موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: معاني مَعمَرٍ ومُناقَشتُها


يُعنى هذا المَبحَثُ بذِكرِ رأيِ أصحابِ المعاني، وعلى رأسِهم مَعمَرٌ، معَ ذِكرِ أهَمِّ المُناقَشاتِ والرُّدودِ التي أبرزَت بُطلانَ هذا المذهَبِ [621] يُنظر: ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) للمعتق (ص: 94- 96). .
قال مَعمَرٌ: (كُلُّ عَرَضٍ قام بمحَلٍّ فإنَّما يقومُ به لمعنًى أوجَب القيامَ به...؛ فالحركةُ مَثلًا إنَّما خالفَت السُّكونَ لا بذاتِها، بل بمعنًى أوجَب المُخالَفةَ، وكذلك مُغايَرةُ المِثلِ المِثلَ ومُماثَلتُه، وتضادُّ الضِّدِّ الضِّدَّ؛ كُلُّ ذلك عندَه بمعنًى) [622] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/65). .
وكان يرى أنَّ كُلَّ نوعٍ مِن الأعراضِ في كُلِّ جسمٍ لا يتناهى أبدًا في العَدَدِ [623] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 152). ؛ ولذا قال: (إذا كان المُتحرِّكُ مُتحرِّكًا بحركةٍ قامت به، فتلك الحركةُ اختصَّت بمحَلِّها لمعنًى سِواها؛ وذلك المعنى أيضًا يختصُّ بمحَلِّه لمعنًى سِواه...، وهكذا إلى ما لا نهايةَ) [624] ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 153). .
وقال الخيَّاطُ -وهو يشرَحُ رأيَ مَعمَرٍ هذا-: (لمَّا وجَد مَعمَرٌ جسمَينِ ساكِنَينِ: أحدُهما يلي الآخَرَ، ثُمَّ وجَد أحدَهما قد تحرَّك دونَ صاحِبِه، كان لا بُدَّ عندَه مِن معنًى حَلَّهُ دونَ صاحِبِه مِن أجْلِه تحرَّك؛ وإلَّا لم يكنْ بالتَّحرُّكِ أَولى مِن صاحِبِه، فإذا كان هذا حُكمًا صحيحًا فلا بُدَّ أيضًا مِن معنًى حدَث له حلَّت مِن أجْلِه الحركةُ في أحدِهما دونَ صاحِبِه؛ وإلَّا لم يكنْ حُلولُها في أحدِهما أَولى مِن حُلولِها في الآخَرِ، وكذلك إن سُئِل عن ذلك المعنى: لِمَ كان عِلَّةً لحُلولِ الحركةِ في أحدِهما دونَ صاحِبِه؟ قال: لمعنًى آخَرَ، وكذلك أيضًا إن سُئِل عن ذلك المعنى الآخَرِ كان جوابُه فيه كجوابِه فيما قَبلَه) [625] ((الانتصار)) (ص: 55). .
وهنا مثالٌ يُوضِّحُ رأيَ مَعمَرٍ، فيُقالُ: (إذا نظَرْنا إلى طاوِلةٍ فوجَدْناها حمراءَ اللَّونِ، كان ذلك لمعنًى خاصٍّ، فإذا كانت سوداءَ كان ذلك لمعنًى آخَرَ، وكذلك إذا كانت كبيرةً أو صغيرةً، يابِسةً أو ليِّنةً، حديديَّةً أو خشبيَّةً؛ كان كُلُّ ذلك لمعانٍ خاصَّةٍ حلَّت بها...، ويُؤخَذُ مِن هذا أنَّ الأساسَ في الطَّاوِلةِ هو ذاتُها، لا ما يتعلَّقُ بها مِن الصِّفاتِ؛ فالطَّاوِلتانِ لا تختلِفانِ عن بعضِهما بالذَّاتِ؛ لأنَّ ذاتَهما واحدةٌ، بل تختلِفانِ فيما يتعلَّقُ بهما مِن الصِّفاتِ كالحركةِ والسُّكونِ، واللَّونِ والحَجمِ، وغَيرِ ذلك، وهي أمورٌ عَرَضيَّةٌ لا أهميَّةَ لها، وقد فضَّل مَعمَرٌ أن يدعوَها معانيَ بَدلَ الصِّفاتِ؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ في هذا ما يُخفِّفُ مِن جوهريَّةِ الصِّفاتِ، ويُقلِّلُ مِن أهمِّيَّتِها) [626] ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 68). .
ولذا دُعِي هو وأتباعُه أصحابَ المعاني [627] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/66). .
وعلى هذا الأساسِ بنى مَعمَرٌ قولَه في صفاتِ الباري عزَّ وجلَّ، فقال: (إنَّ اللهَ عالِمٌ بعِلمٍ، وإنَّ عِلمَه كان لمعنًى، والمعنى كان لمعنًى، لا إلى غايةٍ، وكذلك في سائِرِ الصِّفاتِ) [628] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/228). ، أي: إنَّه جعَل ذاتَ اللهِ تعالى واحدةً قديمةً، وأراد أن يُثبِتَ أنَّ الصِّفاتِ ما هي إلَّا معانٍ ثانويَّةٌ لا أهميَّةَ لها، فكان بذلك مُشترِكًا في الغايةِ معَ المُعتَزِلةِ الذين نفَوا الصِّفاتِ، وقالوا: إنَّ اللهَ عالِمٌ قادِرٌ بالذَّاتِ، ومعَ أبي الهُذَيلِ الذي يُثبِتُ الصِّفاتِ، ولكنَّه يقولُ: إنَّها هي الذَّاتُ، غَيرَ أنَّ مَعمَرًا وإن اتَّفَق معَهم في الغايةِ؛ فقد خالَفهم في الطَّريقةِ لإثباتِ تلك الغايةِ، فاهتَدى إلى المعاني [629] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 68). .
مُناقَشةُ مَعمَرٍ ومَن معَه مِن مُثبِتي المعاني:
أوَّلًا: يُقالُ لهم: أخبِرونا عن المعاني التي تدَّعونَها في حركةٍ واحدةٍ: أيُّهما أكثَرُ؛ هي أم المعاني التي تدَّعونَها في حركتَينِ؟
فإن أثبَتوا قلَّةً وكثرةً تركوا مذهَبَهم، وأوجَبوا النِّهايةَ في المعاني التي نفَوا النِّهايةَ عنها، وإن قالوا: لا قِلَّةَ ولا كثرةَ ههنا، كابَروا وأتَوا بالمُحالِ النَّاقِضِ لأقوالِهم؛ لأنَّهم إذا أوجَبوا للحركةِ معنًى أوجَبوا للحركتَينِ معنيَينِ، وهكذا أبدًا؛ فوجبَت الكثرةُ والقِلَّةُ ضرورةً لا مَحيدَ عنها.
وقد اعترَض بعضُهم، فقال: أخبِرونا: أليس اللهُ تعالى قادِرًا على أن يخلُقَ في جسمٍ واحدٍ حركاتٍ لا نهايةَ لها؟ فكان جوابُ أهلِ الإسلامِ لهم بـ "نعَم"، فتمادَوا في السُّؤالِ، فقالوا: أخبِرونا: أيُّما أكثَرُ: ما يقدِرُ اللهُ تعالى عليه مِن خَلقِ الحركاتِ في جسمَينِ، أو ما يقدِرُ عليه مِن خَلقِ الحركاتِ في جسمٍ واحِدٍ؟ فأجاب أهلُ الحقِّ على ذلك: بأنَّه لا يقعُ عددٌ على معدومٍ، وإنَّما يقعُ العَدَدُ على الموجودِ المعدودِ، والذي يَقدِرُ اللهُ تعالى عليه ولم يفعَلْه، فليس هو بَعدُ شيئًا، ولا له عَدَدٌ، ولا هو معدودٌ، ولا نهايةَ لقُدرةِ اللهِ تعالى، وأمَّا ما يَقدِرُ عليه تعالى ولم يفعَلْه، فلا يُقالُ فيه: إنَّ له نهايةً، ولا إنَّه لا نهايةَ له، وأمَّا كُلُّ ما خلَق اللهُ تعالى فله نهايةٌ، وكذا كُلُّ ما يخلُقُ إذا خلَقه حدثَت له نهايةٌ حينَئذٍ لا قَبلَ ذلك، وأمَّا المعاني التي تدَّعونَها فإنَّكم تدَّعونَ أنَّها موجودةٌ قائِمةٌ، فوجَب أن يكونَ لها نهايةٌ، فإن نفَيتُم النِّهايةَ عنها لحِقْتُم بأهلِ الدَّهرِ، وكلَّمْناكم بما كلَّمْناهم به [630] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (5/47). .
وإذا ثبَت لها نهايةٌ ثبَت لها بدايةٌ، فأصبحَت حوادِثَ، واللهُ مُنزَّهٌ عن حُلولِ الحوادِثِ فيه، فبطَل قولُكم. واللهُ أعلَمُ.
ثانيًا: قال البغداديُّ بَعدَ أن عرَض رأيَ مَعمَرٍ في المعاني: (في هذا القولِ إلحادٌ مِن وجهَينِ:
أحدُهما: قولُه بحوادِثَ لا نهايةَ لها، وهذا يوجِبُ وُجودَ حوادِثَ لا يُحصيها اللهُ تعالى، وذلك عِنادٌ لقولِ اللهِ تعالى: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] .
والثَّاني: أنَّ قولَه بحُدوثِ أعراضٍ لا نهايةَ لها يُؤدِّيه إلى القولِ بأنَّ الجسمَ أقدَرُ مِن اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ عندَه أنَّه ما خلَق غَيرَ الأجسامِ، وهي محصورةٌ عندَنا وعندَه، والجسمُ إذا فعَل عَرَضًا فقد فعَل معَه ما لا نهايةَ له مِن الأعراضِ، ومَن خلَق ما لا نهايةَ له ينبغي أن يكونَ أقدَرَ ممَّن لا يخلُقُ إلَّا مُتناهيًا في العَدَدِ...، وقد اعتذَر الكَعبيُّ عنه في مقالاتِه بأنْ قال: إنَّ مَعمَرًا كان يقولُ: إنَّ الإنسانَ لا فِعلَ له غَيرُ الإرادةِ، وسائِرُ الأعراضِ أفعالُ الأجسامِ بالطِّباعِ.
فإن صحَّت هذه الرِّوايةُ عنه لَزِمه أن يكونَ الطَّبعُ الذي نُسِب إليه فِعلُ الأعراضِ أقوى مِن اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ أفعالَ اللهِ أجسامٌ محصورةٌ، وأفعالُ الطِّباعِ أصنافٌ مِن الأعراضِ، كُلُّ صنفٍ منها غَيرُ محصورِ العَدَدِ) [631] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 153). .
والقولُ بأنَّ شيئًا مِن مخلوقاتِه تعالى أقدَرُ منه: كُفرٌ؛ فما يُؤدِّي إليه أو ينبني عليه مِثلُه، وقد سبَق أنَّ رأيَهم في صفاتِ الباري عزَّ وجلَّ إنَّما بنَوه على قولِهم فيما سِواها مِن الأعراضِ الموجودةِ في الأجسامِ، وقد بطَل الأصلُ، وببُطلانِه يَبطُلُ الفَرعُ.

انظر أيضا: