موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: رأيُ المُعتَزِلةِ في الإرادةِ ومُناقَشتُهم


اختلَف المُعتَزِلةُ في موقِفِهم مِن الإرادةِ، وأهَمُّ آرائِهم في ذلك رأيانِ:
الرَّأيُ الأوَّلُ: رأيُ البَصريِّينَ ومَن تبِعهم مِن المُعتَزِلةِ، ويتلخَّصُ هذا الرَّأيُ في أنَّ اللهَ تعالى مُريدٌ بإرادةٍ حادِثةٍ لا في محَلٍّ [644] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 440). .
الرَّأيُ الثَّاني: للنَّظَّامِ والكَعبيِّ ومَن تبِعهما، وهؤلاء ينفونَ الإرادةَ عن اللهِ أصلًا.
وهنا تفصيلُ هذَينِ الرَّأيَينِ مِن أقوالِهم، أو أقوالِ مَن نقَل عنهم، ثُمَّ الرَّدُّ عليهم.
الرَّأيُ الأوَّلُ: رأيُ البَصريِّينَ ومَن تبِعهم
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (قال شيخُنا أبو عليٍّ وأبو هاشِمٍ رحِمهما اللهُ ومَن تبِعهما: إنَّه تعالى مُريدٌ في الحقيقةِ، وإنَّه يحصُلُ مُريدًا بَعدَما لم يكنْ إذا فعَل الإرادةَ، وإنَّه يُريدُ بإرادةٍ مُحدَثةٍ، ولا يصِحُّ أن يُريدَ لنَفسِه ولا بإرادةٍ قديمةٍ، وإنَّ إرادتَه توجَدُ لا في محَلٍّ) [645] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6 /3). .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّه تعالى مُريدٌ -عندَنا- بإرادةٍ مُحدَثةٍ موجودةٍ لا في محَلٍّ) [646] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 440). .
وروى البغداديُّ رأيَ المُعتَزِلةِ البَصريِّينَ في الإرادةِ، فقال: (إنَّ البَصريِّينَ مِن المُعتَزِلةِ قالوا: إنَّ إرادةَ اللهِ تعالى ليست قديمةً بل مُحدَثةً لا في محَلٍّ، بها يُخصِّصُ اللهُ الأشياءَ بالوُجودِ دونَ العَدمِ) [647] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 181). .
إذًا رأيُ البَصريِّينَ ومَن تبِعهم مِن المُعتَزِلةِ في الإرادةِ هو أنَّ اللهَ تعالى مُريدٌ بإرادةٍ حادِثةٍ لا في محَلٍّ.
المُناقَشةُ:
أوَّلًا: الرَّدُّ على قولِ البَصريِّينَ: (اللهُ مُريدٌ بإرادةٍ حادِثةٍ)
إنَّ قولَ البَصريِّينَ بحُدوثِ إرادةِ اللهِ تعالى باطِلٌ؛ وذلك أنَّه قد ثبَت أنَّ إحداثَ المُحدَثاتِ موقوفٌ على الإرادةِ، فلو كانت الإرادةُ مُحدَثةً لافتقَر إحداثُها إلى إرادةٍ أخرى، ولزِم التَّسلسُلُ، والقولُ بالتَّسلسُلِ باطِلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه مِن القولِ بحُدوثِ الإرادةِ [648] يُنظر: ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 152، 154)، ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 245). .
وأيضًا: فإنَّ الإرادةَ صفةٌ، والصِّفةُ قديمةٌ بقِدَمِ موصوفِها [649] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تَيميَّة (2 /95). .
ثانيًا: الرَّدُّ على قولِ المُعتَزِلةِ: "اللهُ مُريدٌ بإرادةٍ لا في محَلٍّ"
1- إنَّ وُجودَ عَرَضٍ لا في محَلٍّ بعيدٌ عن العُقولِ، ولو جاز ذلك فلِمَ لا يجوزُ وُجودُ سوادٍ لا في محَلٍّ، وبياضٍ لا في محَلٍّ؟ وكذا القولُ في سائِرِ الأعراضِ [650] يُنظر: ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 154). .
قال الشَّهْرَسْتانيُّ: (يستحيلُ كونُ الإرادةِ لا في محَلٍّ؛ فإنَّ الإرادةَ مِن جُملةِ الأعراضِ، واحتياجُ الأعراضِ إلى المحَلِّ صفةٌ ذاتيَّةٌ لها، ومِن المُحالِ ثُبوتُها دونَ الوَصفِ الذَّاتيِّ) [651] ((نهاية الإقدام)) (ص: 243). .
وإذا كانت الأعراضُ تستلزِمُ محَلًّا تقومُ به فإنَّ الإرادةَ تستلزِمُ محَلًّا تقومُ به كسائِرِ الأعراضِ، وعليه فإنَّ القولَ بأنَّ اللهَ مُريدٌ بإرادةٍ لا في محَلٍّ: باطِلٌ.
2- إنَّ ذواتِ الحيواناتِ تصلُحُ عليها صفةُ المُريديَّةِ، فلو جُوِّزَت إرادةٌ لا في محَلٍّ لكانت نِسبةُ تلك الإرادةِ إلى ذاتِ اللهِ تعالى كنِسبتِها إلى سائِرِ الذَّواتِ، فوجَب أن توجِبَ صفةَ المُريديَّةِ لكُلِّ مَن يصلُحُ أن يكونَ مُريدًا؛ لعَدمِ الاختِصاصِ، فيلزَمُ أن يكونَ كُلُّ ما يُريدُه اللهُ تعالى يُريدُه كُلُّ الأحياءِ، وذلك باطِلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه مِن القولِ بحُدوثِ الإرادةِ لا في محَلٍّ [652] يُنظر: ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 154)، ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (ص: 59). .
3- يلزَمُ على قولِكم: (اللهُ مُريدٌ بإرادةٍ لا في محَلٍّ) أن يكونَ اللهُ تعالى مُريدًا بإرادةٍ قائِمةٍ لا في ذاتِه، ولو جاز أن يكونَ تعالى مُريدًا بإرادةٍ قائِمةٍ لا في ذاتِه، لجاز أن يكونَ عالِمًا بعِلمٍ قائِمٍ لا في ذاتِه، وقادِرًا بقُدرةٍ قائِمةٍ لا في ذاتِه، إلى غَيرِ ذلك مِن الصِّفاتِ، وهذا لا تقولونَ به، ولجاز أيضًا أن يكونَ الواحِدُ منَّا علَّامًا وقادِرًا بعِلمٍ قائِمٍ لا في ذاتِه، وقُدرةٍ قائِمةٍ لا في ذاتِه، وهذا ممَّا لا تقولونَ به أيضًا، والتَّحكُّمُ بالفَرقِ مِن غَيرِ دليلٍ ممَّا لا سبيلَ إليه.
وهذه اللَّوازِمُ معلومٌ بُطلانُها بالضَّرورةِ، بل أنتم لا تُوافِقونَ عليها، وإذا كانت هذه اللَّوازِمُ باطِلةً بطَل ما يُؤدِّي إليها مِن القولِ بأنَّ اللهَ مُريدٌ بإرادةٍ لا في محَلٍّ [653] يُنظر: ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (ص: 59)، ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 69، 70). .
4- يُقالُ لهم: مِن رأيِكم أنَّ المُتماثِلَينِ يجِبُ اشتِراكُهما في الواجِباتِ والجائِزاتِ وما يستحيلُ، ثُمَّ أوجَبْتُم لإرادتِنا القيامَ بالمُحالِ، فلماذا لم تلتزِموا ذلك في إرادةِ الباري تعالى [654] يُنظر: ((الإرشاد)) للجُوَيني (ص: 95). ؟!
ثُمَّ إنَّه لو لم تكنِ الإرادةُ قائِمةً به تعالى، فقولُ القائِلِ: مُريدٌ بها، هَجْرٌ مِن الكلامِ، كقولِه: مُريدٌ بإرادةٍ قائِمةٍ في غَيرِه [655] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 106). !
وبما ذُكِر يظهَرُ بُطلانُ قولِ المُعتَزِلةِ: (اللهُ مُريدٌ بإرادةٍ حادِثةٍ لا في محَلٍّ)، ويتبيَّنُ أنَّ إرادتَه تعالى أزليَّةٌ قائِمةٌ في ذاتِه تعالى.
الرَّأيُ الثَّاني: رأيُ النَّظَّامِ والكَعبيِّ ومَن تبِعهما في الإرادةِ
قد وُجِد مِن المُعتَزِلةِ مَن ينفي الإرادةَ عن اللهِ أصلًا، وذلك كالنَّظَّامِ والكَعبيِّ اللَّذَينِ قالا: إنَّ اللهَ تعالى غَيرُ مُريدٍ على الحقيقةِ، وإنَّه لا يوصُفَ بها إلَّا مجازًا، فإذا قُلْنا: إنَّ اللهَ تعالى مُريدٌ في الأزَلِ فمعناه أنَّه عالِمٌ قادِرٌ غَيرُ مُكرَهٍ على فِعلِه، ولا كارِهٍ له، وإذا قُلْنا: إنَّه مُريدٌ لأفعالِه فالمُرادُ أنَّه خالِقُها ومُنشِئُها على وَفقِ عِلمِه، وإذا قُلْنا: إنَّه مُريدٌ لأفعالِ عِبادِه فالمعنى أنَّه آمِرٌ بها [656] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 182)، ((أصول الدين)) (ص: 90)، كلاهما للبغدادي، ((نهاية الإقدام)) (ص: 238)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 73)، كلاهما للشَّهْرَسْتانيِّ. .
قال عبدُ الجبَّارِ: (وقال إبراهيمُ النَّظَّامُ: إنَّ إرادةَ اللهِ تعالى إنَّما هي فِعلُه أو أمرُه أو حُكمُه) [657] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 4). .
وقال أيضًا: (المحكيُّ عن شيخِنا أبي الهُذَيلِ -رحِمه اللهُ- أنَّ إرادةَ اللهِ غَيرُ المُرادِ؛ فإرادتُه لِما خلَقه هي خَلقُه له...، وإرادتُه لطاعاتِ العبادِ هي أمرُهم بها) [658] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 4). .
وقال أيضًا: (قال الجاحِظُ: إنَّه تعالى مُريدٌ بمعنى أنَّ السَّهوَ منه في أفعالِه، والجهلُ بها لا يجوزُ عليه) [659] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/ 5). .
المُناقَشةُ:
أوَّلًا: يُقالُ لهم: إذا زعَمْتُم أنَّه قد كان في سُلطانِ اللهِ عزَّ وجلَّ الكُفرُ والعِصيانُ، وهو لا يُريدُها، وأراد أن يُؤمِنُ الخَلقُ أجمعونَ فلم يُؤمِنوا؛ فقد وجَب على قولِكم أنَّ أكثَرَ ما شاء اللهُ أن يكونَ لم يكنْ، وأكثَرَ ما شاء اللهُ ألَّا يكونَ كان؛ لأنَّ الكُفرَ الذي كان وهو لا يشاؤُه تعالى عندَكم أكثَرُ مِن الإيمانِ الذي كان وهو يشاؤُه، وعلى هذا فأكثَرُ ما شاء اللهُ أن يكونَ لم يكنْ، وهذا جَحدٌ لِما أجمَع عليه المُسلِمونَ مِن أنَّ ما شاء اللهُ أن يكونَ كان، وما لم يشَأْ لا يكونُ [660] يُنظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) للأشعري (ص: 163)، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 108). .
ثانيًا: يلزَمُ على قولِكم بنَفيِ الإرادةِ أن تكونَ الأفعالُ غَيرَ اختِياريَّةٍ شَبيهةً بالأفعالِ الطَّبيعيَّةِ عندَ أهلِ الطَّبائِعِ، وهذا باطِلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه [661] يُنظر: ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 245). .
ثالثًا: يلزَمُ مِن نَفيِ الإرادةِ عن اللهِ تعالى وَصفُه بالعَجزِ، وهو صفةُ نَقصٍ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، ووَصفُ اللهِ بالنَّقصِ باطِلٌ؛ فما يُؤدِّي إليه مِثلُه.
رابعًا: يلزَمُكم معَ كُلِّ ما ذُكِر ما لزِم نُفاةَ الصِّفاتِ مِن الرُّدودِ، وقد سبَق بيانُ ذلك عندَ الرَّدِّ على المُعتَزِلةِ في موقِفِهم مِن الصِّفاتِ عامَّةً.

انظر أيضا: