موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: أبرَزُ الشُّبُهاتِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ التي تمسَّك بها المُعتَزِلةُ


تمسَّك المُعتَزِلةُ في قولِهم بخَلقِ القرآنِ بشُبُهاتٍ نقليَّةٍ وعقليَّةٍ؛ منها ما يلي:
الشُّبهةُ الأولى: أنَّ اللهَ تعالى قال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] .
قال عبدُ الجبَّارِ: (الآيةُ تدُلُّ بعُمومِها على حُدوثِ القرآنِ، وأنَّه تعالى خلَقه...، ولا دَلالةَ توجِبُ إخراجَ القرآنِ مِن العُمومِ؛ فيجِبُ دُخولُه فيه) [696] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/94). .
الرَّدُّ:
يُقالُ لهم: إنَّ تمسُّكَكم بهذه الآيةِ على زَعمِ أنَّ القرآنَ شيءٌ، فيكونُ داخِلًا في عُمومِ "كُلٍّ"، فيكونُ مخلوقًا- لَمِن أعجَبِ العَجبِ! وذلك أنَّ أفعالَ العِبادِ كُلَّها عندَكم غَيرُ مخلوقةٍ للهِ تعالى، وإنَّما يخلُقُها العِبادُ جميعَها لا يخلُقُها اللهُ، فأخرَجْتُموها مِن عُمومِ "كُلٍّ"، وأدخَلْتُم كلامَ اللهِ في عُمومِها، معَ أنَّه صفةٌ مِن صفاتِه به تكونُ الأشياءُ المخلوقةُ؛ إذ بأمرِه تكونُ المخلوقاتُ.
قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] .
ففرَّق بَينَ الخَلقِ والأمرِ؛ فلو كان الأمرُ مخلوقًا للزِم أن يكونَ مخلوقًا بأمرٍ آخَرَ، والآخَرُ بآخَرَ، إلى ما لا نهايةَ له، فيلزَمُ التَّسلسُلُ، وهو باطِلٌ، ويلزَمُ مِن قولِكم أن تكونَ جميعُ صفاتِه تعالى مخلوقةً، كالعِلمِ والقُدرةِ وغَيرِهما، وذلك صريحُ الكُفرِ؛ فإنَّ عِلمَه شيءٌ، وقُدرتَه شيءٌ...، فيدخُلُ ذلك في عُمومِ "كُلٍّ"، فيكونُ مخلوقًا بَعدَ أن لم يكنْ، تعالى اللهُ عمَّا تقولونَ عُلوًّا كبيرًا.
وأيضًا: كيف يصِحُّ أن يكونَ اللهُ مُتكلِّمًا بكلامٍ يقومُ بغَيرِه؟! ولو صحَّ ذلك للزِم أن يكونَ ما أحدَثه مِن الكلامِ في الجماداتِ كلامَه، وكذلك ما خلَقه في الحيواناتِ، وألَّا يُفرَّقَ بَينَ نطَق وأنطَق...، بل يلزَمُ أن يكونَ مُتكلِّمًا بكُلِّ كلامٍ خلَقه في غَيرِه زُورًا كان أو كذِبًا -تعالى اللهُ عن ذلك-، ولو صحَّ أن يوصَفُ أحدٌ بصفةٍ قامت بغَيرِه، لصحَّ أن يُقالَ للبصيرِ: أعمًى، والعكسُ، ولصحَّ أن يوصَفَ تعالى بالصِّفاتِ التي خلَقها في غَيرِه مِن الألوانِ وغَيرِها.
أمَّا تمسُّكُكم بعُمومِ "كُلٍّ" فإنَّ عُمومَها في كُلِّ موضِعٍ بحسَبِه، ويُعرَفُ ذلك بالقرائِنِ؛ فقولُ اللهِ تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] . فمساكِنُهم شيءٌ، ولم تدخُلْ في عُمومِ كُلِّ شيءٍ دمَّرَته الرِّيحُ! وذلك لأنَّ المُرادَ: تُدمِّرُ كُلَّ شيءٍ يقبَلُ التَّدميرَ بالرِّيحِ عادةً، وما يستحِقُّ التَّدميرَ.
وكذلك قولُه تعالى حكايةً عن بِلقيسَ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] ، والمُرادُ: مِن كُلِّ شيءٍ يحتاجُ إليه المُلوكُ، وهذا القيدُ يُفهَمُ مِن قرائِنِ الكلامِ.
وعلى ذلك؛ فالمُرادُ مِن قولِه تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] ، أي: كُلُّ شيءٍ مخلوقٍ، وكُلُّ موجودٍ سِوى اللهِ فهو مخلوقٌ، فدخَل في هذا العُمومِ أفعالُ العِبادِ حَتمًا، ولم يدخُلْ في العُمومِ الخالِقُ تعالى وصفاتُه؛ لأنَّه سُبحانَه وتعالى هو الموصوفُ بصفاتِ الكمالِ، وصفاتُه مُلازِمةٌ لذاتِه المُقدَّسةِ، لا يُتصوَّرُ انفِصالُ صفاتِه عنه [697] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 183-186). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (5/ 54). .
وبما أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، وكلامُه تعالى صفةٌ مِن صفاتِه، إذًا القرآنُ ليس داخِلًا في عُمومِ الآيةِ فهو ليس مخلوقًا، وبذلك يَبطُلُ استِدلالُكم بهذه الآيةِ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّانيةُ: أنَّ اللهَ تعالى قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] .
قال عبدُ الجبَّارِ: (قولُه: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] يوجِبُ حُدوثَه؛ لأنَّ الجَعلَ والفِعلَ سواءٌ في الحقيقةِ...؛ فدلَّ ذلك على حُدوثِ القرآنِ) [698] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7 /94). .
وقال الزَّمَخشَريُّ: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] أي: خلَقْناه عربيًّا غَيرَ عَجَميٍّ إرادةَ أن تعقِلَه العربُ، ولئلَّا يقولوا: لولا فُصِّلَت آياتُه...) [699] ((الكشاف)) (3 /477). .
الرَّدُّ:
أوَّلًا: أنَّ "جعَل" تكونُ بمعنى: خلَق إذا تعدَّت إلى مفعولٍ واحِدٍ، كقولِه تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ، وقولِه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30] .
أمَّا إذا تعدَّت إلى مفعولَينِ لم تكنْ بمعنى خلَق؛ قال تعالى: وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل: 91] ، وقال تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة: 224] ، والآيةُ التي استدَلُّوا بها: "جعَل" فيها قد تعدَّت إلى مفعولَينِ؛ فهي ليست بمعنى خلَق [700] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 186). .
ثانيًا: أنَّ معنى "جعَل" هنا "صرَف"، فيكونُ معنى الآيةِ: إنَّا صرَفْناه مِن لغةٍ إلى لغةٍ، أي: صرَفه اللهُ إلى اللُّغةِ العربيَّةِ، وذلك أنَّ كلامَ اللهِ واحِدٌ، وهو سُبحانَه وتعالى مُحيطٌ بجميعِ اللُّغاتِ، فهو إن شاء جعَل كلامَه عِبريًّا، وإن شاء جعَله عربيًّا.
قال ابنُ جَريرٍ في قولِ اللهِ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] : (أنزَلْناه بلِسانٍ عربيٍّ) [701] ((مختصر تفسير الطبري)) (2/223). .
فإذا كانت "جعَل" ليست بمعنى خلَق، بل بمعنى صرَف؛ بطَل استِدلالُ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ.
وقد أجاب أحمَدُ بنُ حَنبلٍ الرَّجلَ المُعتَزِليَّ حينَ احتجَّ عليه بهذه الآيةِ، فقال له: (قد قال اللهُ تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] أفخَلَقَهم؟!) [702] رواه صالح في ((المحنة)) (ص 53) عن أبيه به. .
الشُّبهةُ الثَّالثةُ: أنَّ اللهَ تعالى قال: ... نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] .
قال عبدُ الجبَّارِ عن هذه الآيةِ: (يوجِبُ حُدوثَ النِّداءِ؛ لأنَّه جعَل الشَّجرةَ ابتداءَ غايتِه، وهذا يوجِبُ حُدوثَه فيها) [703] ((متشابه القرآن)) (2/545). .
وذكَر الرَّازيُّ استِدلالَ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ، فقال: (احتجَّت المُعتَزِلةُ على قولِهم: إنَّ اللهَ تعالى تكلَّم بكلامٍ يخلُقُه في جسمٍ بقولِه تعالى: ... مِنَ الشَّجَرَةِ؛ فإنَّ هذا صريحٌ في أنَّ موسى عليه السَّلامُ سمِع النِّداءَ مِن الشَّجرةِ، والمُتكلِّمُ بذلك النِّداءِ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى، وهو تعالى مُنزَّهٌ أن يكونَ في جسمٍ؛ فثبَت أنَّه تعالى إنَّما يتكلَّمُ بخَلقِ الكلامِ في جسمٍ) [704] ((التفسير الكبير)) (24/244). .
الرَّدُّ:
يُقالُ لهم: إنَّ استِدلالَكم بهذه الآيةِ على أنَّ الكلامَ خلَقه اللهُ تعالى في الشَّجرةِ، فسمِعه موسى منها: غَيرُ صحيحٍ، ودليلُ ذلك أوَّلُ الآيةِ وآخِرُها؛ فأمَّا أوَّلُها فقولُه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ [القصص: 30] ، والنِّداءُ: هو الكلامُ مِن بُعدٍ، فسمِع موسى عليه السَّلامُ النِّداءَ مِن حافَةِ الوادي، ثُمَّ قال: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص: 30] ، أي: إنَّ النِّداءَ كان في البُقعةِ المُبارَكةِ مِن عندِ الشَّجرةِ، كما تقولُ: سمِعْتُ كلامَ زيدٍ مِن البيتِ، يكونُ "مِن البيتِ" ابتداءَ الغايةِ، لا أنَّ البيتَ هو المُتكلِّمُ، ومِثلُ ذلك قولُه تعالى: مِنَ الشَّجَرَةِ، لابتِداءِ الغايةِ، لا أنَّ الشَّجرةَ هي المُتكلِّمةُ.
وأمَّا آخِرُ الآيةِ فقولُه تعالى: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] ؛ فإنَّه لو كان الكلامُ مخلوقًا في الشَّجرةِ لكانت هي القائِلةَ لهذا الكلامِ! وهو باطِلٌ، وما يُؤدِّي إلى الباطِلِ مِثلُه، ولو كان هذا الكلامُ بدأ مِن غَيرِ اللهِ لكان قولُ فِرعَونَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] صِدقًا؛ إذ كُلٌّ مِن الكلامَينِ عندَكم مخلوقٌ قد قاله غَيرُ اللهِ! وقد فرَّقْتُم بَينَ الكلامَينِ على أُصولِكم الفاسِدةِ؛ فزعَمْتُم أنَّ ذلك كلامٌ خلَقه اللهُ في الشَّجرةِ، وهذا كلامٌ خلَقه فِرعَونُ، فحرَّفْتُم وبدَّلْتُم، واعتقدْتُم خالِقًا غَيرَ اللهِ [705] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (5/52، 53)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 186- 187). !
وأيضًا: فإنَّه لو سمِع موسى عليه السَّلامُ كلامَ اللهِ تعالى مِن غَيرِ اللهِ، لَما كان له عليه السَّلامُ فَضلٌ علينا؛ لأنَّنا نسمَعُ كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن غَيرِه [706] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (3/5). .
الشُّبهةُ الرَّابعةُ: أنَّ اللهَ تعالى قال: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 2] .
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (الآيةُ تدُلُّ على حُدوثِ القرآنِ؛ لأنَّه تعالى نصَّ على أنَّ الذِّكرَ مُحدَثٌ، وبيَّن بغَيرِ آيةٍ أنَّ الذِّكرَ هو القرآنُ، كقولِه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] ، وقولِه تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [الأنبياء: 50] ، فإذا صحَّ أنَّه ذِكرٌ وثبَت بهذه الآيةِ حُدوثُ الذِّكرِ؛ فقد وجَب القولُ بحُدوثِ القرآنِ) [707] ((متشابه القرآن)) (2/496). .
وذكَر الرَّازيُّ احتِجاجَ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ، فقال بَعدَ إيرادِها: (احتجَّت المُعتَزِلةُ على حُدوثِ القرآنِ بهذه الآيةِ، فقالوا: القرآنُ ذِكرٌ، والذِّكرُ مُحدَثٌ؛ فالقرآنُ مُحدَثٌ) [708] ((التفسير الكبير)) (22/140). .
الرَّدُّ:
إنَّ الآيةَ تدُلُّ على أنَّ بعضَ الذِّكرِ مُحدَثٌ، وبعضَه ليس بمُحدَثٍ، وهو ضدُّ قولِكم، ثُمَّ إنَّ الحُدوثَ العامَّ في لغةِ العربِ ليس هو الحُدوثَ في اصطِلاحِكم؛ فإنَّ العربَ يُسمُّونَ ما تجدَّد حادِثًا، وما تقدَّم على غَيرِه قديمًا، وإن كان بَعدَ أنْ لم يكنْ، كقولِه تعالى: كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] .
ولمَّا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يعلَمُه، ثُمَّ علَّمه اللهُ إيَّاه، كان بالنِّسبةِ إليه مُحدَثًا، وكذلك مَن سِوى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أمَّتِه يُعتبَرُ مُحدَثًا إليه، فهو كقولِ القائِلِ: حدَث اليومَ عندَنا ضيفٌ، ومعلومٌ أنَّ الضَّيفَ كان موجودًا قَبلَ ذلك؛ فالحُدوثُ في الآيةِ إنَّما هو إشارةٌ إلى أنَّ القرآنَ مُحدَثُ الإتيانِ، لا مُحدثُ العَينِ [709] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تَيميَّة (2/189)، ((محاسن التأويل)) للقاسمي (11/4246). .
وقال ابنُ قُتَيبةَ: (المُحدَثُ ليس هو في موضوعٍ بمعنى: مخلوقٍ، فإن أنكَروا ذلك فليقولوا في قولِ اللهِ: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1] : إنَّه يخلُقُ، وكذلك: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] أي: يُحدِثُ لهم القرآنَ ذِكرًا، والمعنى: يُجدِّدُ عندَهم ما لم يكنْ، وكذلك قولُه: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء: 5] أي: ذِكرٌ حدَث عندَهم لم يكنْ قَبلَ ذلك) [710] ((الاختلاف في اللفظ)) (ص: 234-235). .
وقال القُرطُبيُّ: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2] المُرادُ به: في النُّزولِ وتلاوةِ جِبريلَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه كان يُنزِلُ سورةً بَعدَ سورةٍ، وآيةً بَعدَ آيةٍ، كما كان يُنزِلُه اللهُ تعالى في وقتٍ بَعدَ وقتٍ، لا أنَّ القرآنَ مخلوقٌ) [711] ((الجامع لأحكام القرآن)) (11/267). .
الشُّبهةُ الخامسةُ: قال عبدُ الجبَّارِ: (لو كان اللهُ تعالى مُتكلِّمًا لذاتِه لكان يجِبُ أن يكونَ قائِلًا فيما لم يزَلْ: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [نوح: 1] ، وإن لم يكنْ قد أرسَل، وأهلَك عادًا وثمودَ، وإن لم يكنْ قد أهلَك) [712] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 554). .
وذكَر الرَّازيُّ هذه الشُّبهةَ فقال: (إنَّه سُبحانَه وتعالى أخبَر بلفظِ الماضي في مواضِعَ كثيرةٍ مِن القرآنِ، كقولِه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا [نوح: 1] ، فلو كان الإخبارُ قديمًا كان هذا الإخبارُ قديمًا أزليًّا، ولكان قد أخبَر في الأزَلِ عن شيءٍ مضى قَبلَه، وهذا يقتضي أن يكونَ الأزَلُ مسبوقًا بغَيرِه، وأن يكونَ كلامُ اللهِ تعالى كذِبًا، ولَمَّا كان كُلُّ واحِدٍ منهما مُحالًا علِمْنا أنَّ هذا الإخبارَ يمتنِعُ كونُه أزليًّا) [713] ((الأربعين)) (ص: 183). .
الرَّدُّ:
1- معلومٌ أنَّه تعالى كان عالِمًا في الأزَلِ بأنَّه سيخلُقُ العالَمَ، ثُمَّ لمَّا خلَقه صار العِلمُ مُتعلِّقًا بأنَّه قد خلَقه في الماضي، وهذا لم يقتَضِ حُدوثَ العِلمِ وتغيُّرَه، فكذلك الخبرُ [714] يُنظر: ((الأربعين)) للرازي (ص184) بتصَرُّفٍ. .
2- على فَرضِ صحَّةِ هذه الشُّبهةِ فإنَّها تلزَمُنا لو قُلْنا: إنَّ كلامَ اللهِ قديمُ الآحادِ، ونحن لا نقولُ بذلك، بل نقولُ: كلامُ اللهِ قديمُ النَّوعِ، حادِثُ الآحادِ.
الشُّبهةُ السَّادسةُ: قال عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ العَدمَ مستحيلٌ على القديمِ تعالى، فلو كان الكلامُ قديمًا لَما جاز أن يُعدَمَ) [715] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص549- 550). .
وقال الرَّازيُّ حاكيًا هذه الشُّبهةَ: (إنَّ كلامَ اللهِ تعالى لو كان قديمًا أزليًّا لكان باقيًا أبدِيًّا؛ لأنَّ ما ثبَت قِدَمُه يمتنِعُ عَدمُه، فيكونُ قولُه تعالى لزيدٍ: صلِّ صلاةَ الصُّبحِ، باقيًا بَعدَ أن صلَّى زيدٌ صلاةَ الصُّبحِ، وبَعدَ أن مات، وبَعدَ أن قامت القيامةُ، وهكذا يكونُ باقيًا أبدَ الآبادِ...، ومعلومٌ أنَّ ذلك على خِلافِ المعقولِ؛ فإنَّه تعالى إذا أمَر عَبدَه بفِعلٍ مِن الأفعالِ أتى ذلك العبدُ بذلك الفِعلِ، لم يبقَ ذلك الأمرُ مُتوجِّهًا إليه، وإذا ثبَت أنَّ ذلك الأمرَ قد زال، ثبَت أنَّه كان مُحدَثًا لا قديمًا) [716] ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: 183). .
الرَّدُّ:
قال الرَّازيُّ: (الجوابُ عن هذه الشُّبهةِ: هو أنَّ قُدرتَه تعالى كانت مُتعلِّقةً مِن الأزَلِ إلى الأبدِ بإيجادِ العالَمِ، فلمَّا أوجَدَ العالَمَ لم يبقَ ذلك التَّعلُّقُ؛ لأنَّ إيجادَ الموجودِ مُحالٌ، فقد زال هذا التَّعلُّقُ، فلمَّا لم يقتَضِ ذلك حُدوثَ قُدرةِ اللهِ تعالى، فكذلك القولُ في الكلامِ) [717] ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: 184). .
الشُّبهةُ السَّابِعةُ: أنَّ اللهَ تعالى جعَل أمرَه مقدورًا، فقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38] ، وأمرُ اللهِ: كلامُه، والمقدورُ: المخلوقُ.
الرَّدُّ:
إنَّ لفظَ: "الأمرِ" إذا أُضيف إلى اللهِ تعالى يأتي على تفسيرَينِ:
الأوَّلُ: يُرادُ به المصدَرُ، كقولِه تعالى: لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، وهو غَيرُ مخلوقٍ، وهذا يُجمَعُ على: "أوامِرَ".
والثَّاني: يُرادُ به المفعولُ الذي هو المأمورُ المقدورُ، كقولِه تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38] ، فالأمرُ هاهنا هو المأمورُ، وهذا يُجمَعُ على: "أمورٍ"، وهو مخلوقٌ.
وصيغةُ المصدَرِ قد تَرِدُ بمعنى المفعولِ في كلامِ العربِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (في قولِه: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38] المُرادُ به المأمورُ به المقدورُ، وهذا مخلوقٌ، وأمَّا في قولِه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: 5] فأمرُه: كلامُه؛ إذ لم يُنزِلْ إلينا الأفعالَ التي أمرَنا بها، وإنَّما أنزَل القرآنَ، وهذا كقولِه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] ؛ فهذا الأمرُ هو كلامُه) [718] ((مجموع الفتاوى)) (8/412). .
ونظيرُه لفظُ "الخَلقِ"؛ فإنَّه يأتي مصدَرًا، فهو حينَئذٍ فِعلُ الرَّبِّ تعالى وصفتُه، ويأتي مفعولًا؛ فهو حينَئذٍ المخلوقُ الذي وقَع عليه فِعلُ الخَلقِ.
فليس لفظُ "الأمرِ" إذًا على ما قالت الجَهميَّةُ المُعتَزِلةُ مِن اختصاصِه بالمفعولِ المقدورِ.
الشُّبهةُ الثَّامنةُ: سمَّى اللهُ تعالى عيسى "كَلِمتَه"، فقال: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء: 171] ، وقال: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران: 45] ، وعيسى مخلوقٌ؛ فالكَلِمةُ مخلوقةٌ.
الرَّدُّ:
إنَّ عيسى عليه السَّلامُ مخلوقٌ، خلَقه اللهُ بأمرِه حينَ قال له: كُنْ، كما قال تعالى: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] ، وقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ، فكان عيسى بكَلِمةِ اللهِ تعالى وقولِه: "كُنْ".
فالكَلِمةُ "كُنْ" لا عَينُ عيسى، والمُكوَّنُ بها هو عيسى عليه السَّلامُ.
وبهذا أجاب غَيرُ واحِدٍ مِن الأئمَّةِ.
قال قَتادةُ في قولِ اللهِ تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ: (سمَّاه اللهُ عزَّ وجلَّ كَلِمتَه؛ لأنَّه كان عن كلمتِه كما يُقالُ لِما قدَّر اللهُ مِن شيءٍ: هذا قَدَرُ اللهِ وقضاؤُه، يعني به: هذا عن قَدَرِ اللهِ وقضائِه حدَث) [719] رواه ابن جرير في تفسيره (3/269). .
الشُّبهةُ التَّاسعةُ: أنَّ القرآنَ تَرِدُ عليه سماتُ الحُدوثِ والخَلقِ، مِن وُجوهٍ عِدَّةٍ:
1- قال تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل: 101] ، فأخبَر عن وُقوعِ النَّسخِ فيه.
2- هو حُروفٌ مُتعاقِبةٌ، يسبِقُ بعضُها بعضًا.
3- لا يكونُ إلَّا بمشيئةٍ واختِيارٍ، فيلزَمُ منه أن تسبِقَه الحوادِثُ، ويتأخَّرَ عنها.
4- له ابتداءٌ وانتِهاءٌ، وأوَّلٌ وآخِرٌ.
5- هو مُتبعِّضٌ مُتجزِّئٌ.
6- مُنزَّلٌ، والنُّزولُ لا يكونُ إلَّا بحركةٍ وانتِقالٍ وتحوُّلٍ.
7- مكتوبٌ في اللَّوحِ والمصاحِفِ، وما حُدَّ وحُصِر فهو مخلوقٌ.
وهذه الوُجوهُ وما يُشبِهُها صفاتٌ للمخلوقِ المُحدَثِ.
الرَّدُّ:
هذه المعاني كُلُّها مبنيَّةٌ على أصلِهم الذي ابتدَعوه لإثباتِ خَلقِ العالَمِ وقِدَمِ الصَّانِعِ، وهو الاستِدلالُ على حُدوثِ العالَمِ بطريقةِ الحركاتِ، فقالوا: لا يُمكِنُ معرفةُ الصَّانِعِ إلَّا بإثباتِ حُدوثِ العالَمِ، ولا يُمكِنُ إثباتُ حُدوثِ العالَمِ إلَّا بإثباتِ حُدوثِ الأجسامِ، والاستِدلالُ على حُدوثِ الأجسامِ إنَّما هو بحُدوثِ الأعراضِ القائِمةِ بها، كالحركةِ والسُّكونِ.
فهذا الأصلُ المُبتدَعُ هو الذي جرَّهم إلى القولِ بخَلقِ القرآنِ ونَفيِ الصِّفاتِ والأفعالِ للهِ تعالى [720] يُنظر: ((درء التعارض)) لابن تَيميَّة (2/99). .
ولو أنَّهم سلَّموا لنُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ لكفَتهم في ذلك، ولانتشلَتهم مِن وَرطةِ التَّعطيلِ؛ فإنَّ هذه أمورٌ لا يُتوصَّلُ إليها بمُجرَّدِ العقلِ.
وأصلُ المُعتَزِلةِ الذي ابتدَعوه أوقَعهم في قياسِ صفةِ الخالِقِ على المخلوقِ وصفتِه؛ فإنَّهم إنَّما بنَوا أصلَهم على ما عهِدوه في المخلوقِ مِن أحوالٍ وصفاتٍ؛ فحَسِبوا أنَّ ذلك يَلحَقُ به مَن لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فقاسوا ما لم يُحيطوا به عِلمًا على ما حصَّلوه مِن الظُّنونِ والأوهامِ التي حَسِبوها غايةَ العُلومِ!
فهذه أظهَرُ ما استدلَّ به المُعتَزِلةُ مِن الحُجَجِ وأبيَنُها وأقواها عندَهم، وقد بان زَيفُها وبُطلانُها، وصدَق ابنُ تيميَّةَ في قولِه: (ليس معَ هؤلاء عن الأنبياءِ قولٌ يُوافِقُ قولَهم، بل لهم شُبَهٌ عقليَّةٌ فاسِدةٌ) [721] ((مجموع الفتاوى)) (12/48). .

انظر أيضا: