موسوعة الفرق

المسألةُ الثَّانيةُ: وَجهُ الاستِدلالِ بدليلِ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ على نَفيِ الصِّفاتِ


نتناوَلُ هنا وَجهَ الاحتِجاجِ بشُبهةِ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ على قولِ المُعتَزِلةِ بنَفيِ الصِّفاتِ، الذي يظهَرُ فيه تأثُّرُهم بالجَهميَّةُ، ويتخلَّلُ ذلك نَقدُ الاحتِجاجِ بهذه الشُّبهةِ في ضوءِ مُعتقَدِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة.
بدايةً، يتَّفِقُ جميعُ المُعتَزِلةِ على نَفيِ صفاتِ الباري جلَّ وعلا؛ فحقيقةُ قولِهم جميعًا أنْ ليس للهِ تعالى عِلمٌ، ولا قُدرةٌ، ولا حياةٌ، ولا سَمعٌ، ولا بَصرٌ، وأنَّه لم يكنْ في الأزلِ كلامٌ، ولا إرادةٌ، ولم يكنْ له في الأوَّلِ اسمٌ ولا صفةٌ [550] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 114)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 63)، ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (ص: 33)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تَيميَّة (2/11). .
وهُم مُتَّفِقونَ على أنَّ اللهَ تعالى لا يُرى، ولا يَرى نَفسَه [551] يُنظر: ((الانتصار والرد على ابن الرَّاوَنْدي الملحد)) للخياط (ص: 67)، ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 232)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/238)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 114، 181)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 63). ، بل الذي يقولُ: إنَّ اللهَ يُرى بالأبصارِ، على أيِّ وَجهٍ قاله، فهو مُشبِّهٌ للهِ بخَلقِه عندَ أبي الحُسَينِ الخيَّاطِ المُعتَزِليِّ، والمُشبِّهُ عندَه كافِرٌ باللهِ، والشَّاكُّ في كُفرِه كافِرٌ كذلك، وكذا الشَّاكُّ في الشَّاكِّ لا إلى غايةٍ [552] يُنظر: ((الانتصار والرد على ابن الرَّاوَنْدي الملحد)) (ص: 67). !
على أنَّ هذا التَّكفيرَ ليس محَلَّ إجماعٍ مِن المُعتَزِلةِ؛ فالقاضي عبدُ الجبَّارِ صرَّح بأنَّه لا يُكفِّرُ المُخالِفَ في هذه المسألةِ مُعلِّلًا ذلك بقولِه: (لمَّا كان الجَهلُ بأنَّه تعالى لا يُرى لا يقتضي جَهلًا بذاتِه ولا بشيءٍ مِن صفاتِه ...) [553] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 233). .
والمُعتَزِلةُ مُتَّفِقونَ أيضًا على نَفيِ صِفتَيِ السَّمعِ والبَصرِ عن اللهِ تعالى؛ فلا الصِّفتانِ قديمتانِ عندَهم ولا حادِثتانِ [554] يُنظر: ((أصول الدين)) (ص: 96)، ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 181) كلاهما للبغدادي، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 71)، ((المِلَل والنِّحَل)) (ص: 45)، ((نهاية الإقدام)) (341). كلاهما للشَّهْرَسْتانيِّ. .
وقالوا مُعلِّلينَ زَعمَهم استِحالةَ كونِ اللهِ سميعًا بصيرًا: (وَجهُ استِحالتِه: أنَّه إن كان سَمعُه وبَصرُه حادِثَينِ كان محَلًّا للحوادِثِ، وهو مُحالٌ، وإن كانا قديمَينِ فكيف يسمَعُ صوتًا معدومًا؟ وكيف يرى العالَمَ في الأزلِ، والعالَمُ معدومٌ، والمعدومُ لا يُرى؟) [555] ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 71). .
والمُعتَزِلةُ مُتَّفِقونَ أيضًا على أنَّ كلامَ اللهِ تعالى مخلوقٌ له، خلَقه في جسمٍ مِن الأجسامِ، فكان فيه مُتكلِّمًا، وأنَّه لم يكنْ مُتكلِّمًا قَبلَ أن يخلُقَ لنَفسِه كلامًا [556] يُنظر: ((الكشاف)) للزمخشري (2/88)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/84)، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 528)، ((المحيط بالتكليف)) (ص: 32، 316، 331، 333)، ((متشابه القرآن)) (1/545)، كلُّها لعبد الجبار، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 141)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 64)، ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (ص: 33). .
والقرآنُ الكريمُ عندَهم مُحدَثٌ ومخلوقٌ، وعلى هذا إجماعُ المُعتَزِلةِ كُلِّهم [557] يُنظر: ((المحيط بالتكليف)) (ص:331)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/94). كلاهما لعبد الجبار ((الكشاف)) للزمخشري (3/441). .
فحقيقةُ قولِهم تعطيلُ الباري -جلَّ وعلا- عن صفاتِه العُلا كُلِّها، وجُمهورُهم يقولونَ: إنَّ اللهَ عالِمٌ قادِرٌ حيٌّ بذاتِه، لا بعِلمٍ ولا قُدرةٍ ولا حياةٍ [558] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 151)، ((المحيط بالتكليف)) (ص: 107، 155) كلاهما لعبد الجبار، ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 6)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/244)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 44). .
واعتبَر بعضُهم تلك الصِّفاتِ عَينَ الذَّاتِ، فادَّعى أنَّه تعالى عالِمٌ بعِلمٍ هو هو، وقادِرٌ بقُدرةٍ هي هو، وحيٌّ بحياةٍ هي هو [559] يُنظر: ((الانتصار والرد على ابن الرَّاوَنْدي الملحد)) للخياط (ص: 75)، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 183) لعبد الجبار، ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) للحر العاملي (ص: 53)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/245)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 70)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 49). .
والفرقُ بَينَ القولَينِ: أنَّ الأوَّلَ ينفي الصِّفاتِ كلَّها، والثَّانيَ يُثبِتُ الصِّفةَ على أنَّها بعَينِها ذاتٌ، ويُثبِتُ الذَّاتَ على أنَّها بعَينِها صفةٌ [560] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (50). ، وهو نَفيٌ للصِّفةِ في الحقيقةِ، بل ونَفيٌ للذَّاتِ أيضًا.
وللمُعتَزِلةِ حُجَّتانِ بنَوا عليهما مذهَبَهم في نَفيِ الصِّفاتِ:
أُولاهما: حُجَّةُ التَّركيبِ، وقد سبَق الحديثُ عنها
وثانيتُهما: حُجَّةُ الأعراضِ، وهي محَلُّ الحديثِ هنا
فالمُعتَزِلةُ يعتبِرونَ الصِّفاتِ والكلامَ أعراضًا وحوادِثَ لو قامت باللهِ تعالى للزِم قيامُ الأعراضِ والحوادِثِ به، والأعراضُ لا تقومُ إلَّا بجسمٍ، وما كان محَلًّا للحوادِثِ فهو حادِثٌ؛ ولذلك أنكَروا قيامَ الصِّفاتِ بذاتِه تعالى [561] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (3/361) و(2/ 229)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/305) كلاهما لابن تَيميَّة. ويُنظر: أيضًا: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/ 44- 46). .
واللهُ تعالى ليس بجسمٍ عندَ المُعتَزِلةِ، وقد نقَل أبو الحَسنِ الأشعَريُّ، وأحمَدُ بنُ يحيى بنِ المُرتضى المُعتَزِليُّ إجماعَهم على ذلك [562] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/235)، ((طبقات المُعتزِلة)) لابن المرتضى (ص: 7)، ((منهاج الكرامة)) للحلي (ص: 81). ، وقد أجمَعوا على أنَّ اللهَ خالِقُ الأجسامِ والأعراضِ [563] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 118). .
والصِّفاتُ الخبريَّةُ؛ مِن الاستِواءِ، والنُّزولِ، والمجيءِ، واليدِ، والعينَينِ، والوَجهِ، وغَيرِ ذلك: داخِلةٌ في عُمومِ الصِّفاتِ المنفيَّةِ عن اللهِ -تعالى- عندَ المُعتَزِلةِ، وهُم يدَّعونَ أيضًا أنَّ إثباتَ قيامِها بذاتِ اللهِ تعالى يوهِمُ التَّجسيمَ، واللهُ تعالى ليس جسمًا [564] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 226)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (5/204) كلاهما لعبد الجبار. .
والمُعتَزِلةُ يقولونَ أيضًا: لو أنَّ اللهَ تعالى كان عالِمًا بعِلمٍ، حيًّا بحياةٍ، قادِرًا بقُدرةٍ زائِدةٍ على ذاتِه، قائِمةٍ به سُبحانَه، لكان جسمًا؛ لأنَّ العِلمَ والقُدرةَ والإرادةَ والحياةَ تحتاجُ إلى محَلٍّ مخصوصٍ، والمحَلُّ المخصوصُ لا بُدَّ أن يكونَ جسمًا، واللهُ سُبحانَه ليس بجسمٍ، ولا يصِحُّ أن يكونَ جسمًا، وإلَّا لكان مُحدَثًا؛ لأنَّ الحوادِثَ لا تقومُ إلَّا بحادِثٍ [565] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 162، 440)، ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/3) كلاهما لعبد الجبار. .
قال عبدُ الجبَّارِ: (جُملةُ القولِ في ذلك: هو أنَّه تعالى لو كان حيًّا بحياةٍ، والحياةُ لا يصِحُّ الإدراكُ بها إلَّا بَعدَ استِعمالِ محَلِّها في الإدراكِ ضَربًا مِن الاستِعمالِ، لوجَب أن يكونَ القديمُ تعالى جسمًا، وذلك مُحالٌ. وكذلك الكلامُ في القُدرةِ؛ لأنَّ القُدرةَ لا يصِحُّ الفِعلُ بها إلَّا بَعدَ استِعمالِ محَلِّها في الفِعلِ أو في سببِه ضَربًا مِن الاستِعمالِ، فيجبُ أن يكونَ اللهُ تعالى جسمًا محَلًّا للأعراضِ، وذلك لا يجوزُ) [566] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 200). .
فاللهُ تعالى عندَ عبدِ الجبَّارِ حيٌّ لا بحياةٍ، قادِرٌ لا بقُدرةٍ، عالِمٌ لا بعِلمٍ، مُريدٌ لا بإرادةٍ...، وهكذا في سائِرِ صفاتِه العُلا تعالى وتقدَّس.
قال عبدُ الجبَّارِ في موضِعٍ آخَرَ: (كُلُّ ما كان ممَّا لا يجوزُ إلَّا على الأجسامِ يجِبُ نَفيُه عن اللهِ تعالى، وإذا ورَد في القرآنِ آياتٌ تقتضي بظاهِرِها التَّشبيهَ وجَب تأويلُها؛ لأنَّ الألفاظَ مُعرَّضةٌ للاحتِمالِ، ودليلُ العقلِ بعيدٌ عن الاحتِمالِ) [567] ((المحيط بالتكليف)) (ص: 199). .
وهذا التَّنزيهُ المزعومُ للهِ تعالى عن الأجسامِ والجواهِرِ والأعراضِ والمكانِ: مرَدُّه هو تعطيلُ اللهِ جلَّ وعلا عن الاتِّصافِ بصفاتِه العُلا؛ مِن العِلمِ، والقُدرةِ، والحياةِ، والكلامِ، والاستِواءِ، وغَيرِ ذلك مِن الصِّفاتِ التي يُسمِّيها هؤلاء أعراضًا، ويدَّعونَ أنَّها لا تقومُ إلَّا بجسمٍ [568] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تَيميَّة (2/11). .
وقد نقَل أبو الحَسنِ الأشعَريُّ إجماعَهم على ذلك في كلامٍ طويلٍ، ومنه: (ليس بجسمٍ، ولا شبحٍ، ولا صورةٍ...، ولا شخصٍ، ولا جوهَرٍ، ولا عَرَضٍ...، ولا يتحرَّكُ ولا يسكُنُ، ولا يتبعَّضُ، وليس بذي أبعاضٍ وأجزاءٍ، وجوارِحَ وأعضاءٍ، وليس بذي جهاتٍ، ولا بذي يمينٍ وشِمالٍ، وأمامٍ وخَلفٍ، وفَوقٍ وتحتٍ، ولا يُحيطُ به مكانٌ، ولا يجري عليه زمانٌ، ولا تجوزُ عليه المماسَّةُ، ولا العُزلةُ، ولا الحُلولُ في الأماكِنِ، ولا يوصَفُ بشيءٍ مِن صفاتِ الخَلقِ الدَّالَّةِ على حُدوثِهم، ولا يوصَفُ بأنَّه مُتناهٍ، ولا يوصَفُ بمساحةٍ ولا ذَهابٍ في الجهاتِ ...) [569] ((مقالات الإسلاميين)) (1/235). .
والمُعتَزِلةُ أيضًا يقولونَ بأنَّ اللهَ لا تحُلُّه الحوادِثُ.
وحقيقةُ قولِهم أنْ ليس للهِ تعالى فِعلٌ اختِياريٌّ يقومُ به، ولا له كلامٌ ولا فِعلٌ يقومُ به يتعلَّقُ بمشيئتِه وقُدرتِه، وأنَّه لا يقدِرُ على استِواءٍ، أو نُزولٍ، أو إتيانٍ، أو مجيءٍ، وأنَّ المخلوقاتِ التي خلَقها لم يكنْ منه عندَ خَلقِها فِعلٌ أصلًا، بل عَينُ المخلوقاتِ هي الفِعلُ، ليس هناك فِعلٌ ومفعولٌ، وخَلقٌ ومخلوقٌ، بل المخلوقُ عَينُ الخَلقِ، والمفعولُ عَينُ الفِعلِ، ونحوُ ذلك [570] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تَيميَّة (2/12). .
والمُلاحَظُ أنَّ حُجَّتَهم على نَفيِ قيامِ الأفعالِ به تعالى مِن جنسِ حُجَّتِهم على نَفيِ قيامِ الصِّفاتِ كُلِّها به جلَّ وعلا؛ فهم كالجَهميَّةِ يُساوونَ في النَّفيِ بَينَ هذا وهذا، وليس لهم حُجَّةٌ تختصُّ بنَفسِ قيامِ الحوادِثِ [571] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تَيميَّة (ص: 70). .
ومَن ينفي قيامَ الصِّفاتِ باللهِ عزَّ وجلَّ بحُجَّةٍ ما ينفي قيامَ الفِعلِ به تعالى بتلك الحُجَّةِ مِن بابِ أَولى.
وهذه الحُجَّةُ هي دليلُ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ كما تقدَّم بيانُ ذلك:
1- إذ الصِّفاتُ كُلُّها أعراضٌ وأفعالٌ حادِثةٌ عندَ المُعتَزِلةِ.
2- لا تقومُ إلَّا بجسمٍ.
3- الأجسامُ مُحدَثةٌ.
4- لو قامت به تعالى الصِّفاتُ لكان جسمًا.
5- لو قامت به، وهي حوادِثُ -بزَعمِهم- لم يخْلُ منها.
6- ما لا يخلو مِن الحوادِثِ فهو حادِثٌ [572] يُنظر: ((منهاج الكرامة)) للحلي (ص: 81). .
لذلك قالوا: لا تقومُ باللهِ الأعراضُ ولا الحوادِثُ؛ لأنَّها لو قامت به لوجَب أن يكونَ تعالى جسمًا، واللهُ ليس بجسمٍ، فأظهَروا في الإسلامِ نَفيَ الصِّفاتِ والأفعالِ، وسَمَّوا ذلك تقديسًا للهِ عن الأعراضِ، وتنزيهًا له عن حُلولِ الحوادِثِ بذاتِه [573] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 88)، ((الصفدية)) (1/128)، ((تفسير سورة الإخلاص)) (ص: 151)، ((مجموع الفتاوى)) (5/290، 6/35، 12/315، 17/299)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/1196، 5/245)، ((منهاج السنة النبوية)) (2/97، 107)، ((الرسالة التدمرية)) (ص: 134)، ((الفتاوى المصرية)) (6/443) جميعهُا لابنِ تَيميَّة. .
فلا يقومُ باللهِ تعالى شيءٌ مِن الصِّفاتِ الفِعليَّةِ ولا غَيرِها عندَ المُعتَزِلةِ، بل كُلُّ ما يُضافُ إليه جلَّ وعلا عندَهم فإنَّما يعودُ معناه إلى أمرٍ مخلوقٍ مُنفصِلٍ عنه [574] يُنظر: ((الفتاوى المصرية)) لابن تَيميَّة (6/438). .
إذ هم يجعَلونَ مُقتضى الصِّفةِ التي أضافوها إلى اللهِ تعالى مفعولًا مُنفصِلًا عن اللهِ، لا يقومُ بذاتِه سُبحانَه.
ويتَّضحُ ذلك في صفةِ الخَلقِ؛ فقد فرُّوا مِن إثباتِ قيامِها باللهِ؛ لئلَّا يكونَ اللهُ محَلًّا للحوادِثِ، أو جسمًا بزَعمِهم، وقالوا: إنَّ الخَلقَ هو المخلوقُ [575] يُنظر: ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) للحر العاملي (ص: 55)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (16/374). .
وقد خالَفهم في ذلك بعضُ المُعتَزِلةِ، والخلافُ لفظيٌّ؛ إذ الكُلُّ ينفي قيامَ هذه الصِّفةِ باللهِ تعالى، وممَّن خالَفهم:
1- مَعمَرُ بنُ عبَّادٍ السُّلَميُّ، الذي قال بأنَّ الخَلقَ غَيرُ المخلوقِ، وجعَل الخَلقَ معنًى قائِمًا بالمخلوقِ، أو معانيَ مُتسلسِلةً، ولم يجعلْه قائِمًا بالخالِقِ سُبحانَه؛ فِرارًا مِن قيامِ الحوادِثِ باللهِ تعالى -بزَعمِه [576] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 68)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (16/374). .
2- أبو الهُذَيلِ العلَّافُ، الذي جعل الخَلقَ لا في محَلٍّ؛ فقال: إنَّ قولَ اللهِ تعالى: "كُنْ" لا في محَلٍّ، وهذا فِرارٌ منه عن قيامِ الحوادِثِ باللهِ -بزَعمِه [577] يُنظر: ((فرق وطبقات المُعتزِلة)) للنشار (ص: 192). ويُنظر أيضًا: ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 70)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 51)، ((البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان)) للسكسكي (ص: 54)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (16/374). .
وعندَ التَّأمُّلِ يبدو أنَّ الخلافَ بَينَ المُعتَزِلةِ في هذه المسألةِ خلافٌ لفظيٌّ؛ إذ الكُلُّ ينفي قيامَ هذه الصِّفةِ باللهِ تعالى.
وقد تأثَّر ابنُ كُلَّابٍ بجُمهورِ المُعتَزِلةِ، فقال مِثلَهم بأنَّ الخَلقَ هو المخلوقُ، والفِعلَ هو المفعولُ، وجعَل مُقتضى الصِّفةِ مفعولًا مُنفصِلًا عن اللهِ، لا يقومُ بذاتِه سُبحانَه.
أمَّا في صفةِ الكلامِ فقد نفَت المُعتَزِلةُ قيامَ الكلامِ باللهِ تعالى مُطلَقًا؛ قديمِ النَّوعِ منه، وحادِثِ الآحادِ، وقد بنَوا ذلك على قولِهم: (الرَّبُّ لا تقومُ به صفةٌ)؛ لأنَّ ذلك يستلزِمُ التَّجسيمَ بزَعمِهم؛ إذ الصِّفةُ عَرَضٌ، والعَرَضُ لا يقومُ إلَّا بجسمٍ، والجسمُ لا يخلو مِن الحوادِثِ، وما لا يخلو مِن الحوادِثِ فهو حادِثٌ [578] يُنظر: ((جامع الرسائل)) (2/7)، ((مجموع الفتاوى)) (12/315) كلاهما لابن تَيميَّة. .
والحوادِثُ: هي جُملةٌ مِن الصِّفاتِ التي يُسمُّونَها: الأعراضَ، فلو قام به جلَّ وعلا كلامٌ مُتعلِّقٌ بمشيئتِه وقُدرتِه لقامت به الحوادِثُ التي هي جُملةٌ مِن الأعراضِ، فيكونُ جسمًا محَلًّا للحوادِثِ على حدِّ زَعمِهم، ويَبطُلُ الدَّليلُ الذي استدلُّوا به على حُدوثِ العالَمِ [579] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/275)، ((منهاج السنة النبوية)) (2/107)، ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (12/315)، ((تفسير سورة الإخلاص)) (ص: 152)، ((مجموع الفتاوى)) (17/299) كلها لابن تَيميَّة. .
لذلك فسَّروا تكليمَ اللهِ تبارَك وتعالى لموسى عليه السَّلامُ بأنَّه خلَق كلامًا في غَيرِه، ليس هو صفةً قائِمةً به [580] يُنظر: ((الكشاف)) للزمخشري (2/88). ، فتكلَّم بدلًا عنه، فقالوا بحُدوثِ كلامِه، تقدَّس عن قولِهم وتعالى عُلوًّا كبيرًا.
قال عبدُ الجبَّارِ: (الذي يدُلُّ على حُدوثِ كلامِه الذي ثبَت أنَّه كلامٌ له: أنَّ الكلامَ على ما قدَّمْناه لا يكونُ إلَّا حروفًا منظومةً، وأصواتًا مُقطَّعةً، وقد ثبَت فيما هذه حالُه أنَّه مُحدَثٌ؛ لجوازِ العَدمِ عليه، على ما بيَّناه في حُدوثِ الأعراضِ) [581] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (7/84)، ((المحيط بالتكليف)) (ص: 309). .
ولمَّا كان كلامُ اللهِ تعالى مخلوقًا عندَهم لزِم أن يكونَ القرآنُ الكريمُ مخلوقًا؛ لأنَّه مِن كلامِ اللهِ سُبحانَه.
فلزِمهم إذًا أن يقولوا: (إنَّ القرآنَ أو غَيرَه مِن كلامِ اللهِ مخلوقٌ مُنفصِلٌ بائِنٌ عنه؛ فإنَّه لو كان له كلامٌ قديمٌ، أو كلامٌ غَيرُ مخلوقٍ، لزِم قِدَمُ العالَمِ على الأصلِ الذي أصَّلوه؛ لأنَّ الكلامَ قد عرَف العُقلاءُ أنَّه إنَّما يكونُ بقُدرةِ المُتكلِّمِ ومشيئتِه) [582] ((شرح حديث النزول)) لابن تَيميَّة (169). .
الخُلاصةُ:
إنَّ شُبَهَ المُعتَزِلةِ في تعطيلِ اللهِ تعالى عن صفاتِه العُلا بالاستِنادِ إلى دليلِ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ، تنحصِرُ في أمرَينِ كأسلافِهم مِن الجَهميَّةِ:
أوَّلُهما: قولُهم: إنَّ اللهَ تعالى ليس بجسمٍ؛ لأنَّ الأجسامَ مُتماثِلةٌ، وهي مُحدَثةٌ على حدِّ زَعمِهم.
ثانيهما: قولُهم: لا تقومُ باللهِ تعالى الصِّفاتُ ولا الأفعالُ؛ لأنَّ المعقولَ مِن الصِّفاتِ والأفعالِ أعراضٌ حادِثةٌ قائِمةٌ بجسمٍ، فلو قامت به الصِّفاتُ لكان جسمًا، واللهُ ليس بجسمٍ كما قالوا.
ولو قامت به الصِّفاتُ -وهي حوادِثُ بزَعمِهم- لكان محَلًّا لها، وما لا يخلو مِن الحوادِثِ فهو حادِثٌ.

انظر أيضا: