلاثًا  [200] رواه مسلم (2670) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال الخطَّابيُّ: (المُتنطِّعُ: المُتعمِّقُ في الشَّيءِ، المُتكلِّفُ البَحثَ عنه، على مذاهِبِ أهلِ الكلامِ الدَّاخِلينَ فيما لا يعنيهم، الخائِضينَ فيما لا تبلُغُه عُقولُهم)  [201] ((معالم السنن)) (4/ 300). .
وقال اللهُ سبحانَه وتعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] .
قال السَّمعانيُّ: (الغُلوُّ: مُجاوَزةُ الحدِّ، وهو مذمومٌ، وكذلك التَّقصيرُ، ودينُ اللهِ بَينَ الغُلوِّ والتَّقصيرِ)  [202] ((تفسير السمعاني)) (2/ 56). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (أي: لا تُجاوِزوا الحدَّ في اتِّباعِ الحقِّ، ولا تُطْروا مَن أُمِرْتُم بتعظيمِه فتُبالِغوا فيه، حتَّى تُخرِجوه عن حيِّزِ النُّبوَّةِ إلى مقامِ الإلهيَّةِ، كما صنَعْتُم في المسيحِ، وهو نبيٌّ مِن الأنبياءِ، فجعَلْتُموه إلهًا مِن دونِ اللهِ، وما ذاك إلَّا لاقتِدائِكم بشُيوخِ الضَّلالِ الذين هم سَلَفُكم ممَّن ضلَّ قديمًا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، أي: وخرَجوا عن طريقِ الاستِقامةِ والاعتِدالِ إلى طريقِ الغَوايةِ والضَّلالِ)  [203] ((تفسير ابن كثير)) (3/ 159). .
قال الطَّحاويُّ: (دينُ اللهِ في الأرضِ والسَّماءِ واحِدٌ؛ وهو دينُ الإسلامِ...، وهو بَينَ الغُلوِّ والتَّقصيرِ، وبَينَ التَّشبيهِ والتَّعطيلِ، وبَينَ الجَبرِ والقَدَرِ، وبَينَ الأمنِ والإياسِ)  [204] ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 86). .
والنَّاظِرُ لأقوالِ الفِرَقِ المُبتدِعةِ التي فرَّقَت الأمَّةَ بذلك يجِدُها خرجَت بسببِ الغُلوِّ والتَّقصيرِ؛ فالمُعطِّلةُ غلَوا في التَّنزيهِ، وقصَّروا في الإثباتِ، والمُشبِّهةُ غلَوا في الإثباتِ وقصَّروا في التَّنزيهِ، وكلاهما أخَذ ببعضِ النُّصوصِ وترَك بعضًا، والحقُّ في الاعتِدالِ والجَمعِ بَينَ النُّصوصِ.
أمَّا الخوارِجُ فغلَوا في إثباتِ الأعمالِ وعدِّها مِن الإيمانِ حتَّى كفَّروا المُسلِمينَ بمُجرَّدِ المعصيةِ، وقابَلهم المُرجِئةُ؛ فغلَوا حتَّى أخرَجوا العملَ مِن الإيمانِ؛ فكان الغُلوُّ في رُدودِ الأفعالِ سببًا لأن تُرَدَّ البِدعةُ ببِدعةٍ والباطِلُ بباطِلٍ.
قال ابنُ أبي العِزِّ: (فصار هؤلاء الذين فرَّقوا دينَهم وكانوا شِيعًا يُقابِلونَ البِدعةَ بالبِدعةِ، أولئك غلَوا في عليٍّ، وأولئك كفَّروه؟ وأولئك غلَوا في الوعيدِ حتَّى خلَّدوا بعضَ المُؤمِنينَ، وأولئك غلَوا في الوَعدِ حتَّى نَفَوا بعضَ الوعيدِ، أعني: المُرجِئةَ...، وسببُ ضلالِ هذه الفِرَقِ وأمثالِها عُدولُهم عن الصِّراطِ المُستقيمِ) [205] ((شرح الطحاوية)) (2/799) باختصارٍ. .

انظر أيضا: