موسوعة الفرق

الفَرعُ الأوَّلُ: مِن الأدلَّةِ العقليَّةِ للمُعتَزِلةِ على نَفيِ رُؤيةِ اللهِ تعالى: دليلُ المُقابَلةِ


وتحريرُه كما قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ الواحِدَ منَّا راءٍ بحاسَّةٍ، والرَّائي بالحاسَّةِ لا يرى الشَّيءَ إلَّا إذا كان مُقابِلًا أو حالًّا في المُقابِلِ، أو في حُكمِ المُقابِلِ، وقد ثبَت أنَّ اللهَ تعالى لا يجوزُ أن يكونَ مُقابِلًا ولا حالًّا في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ، وهذه الدَّلالةُ مبنيَّةٌ على أُصولٍ:
أحدُها: أنَّ الواحِدَ منَّا راءٍ بالحاسَّةِ، وإذا كانت صحيحةً، والموانِعُ مُرتفِعةً، والمُدرَكُ موجودًا، يجِبُ أن يَرى، ومتى لم يكنْ كذلك فيجِبُ أن يكونَ لصحَّةِ الحاسَّةِ في ذلك تأثيرٌ؛ لأنَّه بهذه الطَّريقةِ يُعلَمُ تأثيرُ المُؤثِّراتِ مِن الأسبابِ والعِلَلِ والشُّروطِ.
الثَّاني: أنَّ الرَّائيَ بالحاسَّةِ لا يرى الشَّيءَ إلَّا إذا كان مُقابِلًا، أو حالًّا في المُقابِلِ، أو في حُكمِ المُقابِلِ، وإذا كان كذلك وجَب أن يَرى، وإذا لم يكنْ مُقابِلًا، ولا حالًّا في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ، لم يَرَ؛ فيجِبُ أن تكونَ المُقابَلةُ أو ما في حُكمِها شرطًا في الرُّؤيةِ؛ لأنَّه بهذه الطَّريقةِ يُعلَمُ تأثيرُ الشُّروطِ.
الثَّالثُ: أنَّ القديمَ تعالى لا يجوزُ أن يكونَ مُقابِلًا ولا حالًّا في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ؛ لأنَّ المُقابَلةَ والحُلولَ إنَّما تصِحُّ على الأجسامِ والأعراضِ، واللهُ تعالى ليس بجسمٍ ولا عَرَضٍ؛ فلا يجوزُ أن يكونَ مُقابِلًا ولا حالًّا في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ.
ويُمكِنُ إيرادُ هذه الدَّلالةِ على وَجهٍ آخَرَ حتَّى لا يَرِدُ عليها بعضُ الاعتِراضاتِ التي يُمكِنُ وُرودُها على الأوَّلِ، فيُقالُ: إنَّ أحدَنا إنَّما يرى الشَّيءَ عندَ حُصولِ شرطَينِ:
أحدُهما: يرجِعُ إلى الرَّائي، والآخَرُ: يرجِعُ إلى المرئيِّ.
فما يرجِعُ إلى الرَّائي فهو صحَّةُ الحاسَّةِ، وما يرجِعُ إلى المرئيِّ فهو أن يكونَ للمرئيِّ معَ الرَّائي حُكمٌ، وذلك الحُكمُ هو أن يكونَ مُقابِلًا أو حالًّا في المُقابِلِ، أو في حُكمِ المُقابِلِ) [755] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 248) بتصَرُّفٍ. .
ثُمَّ أورَد عبدُ الجبَّارِ بَعدَ تحريرِ الدَّليلِ ما يُمكِنُ الاعتِراضُ به عليه، وأجاب عنه، فقال:
(فإن قيل: كيف يصِحُّ قولُكم: إنَّ الواحِدَ منَّا لا يرى الشَّيءَ إلَّا إذا كان مُقابِلًا أو حالًّا في المُقابِلِ أو في حُكمِ المُقابِلِ، معَ أنَّه يرى وَجهَه في المرآةِ معَ أنَّه ليس بمُقابِلِ ولا حالًّا في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ؟
قُلْنا: إنَّ وَجهَه في حُكمِ المُقابِلِ؛ لأنَّ الشُّعاعَ ينفصِلُ مِن نُقطتِه، ويتَّصِلُ بالمرآةِ، فيصيرُ كالعَينِ، ثُمَّ ينعكِسُ إلى العكسِ، فيرى وَجهَه كأنَّه مُقابِلٌ له. وعلى هذا لو جمع بَينَ المرآتينِ لرأى قفاه؛ لأنَّ الشُّعاعَ ينفصِلُ مِن نُقطةٍ، ويتَّصِلُ بالمرآةِ المُستقبِلةِ، ثُمَّ ينعكِسُ إلى المُستديرةِ فيصيرُ كالعَينِ، فترى قفاه.
فإن قيل: أليس اللهُ تعالى يرى الواحِدَ منَّا، وإن لم يكنْ مُقابِلًا له ولا حالًّا في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ؛ فهلَّا جاز في الواحِدِ منَّا أن يرى الشَّيءَ، وإن لم يكنْ مُقابِلًا له، ولا حالًّا في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ؟
قيل له: إنَّما وجبَت هذه القضيَّةُ -أي: وقعَت- في القديمِ تعالى؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يكونَ رائيًا بالحاسَّةِ، والواحِدُ منَّا راءٍ بالحاسَّةِ، فلا يُعلَمُ أن يرى إلَّا كذلك.
فإن قيل: ما أنكرْتُم مِن أنَّ أحدَنا إنَّما لا يرى الشَّيءَ إلَّا إذا كان مُقابِلًا له، أو حالًّا في المُقابِلِ، أو في حُكمِ المُقابِلِ؛ لأنَّه تعالى أجرى العادةَ بذلك، فلا يمتنِعُ أن يختلِفَ الحالُ فيه، فيرى القديمَ جلَّ وعزَّ في دارِ الآخِرةِ.
قيل له: إنَّ ما يكونُ بمجرى العادةِ يجوزُ اختِلافُ الحالِ فيه، ألا ترى أنَّ الحرَّ والبردَ يجِبُ مِثلُه في مسألتِنا لو كان ذلك بالعادةِ، فيجِبُ صحَّةُ أن يرى الشَّيءَ أحدُنا وإن لم توجَدِ الشُّروطُ في بعضِ الحالاتِ؛ لاختِلافِ العادةِ، بل كان يجِبُ أن يرى المحجوبَ كما يرى المكشوفَ، ومعلومٌ خِلافُه.
فإن قيل: ما أنكَرْتُم أنَّ ذلك مِن بابِ ما تستمرُّ العادةُ فيه، كما في حُصولِ الوَلدِ مِن ذَكرٍ وأنثى.
وجوابُنا: أنَّا لم نوجِبْ فيما طريقُه العادةُ أن يختلِفَ الحالُ على كُلِّ وَجهٍ، بل إذا اختلَف مِن وَجهٍ واحِدٍ كفى، وما مِن شيءٍ إلَّا والحالُ فيه مُختلِفٌ على وَجهٍ، ألا ترى أنَّ الوَلدَ قد يحصُلُ لا مِن ذَكرٍ وأنثى؛ فكان يجِبُ مِثلُه في مسألتِنا حتَّى يصدُقَ مَن أخبَرَنا أنَّه شاهَد ما ليس بمُقابِلٍ له، ولا حالٍّ في المُقابِلِ، ولا في حُكمِ المُقابِلِ، أو شاهَد أقوامًا يُشاهِدونَ الأشياءَ مِن دونِ أن تكونَ على هذا الوَجهِ، أو ما يجري مجراه، وقد عُلِم خِلافُه.
فإن قيل: ما أنكَرْتُم أنَّ الواحِدَ منَّا إنَّما لا يرى إلَّا ما كان مُقابِلًا، أو حالًّا في المُقابِلِ، أو في حُكمِ المُقابِلِ لأمرٍ يرجِعُ إلى المرئيِّ لا إلى الرَّائي؟
قيل له: هذا الذي ذكرْتَه لا يصِحُّ؛ لأنَّه كان يجِبُ في القديمِ تعالى ألَّا يرى هذه المرئيَّاتِ لفَقدِ هذا الحُكمِ فيه، والمعلومُ خِلافُه.
فإن قيل: إنَّا نرى القديمَ تعالى بلا كيفٍ كما نعلَمُه بلا كيف، ولا يحتاجُ إلى أن يكونَ مُقابِلًا، أو حالًّا في المُقابِلِ، أو في حُكمِ المُقابِلِ.
قيل له: إنَّ هذا فيه قياسُ الرُّؤيةِ على العِلمِ مِن دونِ عِلَّةٍ تجمَعُهما، فلا يصِحُّ؛ فإنَّ للعِلمِ أصلًا في الشَّاهِدِ، وللرُّؤيةِ أصلًا، فيجِبُ أن يُرَدَّ كُلُّ واحِدٍ منها إلى أصلِه؛ فالعِلمُ مِن حقِّه أن يتعلَّقَ بالمعلومِ على ما هو به، ولهذا يتعلَّقُ بالموجودِ والمعدومِ والمُحدَثِ والقديمِ؛ فإن كان معدومًا عُلِم معدومًا، وإن كان موجودًا عُلِم موجودًا، وغَيرُه، وليس كذلك الرُّؤيةُ؛ فإنَّها لا تتعلَّقُ إلَّا بالموجودِ، ولهذا لا يصِحُّ في المعدومِ أن يُرى.
فإن قيل: هلَّا جاز أن نرى القديمَ تعالى بحاسَّةٍ سادِسةٍ، فلا تجوزُ معَها شُروطُ الرُّؤيةِ؛ لأنَّها بخِلافِ هذه الحواسِّ؟
قُلْنا: مُخالَفةُ تلك الحاسَّةِ لهذه الحواسِّ ليس بأكبَرَ مِن مُخالَفةِ هذه الحواسِّ بعضِها لبعضٍ؛ فإنَّ فيها شَهَلًا وزَرَقًا ومَلَحًا، ومعلومٌ أنَّ هذه الحواسَّ معَ اختِلافِها واختِلافِ بُناها مُتَّفِقةٌ في ألَّا يُرى الشَّيءُ بها إلَّا إذا كان مُقابِلًا، أو حالًّا في المُقابِلِ، أو في حُكمِ المُقابِلِ، على أنَّه لا دَلالةَ تدُلُّ على تلك الحاسَّةِ، فلا يصِحُّ إثباتُها، وبَعدُ؛ فلو جاز أن نرى القديمَ تعالى بحاسَّةٍ سادِسةٍ لجاز أن يُذاقَ بحاسَّةٍ سابِعةٍ، وأن يُلمَسَ بحاسَّةٍ ثامِنةٍ، وأن يُشَمَّ بحاسَّةٍ تاسِعةٍ، ويُسمَعَ بحاسَّةٍ عاشِرةٍ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا) [756] ((شرح الأصول الخمسة)) (248) بتصَرُّفٍ. .

انظر أيضا: