موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: رأيُ المُعتَزِلةِ في صفتَي السَّمعِ والبَصرِ ومُناقَشتُهم


اختلَف المُعتَزِلةُ في المقصودِ بهاتَينِ الصِّفتَينِ بَعدَ أن اتَّفَقوا عُمومًا على نَفيِهما؛ فلا هُما قديمانِ ولا حادِثانِ [662] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 109). .
قال الشَّهْرَسْتانيُّ: (اتَّفقَت المُعتَزِلةُ على أنَّ الإرادةَ والسَّمعَ والبَصرَ ليست معانيَ قائِمةً بذاتِه تعالى، لكن اختلَفوا في وُجوهِ وُجودِها، ومحامِلِ معانيها) [663] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 49). .
إنَّ المُعتَزِلةَ قد اتَّفقَت على أنَّ السَّمعَ والبَصرَ ليست معانيَ قائِمةً بذاتِه تعالى، لكنَّهم اختلَفوا في وُجوهِ وُجودِها، ومحامِلِ معانيها، على أقوالٍ أهَمُّها ما يلي:
القولُ الأوَّلُ: قولُ الجُبَّائيِّ وابنِه ومَن تابَعهما مِن البَصريِّينَ
ويتلخَّصُ رأيُهم في أنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ، بمعنى أنَّه حيٌّ لا آفةَ به تمنَعُه مِن إدراكِ المسموعِ والمرئيِّ إذا وُجِدا؛ ذلك أنَّهم يرَونَ أنَّ الحيَّ إذا سلِمَت نَفسُه عن الآفةِ سُمِّي سميعًا بصيرًا.
قال البغداديُّ وهو يحكي مذاهِبَ المُخالِفينَ له في صفتَي السَّمعِ والبَصرِ: (الفِرقةُ الرَّابِعةُ قَدَريَّةُ البَصرةِ، قالوا: إنَّ اللهَ تعالى لم يزَلْ سميعًا بصيرًا؛ على معنى أنَّه كان حيًّا لا آفةَ به تمنَعُه مِن إدراكِ المسموعِ إذا وُجِد) [664] ((أصول الدين)) (ص: 96). .
وقال أيضًا: (زعَم الجُبَّائيُّ وابنُه أنَّ اللهَ لم يزَلْ سميعًا، بمعنى أنَّه كان حيًّا لا آفةَ به تمنَعُه مِن إدراكِ المسموعِ إذا وُجِد) [665] ((أصول الدين)) (ص: 97). .
وحكى الشَّهْرَسْتانيُّ آراءَ المُعتَزِلةِ في معنى كونِه تعالى سميعًا بصيرًا، فقال: (ومَن قال مِن المُعتَزِلةِ: إنَّ المعنيَّ بكونِه سميعًا بصيرًا أنَّه حيٌّ لا آفةَ به، فمذهَبُه بخِلافِ مذهَبِ الكَعبيِّ، وهو الذي صار إليه الجُبَّائيُّ وابنُه) [666] ((نهاية الإقدام)) (ص: 341). .
وروى الشَّهْرَسْتانيُّ في موضِعٍ آخَرَ أنَّ الجُبَّائيَّ قال: (إنَّ الحيَّ إذا سلِمَت نَفسُه عن الآفةِ سُمِّي سميعًا بصيرًا...) [667] ((نهاية الإقدام)) (ص: 344). .
القولُ الثَّاني: رأيُ النَّظَّامِ والكَعبيِّ ومَن تابَعهما مِن البغداديِّينَ في معنى السَّميعِ والبصيرِ
ويتلخَّصُ رأيُهم في أنَّ اللهَ تعالى لا يسمَعُ ولا يُبصِرُ شيئًا على الحقيقةِ، وتأوَّلوا وَصْفَه بالسَّميعِ والبصيرِ على معنى العِلمِ بالمسموعاتِ والمرئيَّاتِ.
قال الشَّهْرَسْتانيُّ: (ذهَب الكَعبيُّ ومَن تابَعه مِن البَغداديِّينَ إلى أنَّ معنى كونِه تعالى سميعًا بصيرًا أنَّه عالِمٌ بالمسموعاتِ والمُبصَراتِ...) [668] ((نهاية الإقدام)) (ص: 341). .
وقال البغداديُّ: (زعَم الكَعبيُّ أنَّ اللهَ تعالى لا يرى نَفسَه ولا غَيرَه إلَّا على معنى عِلمِه بنَفسِه وبغَيرِه، وتبِع النَّظَّامَ في قولِه: إنَّ اللهَ تعالى لا يرى شيئًا في الحقيقةِ) [669] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 181). .
وقال أيضًا: (زعَم الكَعبيُّ والبغداديُّونَ مِن المُعتَزِلةِ أنَّ اللهَ تعالى لا يسمَعُ شيئًا على معنى الإدراكِ المُسمَّى بالسَّمعِ، وتأوَّلوا وَصفَه بالسَّميعِ والبصيرِ على معنى أنَّه عليمٌ بالمسموعاتِ التي يسمَعُها غَيرُه، والمرئيَّاتِ التي يراها غَيرُه) [670] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 181). .
وقال أيضًا: (زعَم الكَعبيُّ والنَّظَّامُ أنَّ كونَ الإلهِ سامِعًا إنَّما يُفيدُ كونَه عالِمًا بالمسموعِ) [671] ((أصول الدين)) (ص: 96، 44). .
مِن هذه الأقوالِ والنُّقولِ يظهَرُ أنَّ النَّظَّامَ والكَعبيَّ ومَن تابَعهما مِن البغداديِّينَ يرَونَ أنَّ اللهَ لا يسمَعُ، ولا يُبصِرُ شيئًا على الحقيقةِ، ويُؤوِّلونَ وَصفَه بالسَّميعِ والبصيرِ على معنى العِلمِ بالمسموعاتِ والمرئيَّاتِ.
ولذا قال الكَعبيُّ وهو يشرَحُ هذا الرَّأيَ: (إنَّ الذي يجِدُه الإنسانُ مِن نَفسِه إدراكُه للمسموعِ والـمُبصَرِ بقلبِه وعقلِه، فهو لا يُحِسُّ بَصرُه بالـمُبصَرِ، بل يُحِسُّ المُبصَرَ، ويسمَعُ المسموعَ؛ وذلك هو العِلمُ حقيقةً، ولمَّا كان ذلك العِلمُ لا يحصُلُ إلَّا بوسائِطِ سَمعِه وبَصرِه سُمِّي كُلٌّ مِن السَّمعِ والبَصرِ حاسَّةً، وإلَّا فالمُدرِكُ هو العالِمُ، وإدراكُه ليس زائِدًا على عِلمِه، والدَّليلُ على ذلك: أنَّ مَن علِم شيئًا بالخبرِ، ثُمَّ رآه بالبَصرِ؛ وجَد أنَّ شُعورَ النَّفسِ بهما في الحالتَينِ واحِدٌ، فهو لا يجِدُ فَرقًا إلَّا في الجملةِ والتَّفصيلِ والعُمومِ والخُصوصِ، وليس فرقَ جنسٍ وجنسٍ، أو نوعٍ ونوعٍ) [672] ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 343). .
ومِن خلالِ عَرضِ رأيِ المُعتَزِلةِ في صفتَيِ السَّمعِ والبَصرِ نستخلِصُ أنَّهم قد اتَّفَقوا على نَفيِهما قائِمتَينِ بذاتِه تعالى حقيقةً؛ ولذا فإنَّهم أوَّلوا ما ورَد في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن إشارةٍ إلى هاتَينِ الصِّفتَينِ بأنَّ المقصودَ بهما حياتُه كما يراها البَصريُّونَ، أو العِلمُ كما يراها البَغداديُّونَ.
مُناقَشتُهم:
أوَّلًا: الرَّدُّ على المُعتَزِلةِ في نَفيِهم صفتَي السَّمعِ والبَصرِ
إنَّ النَّقلَ والعقلَ قد دلَّا على ثُبوتِ صفتَي السَّمعِ والبَصرِ للهِ تعالى؛ فالقولُ بنَفيِهما مُخالَفةٌ للنَّقلِ الصَّريحِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، ومُخالَفةٌ للعقلِ الصَّحيحِ، وما خالَفهما فهو باطِلٌ بالاتِّفاقِ.
فمِن النَّقلِ: قولُ اللهِ تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشوري: 11].
ففي هذه الآيةِ دَلالةٌ صريحةٌ على وَصفِ اللهِ تعالى بالسَّمعِ والبَصرِ.
وقال تعالى حاكيًا ما قاله إبراهيمُ عليه السَّلامُ لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42] .
قال ابنُ خُزَيمةَ: (أفليس مِن المُحالِ أن يقولَ خليلُ الرَّحمنِ لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42] ؟ فيَعيبُه بعِبادةِ ما لا يسمَعُ ولا يبصِرُ، ثُمَّ يدعوه إلى عِبادةِ ما لا يسمَعُ ولا يُبصِرُ كالأصنامِ التي هي مِن الموتى لا مِن الحيوانِ...؟!) [673] ((التوحيد)) لابن خزيمة (ص: 33). ؛ فدلَّ ذلك على ثُبوتِ صفتَي السَّمعِ والبَصرِ له تعالى على ما يليقُ بجلالِه.
وقال اللهُ سُبحانَه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ ‌وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 34-44] .
قال ابنُ خُزَيمةَ: (إنَّ اللهَ تعالى أخبَر بهذه الآيةِ أنَّ مَن لا يَسمَعُ ولا يَعقِلُ كالأنعامِ؛ فدلَّ على ثُبوتِ صفتَيِ السَّمعِ والبَصرِ له سُبحانَه وتعالى؛ وإلَّا لزِم اتِّصافُه تعالى بصفةِ النَّقصِ التي أثبَتها لمَن لا يسمَعُ!) [674] ((التوحيد)) (ص: 46). .
وعن أبي موسى الأشعَريِّ رضِي اللهُ عنه قال: كنَّا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفرٍ، فكنَّا إذا علَونا كبَّرْنا، فقال: ((ارْبَعوا على أنفُسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائِبًا، تَدْعونَ سميعًا بصيرًا قريبًا... )) [675] أخرجه البُخاريُّ (7386) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2704). .
ففي هذا الحديثِ دَلالةٌ على اتِّصافِه تعالى بصفتَي السَّمعِ والبَصرِ قائِمتَينِ بذاتِه تعالى حقيقةً.
قال البَيهَقيُّ: (‌السَّميعُ: مَن له ‌سَمعٌ يُدرِكُ به المسموعاتِ، والسَّمعُ له صفةٌ قائِمةٌ بذاتِه، ‌البصيرُ: مَن له ‌بَصرٌ يرى به المرئيَّاتِ، والبَصرُ له صفةٌ قائِمةٌ بذاتِه) [676] ((الاعتقاد)) (ص: 59). .
وأمَّا مِن العقلِ فقال الباقِلَّانيُّ: (الدَّليلُ على أنَّه تعالى سميعٌ بصيرٌ... أنَّه قد ثبَت أنَّه تعالى حيٌّ، والحيُّ يصِحُّ أن يكونَ سميعًا بصيرًا...، ومَن عَرِيَ مِن هذه الأوصافِ معَ صحَّةِ وصفِه بها فلا بُدَّ مِن أن يكونَ موصوفًا بأضدادِها... مِن العمى والصَّمَمِ، وهذه الأمورُ آفاتٌ قد اتُّفِق على أنَّها تدُلُّ على حُدوثِ الموصوفِ بها، فلم يجُزْ وَصفُ القديمِ بشيءٍ منها؛ فوجَب أن يكونَ سميعًا بصيرًا...) [677] ((التمهيد)) (ص26، 27). .
وإذا ثبَت بالنَّقلِ والعقلِ أنَّه تعالى سميعٌ بصيرٌ، بطَل ما يزعُمُه النُّفاةُ مِن أنَّه تعالى ليس بسميعٍ ولا بصيرٍ بسمعٍ وبَصرٍ قائِمَينِ في ذاتِه تعالى، على ما يليقُ بجلالِه.
إضافةً إلى هذا فإنَّه سبَق عَرضُ شُبُهاتِ المُعتَزِلةِ في نَفيِ الصِّفاتِ في مَبحَثِ موقِفِ المُعتَزِلةِ مِن الصِّفاتِ عامَّةً، وتمَّ الرَّدُّ عليها، وعلى ذلك فإنَّه يَبطُلُ رأيُ المُعتَزِلةِ في نَفيِ صفتَيِ السَّمعِ والبَصرِ ببُطلانِ رأيِهم في نَفيِ سائِرِ الصِّفاتِ؛ لأنَّ شُبُهاتِهم التي نفَوا بسببِها الصِّفاتِ عامَّةٌ لجميعِ الصِّفاتِ، وليست خاصَّةً بصفاتٍ بعَينِها.
ثانيًا: الرَّدُّ على الجُبَّائيِّ وابنِه ومَن تابَعهما مِن البَصريِّينَ في تأويلِهم السَّميعَ والبصيرَ بالحيِّ الذي لا آفةَ به
الجُبَّائيُّ وابنُه ومَن تابَعهما يرَونَ أنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ بمعنى أنَّه حيٌّ لا آفةَ به، وهذا التَّأويلُ ممَّا يظهَرُ بُطلانُه.
الرَّدُّ على أصحابِ هذا الرَّأيِ:
1- يُقالُ لهم: أطلَقْتُم القولَ بنَفيِ الآفةِ، وهو ليس بشَرطٍ بالاتِّفاقِ؛ فإنَّ السَّميعَ والبصيرَ قد يكونُ ذا آفةٍ، وذا آفاتٍ كثيرةٍ [678] يُنظر: ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 346). .
فإن قيل: ليس السَّميعُ هو مَن سُلِبَت عنه الآفةُ مُطلَقًا، بل مَن سُلِبَت عنه الآفةُ في محَلِّ السَّمعِ.
قيل لهم: هذا القولُ باطِلٌ أيضًا؛ فإنَّ مَن قال: السَّمعُ: هو نَفيُ الآفةِ في محَلِّ السَّمعِ، فكأنَّه قال: السَّميعُ: هو مَن له السَّمعُ في محلِّ السَّمعِ، ولو قال: السَّميعُ هو مَن له السَّمعُ لكان ذلك كافيًا عن ذِكرِ المحَلِّ، وإذا كان كافيًا فكأنَّه قال: السَّميعُ: هو الذي لا آفةَ به، وإذ ذاك فإنَّه يَرجِعُ الكلامُ الأوَّلُ بعَينِه [679] يُنظر: ((غاية المرام)) للآمدي (ص: 128). .
وإذا كان لا يلزَمُ مِن نَفيِ الآفةِ وُجودُ السَّمعِ والبَصرِ، ولا ينتفي بوُجودِها؛ فإنَّ تفسيرَ السَّمعِ والبَصرِ بنَفيِ الآفةِ باطِلٌ.
2- إنَّ الذي يُحِسُّه الإنسانُ مِن نَفسِه معنًى موجودٌ لا نَفيٌ محضٌ، وقولُهم: لا آفةَ به، نَفيٌ محضٌ، فلا يُتصوَّرُ الإحساسُ به، ويستحيلُ أن ترجِعَ التَّفرِقةُ بَينَ حالتَيِ الإدراكِ وعَدمِ الإدراكِ إلى عَدمٍ محْضٍ، فحينَئذٍ تنعدِمُ التَّفرِقةُ؛ فإنَّ التَّفرِقةَ بالعَدمِ وعَدمَ التَّفرقةِ سواءٌ [680] يُنظر: ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 347). .
3- قال الشَّهْرَسْتانيُّ -وهو يَرُدُّ على الجُبَّائيِّ ومَن معَه-: (نحن نُدرِكُ تفرِقةً ضروريَّةً بَينَ كونِ الإنسانِ سميعًا، وبَينَ كونِه بصيرًا، وهُما مُتَّفقانِ في أنَّ معنى كُلِّ واحِدٍ منهما أنَّه حيٌّ لا آفةَ به، فهذه التَّفرِقةُ ترجِعُ إلى ماذا؟ فلا بُدَّ مِن أمرَينِ زائِدَينِ على كونِه حيًّا لا آفةَ به حتَّى يكونَ بأحدِهما سميعًا وبالثَّاني بصيرًا، وإلَّا فتبطُلُ التَّفرِقةُ الضَّروريَّةُ، فالذي انفصَل به السَّمعُ عن البَصرِ وراءَ كونِه حيًّا لا آفةَ به، فكذلك الذي انفصَل به السَّمعُ والبَصرُ عن العِلمِ وسائِرِ الصِّفاتِ وراءَ كونِه حيًّا لا آفةَ به.
ثُمَّ قال الشَّهْرَسْتانيُّ: (ولَئِن أُلزِم الجُبَّائيُّ بأن يُقالَ: معنى كونِه عالِمًا قادِرًا أنَّه حيٌّ لا آفةَ به حتَّى يَرُدَّ الصِّفاتِ كُلَّها إلى كونِه حيًّا لا آفةَ به؛ لم يجِدْ عن هذا الإلزاِم مَخلَصًا [681] ((نهاية الإقدام)) (ص: 347). .
4- قال الآمِديُّ في ردِّه على الجُبَّائيِّ ومَن معَه مِن البَصريِّينَ: (إنَّ العقلَ السَّليمَ يقضي بفسادِ قولِ مَن فسَّر السَّمعَ والبَصرَ بنَفيِ الآفةِ دونَ العِلمِ والقُدرةِ وغَيرِها مِن الصِّفاتِ، معَ أنَّه لو سُئِل عن الفَرقِ لم يجِدْ عنه مَخلَصًا، بل كُلُّ ما تخيَّل مِن مَنعِ تفسيرِ العِلمِ والقُدرةِ بانتِفاءِ الآفةِ فهو بعَينِه في الإدراكِ حُجَّةٌ لنا) [682] ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص: 128- 129). .
ثالثًا: الرَّدُّ على البغداديِّينَ في تأويلِهم صفتَيِ السَّمعِ والبَصرِ بالعِلمِ:
النَّظَّامُ والكعبيُّ ومَن تابَعهما مِن البغداديِّينَ يرَونَ أنَّ المُرادَ بوَصفِ اللهِ بالسَّمعِ والبَصرِ العِلمُ؛ فقولُنا: اللهُ سميعٌ بصيرٌ، أي: عليمٌ.
وهذا القولُ ظاهِرُ البُطلانِ؛ لِما يلي:
1- في هذا التَّأويلِ نَفيٌ لصفتَيِ السَّمعِ والبَصرِ قائِمتَينِ بذاتِه حقيقةً، وتأويلٌ لهما بالعِلمِ، معَ أنَّه قد روى أبو هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه هذه الآيةَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا إلى قولِه تعالى: سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] قال: ((رأَيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَضَعُ إبهامَه على أذُنِه، والتي تليها على عَينِه )) [683] أخرجه أبو داود (4728) واللَّفظُ له، وابن حبان (265)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (9334). صحَّحه ابنُ حبَّان، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1252)، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4728)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4728)، وقوَّاه على شرطِ مسلمٍ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (13/385). .
قال ابنُ القيِّمِ: (إنَّما فعَل ذلك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَفعًا لتوهُّمِ مُتوهِّمٍ أنَّ السَّمعَ والبَصرَ غَيرُ العينَينِ المعلومتَينِ) [684] ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن الموصلي (ص: 460-461). .
... فإن قيل: وَجهُ استِحالتِه أنَّه إن كان سَمعُه وبَصرُه حادِثَينِ كان محَلًّا للحوادِثِ، وهو مُحالٌ، وإن كانا قديمَينِ، فكيف يسمعُ صَوتًا معدومًا؟ وكيف يرى العالَمُ في الأزلِ؟ والعالَمُ معدومٌ، والمعدومُ لا يُرى؟!
فالجوابُ أن يُقالَ: أنتم -مَعشَرَ المُعتَزِلةِ- تُسلِّمونَ أنَّ اللهَ تعالى يعلَمُ الحادِثاتِ، فهو يعلَمُ الآنَ أنَّ العالَمَ كان موجودًا قَبلَ هذا الوقتِ، لكن كيف عَلِم في الأزَلِ أنَّه كان موجودًا وهو بَعدُ لم يكنْ موجودًا؟ فإن جاز إثباتُ صفةٍ في الأزلِ تكونُ عندَ وُجودِ العالَمِ عِلمًا بأنَّه كائِنٌ، وقَبلَه بأنَّه سيكونُ، وبَعدَه بأنَّه كان، وهو لا يتغيَّرُ؛ عُبِّر عن هذه الصِّفةِ بالعِلمِ والعالِميَّةِ؛ جاز ذلك في السَّمعِ والسَّمعيَّةِ، والبَصرِ والبَصريَّةِ [685] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 109- 110). .
2- يلزَمُ مِن تأويلِ صفتَيِ السَّمعِ والبَصرِ بالعِلمِ تسوِيةُ اللهِ تعالى بالأعمى الذي يعلَمُ أنَّ السَّماءَ خَضراءُ ولا يراها، والأصَمِّ الذي يعلَمُ أنَّ في السَّماءِ أصواتًا ولا يسمَعُها، ولا شكَّ أنَّ في تسويةِ اللهِ تعالى بالأعمى والأصَمِّ تنقُّصًا له تعالى. وهو باطِلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه مِن تأويلٍ لهاتَينِ الصِّفتَينِ بالعِلمِ.
3- ردَّ الأشعَريُّ على مَن أوَّلَ السَّمعَ والبَصرَ بالعِلمِ، فقال: (زعَمَت المُعتَزِلةُ أنَّ قولَه تعالى: سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 134] أنَّ معناه عليمٌ، قيل لهم: فإذا قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، فمعنى ذلك عندَكم: عِلْمٌ، فإن قالوا: نعَم، قيل لهم: فقد وجَب عليكم أن تقولوا: معنى قولِه تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] أعلَمُ وأعلَمُ، إذا كان معنى ذلك العِلمَ) [686] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 157) بتصَرُّفٍ. ، وهذا باطِلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِن تأويلِ السَّمعِ والبَصرِ بالعِلمِ مِثلُه.
وقال الأشعَريُّ أيضًا: (يُقالُ للمُعتَزِلةِ: إذا زعَمْتُم أنَّ معنى "سميعٍ بصيرٍ" عالِمٌ، فهلَّا زعَمْتُم أنَّ معنى قادِرٍ معنى عالِمٍ؟ فإن قالوا: هذا يوجِبُ أن يكونَ كُلُّ معلومٍ مقدورًا، قيل لهم: ولو كان معنى سَمِيعًا بَصِيرًا معنى عالِمٍ، لكان كُلُّ معلومٍ مسموعًا، وإذا لم يجُزْ ذلك بطَل قولُكم) [687] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 158، 159) بتصَرُّفٍ. .
4- قال البغداديُّ: (زعَم النَّظَّامُ والكَعبيُّ أنَّ كونَ الإلهِ سامِعًا إنَّما يُفيدُ كونَه عالِمًا بالمسموعِ...، وهذا باطِلٌ؛ لأنَّ الواحِدَ منَّا يسمَعُ الصَّوتَ فيكونُ عالِمًا به في حالِ السَّماعِ، ثُمَّ يكونُ عالِمًا به في الحالِ الثَّانيةِ، ولا يكونُ سامِعًا؛ فصحَّ بهذا أنَّ السَّمعَ للشَّيءِ غَيرُ العِلمِ به) [688] ((أصول الدين)) (ص: 96). .

انظر أيضا: