موسوعة الفرق

المسألةُ الأولى: دليلُ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ في التَّقريراتِ الاعتِزاليَّةِ


تقدَّم الحديثُ عن دليلِ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ بصفةٍ عامَّةٍ، وسوف يُشرَحُ هذا الدَّليلُ بصفةٍ خاصَّةٍ عندَ فِرقةِ المُعتَزِلةِ، وبيانُ ما يتعلَّقُ به، ومُقدِّماتُه وما يستنِدُ إليه، وغَيرُ ذلك.
يُعتبَرُ دليلُ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ المسلَكَ المشهورَ للمُعتَزِلةِ، وهو عندَهم أشهَرُ مِن دليلِ التَّركيبِ [522] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تَيميَّة (1/301). .
وقد تلقَّوه عن أسلافِهم الجَهميَّةِ [523] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (14/348). ، وهُم والجَهميَّةُ أئمَّةُ هذه الطَّريِق؛ فالشُّبهةُ كُلُّها جَهميَّةٌ مُعتزليَّةٌ محضةٌ، كما نصَّ على ذلك ابنُ تيميَّةَ [524] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/344) (12/140، 592)، ((منهاج السنة النبوية)) (1/303)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/222)، ((الصفدية)) (2/41)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/196، 7/223) كلها لابن تَيميَّة. .
إنَّ المُعتَزِلةَ يرَونَ أنَّ الدَّلالةَ المُعتبَرةَ في إثباتِ وُجودِ اللهِ هي (حُدوثُ العالَمِ)؛ فإذا كان القِدَمُ صفةَ ذاتٍ للهِ وحدَه يختصُّ بها، ولا يشارِكُه فيها غَيرُه إذًا يكونُ العالَمُ -بكُلِّ ما فيه مِن أجسامٍ- مُحدَثًا [525] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 130). .
كما أنَّ الحُدوثَ يتضمَّنُ الخَلقَ؛ فإذا كان العالَمُ مخلوقًا للهِ فهو بالضَّرورةِ -بكُلِّ ما فيه مِن أجسامٍ- مُحدَثٌ [526] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 130). .
والمُعتَزِلةُ استدلُّوا على حُدوثِ العالَمِ بحُدوثِ الأجسامِ والأعراضِ، ويستنِدُ مذهَبُهم إلى:
أوَّلًا: مُقدِّمةٌ كُبرى
مُفادُها: أنَّ ما لا ينفكُّ عن الحوادِثِ فهو حادِثٌ.
ثانيًا: مُقدِّماتٌ ثانويَّةٌ هي
1- الأجسامُ لا تنفكُّ عن الأعراضِ.
2- الأعراضُ لازِمةٌ للأجسامِ (فكما أنَّ الأجسامَ لا توجَدُ مُعرَّاةً عن الأعراضِ، كذلك الأعراضُ تفتقِرُ إلى الأجسامِ).
3- الأعراضُ حادِثةٌ.
ثالثًا: نتيجةٌ
مُفادُها: أنَّ الأجسامَ حادِثةٌ.
وأوَّلُ مَن سلَك هذه الطَّريقةَ مِن المُعتَزِلةِ واستدلَّ بها على حُدوثِ الأجسامِ: أبو الهُذَيلِ العلَّافُ [527] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (3/366)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (6/35)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (3/396)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/413)، ((الأعلام)) للزِّرِكْلي (7/131)، ((معجم المؤلفين)) لكحالة (2/91). ؛ فزعَم أنَّ الأجسامَ لم تَنفكَّ مِن الحوادِثِ، ولم تتقدَّمْها، وما لم يخْلُ مِن المُحدَثِ ولم يتقدَّمْه يجِبُ أن يكونَ مُحدَثًا مِثلَه [528] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 95)، ((أبو الهذيل العلاف)) للغرابي (ص: 52)، ((في علم الكلام)) لصبحي (1/339)، ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (1/397). .
وطريقتُه الاستِدلاليَّةُ هذه مبنيَّةٌ على دعاوى أربعٍ:
الأولى: الأجسامُ لا تَنفكُّ عن الأعراضِ والأكوانِ (الاجتِماعِ والافتِراقِ، والحركةِ والسُّكونِ).
الثَّانيةُ: الأعراضُ زائِلةٌ، والأكوانُ مُتغيِّرةٌ، وما كان زائِلًا أو مُتغيِّرًا فهو حادِثٌ.
الثَّالثةُ: كُلُّ ما لا يَنفكُّ عن الحوادِثِ ولا يتقدَّمُها فهو حادِثٌ.
الرَّابعةُ: الأجسامُ حادِثةٌ؛ لأنَّها لم تَنفكَّ عن الحوادِثِ ولم تتقدَّمْها [529] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 95). .
وهذه الدعاوى مُرتَّبةٌ كما ذكَر القاضي عبدُ الجبَّارِ: (فالأولى يجِبُ أن تكونَ متقدِّمةً، والأخيرةُ يجِبُ أن تكونَ مُتأخِّرةً، والدَّعوَيانِ اللَّتانِ هما في الوسَطِ لا ترتيبَ فيهما، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الأولى يجِبُ تقديمُها؛ لأنَّها كلامٌ في إثباتِ هذه المعاني، وما لم نعلَمْها لا يُمكِنُنا وَصفُها لا بالحُدوثِ ولا بالقِدَمِ، كما أنَّا إذا لم نعلَمْ زيدًا لا يُمكِنُنا وَصفُه بأنَّه طويلٌ ولا بأنَّه أسوَدُ، وأمَّا الأخيرةُ فإنَّما وجَب تأخيرُها؛ لأنَّها كلامٌ في أنَّ الجسمَ إذا لم ينفكَّ مِن المُحدَثِ ولم يتقدَّمْه وجَب حُدوثُه مِثلَه، وما لم تثبُتِ الدَّعاوى الثَّلاثُ مِن قَبلُ فلا معنَى لهذا الكلامِ، وأمَّا اللَّتانِ هما في الوسَطِ فلا ترتيبَ فيهما؛ لأنَّهما كلامٌ في أوصافِ هذه المعاني، ومتى عرفْناها إن شِئْنا وَصفْناها أوَّلًا بالحُدوثِ، وإن شِئْنا وَصفْناها بأنَّ الجسمَ لم يخْلُ منها) [530] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 96). .
فالدَّعوى الأولى هي الأساسُ في هذه المسألةِ، وعليها بُنِيَت الدَّعوَيانِ اللَّاحِقتانِ، وأمَّا الأخيرةُ فهي نتيجةٌ مُترتِّبةٌ على الدَّعاوى السَّابِقةِ.
وقد حرَّر عبدُ الجبَّارِ هذه الدَّعاوى، وحاوَل أن يُثبِتَ صحَّةَ كُلِّ واحِدةٍ منها [531] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 96). .
ففي الدَّعوى الأولى: وهي أنَّ الأجسامَ لا تنفكُّ عن الأكوانِ الأربعةِ: الاجتِماعِ والافتِراقِ، والحركةِ والسُّكونِ: بيَّن عبدُ الجبَّارِ أنَّ الجسمَ حصَل مُجتمِعًا في حالٍ، وكان يجوزُ أن يبقى مُفترِقًا، فلا بُدَّ له مِن أمرٍ ثانٍ خصَّص كونَه مُجتمِعًا، وإلَّا لم يكنْ حُصولُه مُجتمِعًا بأولى مِن حُصولِه مُفترِقًا [532] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 98). .
وتصوَّر اعتراضًا مُفادُه: لِمَ لا يجوزُ أن يكونَ الجسمُ مُجتمِعًا لذاتِه مِن غَيرِ أمرٍ ثانٍ مُخصِّصٍ؟ ورَدَّ عليه بقولِه: (قُلْنا: لأنَّه لو كان كذلك لوجَب أن يكونَ مُجتمِعًا أبدًا، ولا يكونَ مُفترِقًا أصلًا، ولأنَّه لو كان كذلك لوجَب أن يكونَ كُلُّ جُزءٍ فيه مُجتمِعًا؛ لأنَّ صفةَ الذَّاتِ ترجِعُ إلى الآحادِ والأفرادِ دونَ الجُملِ، ولأنَّه لو كان كذلك لوجَب إذا افترَق أن يكونَ مُفترِقًا لذاتِه، وأيضًا فكان يُؤدِّي إلى أن يكونَ مُجتمِعًا على قَصدِنا مُفترِقًا دَفعةً واحِدةً، وذلك مُحالُ، ولأنَّه لو كان كذلك لكان يجِبُ ألَّا يقِفَ كونُه مُجتمِعًا على قَصدِنا ودواعينا، والمعلومُ خلافُه، ولأنَّه لو كان كذلك لوجَب في الأجسامِ كُلِّها أن تكونَ مُجتمِعةً؛ لأنَّها مُتماثِلةٌ، والاشتِراكُ في صفةٍ مِن صفاتِ الذَّاتِ يوجِبُ الاشتِراكَ في سائِرِ صفاتِ الذَّاتِ) [533] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 98). .
ثُمَّ تصوَّر عبدُ الجبَّارِ اعتِراضاتٍ أخرى يُمكِنُ أن تُثارَ ضدَّ هذه الدَّعوى، وردَّ عليها ردودًا عديدةً، وانتهى مِن هذا التَّفنيدِ الطَّويلِ المُتشعِّبِ إلى إثباتِ الأكوانِ الأربعةِ: الاجتِماعِ والافتِراقِ، والحركةِ والسُّكونِ [534] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 99). .
وفي الدَّعوى الثَّانيةِ، وهي إثباتُ حُدوثِ الأعراضِ: استدلَّ عبدُ الجبَّارِ على دعواه "حُدوثِ الأعراضِ": بأنَّ العَرَضَ يجوزُ عليه العَدمُ، في حينِ أنَّ القديمَ لا يجوزُ أن يُعدَمَ، والعَرَضُ لا يجوزُ أن يكونَ قديمًا، وإذا لم يكنْ قديمًا وجَب أن يكونَ مُحدَثًا؛ لأنَّ الموجودَ يتردَّدُ بَينَ هذَينِ الوَصفَينِ، فإذا لم يكنْ على أحدِهما كان على الآخَرِ لا محالةَ [535] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 104). .
وقد بنى كلامَه هذا على أصلَينِ:
الأصلُ الأوَّلُ: أنَّ العَرَضَ يجوزُ عليه العَدمُ.
الأصلُ الثَّاني: أنَّ القديمَ لا يجوزُ عليه العَدمُ.
وأراد أن يُدلِّل بهذَينِ الأصلَينِ على حُدوثِ العَرَضِ؛ لجوازِ العَدمِ عليه، وانتِفاءِ العَدمِ عن القديمِ.
وقد برهَن على هذَينِ الأصلَينِ بما يلي:
أمَّا الأصلُ الأوَّلُ، وهو قولُه: (العَرَضُ يجوزُ عليه العَدمُ)
فالدَّليلُ عليه -كما ذكَر عبدُ الجبَّارِ- أنَّ الجسمَ المُجتمِعَ إذا افترَق فما كان فيه مِن الاجتِماعِ لا يخلو:
- إمَّا أن يكونَ باقيًا فيه كما كان.
- أو زائِلًا عنه.
ومُحالٌ أن يكونَ باقيًا فيه كما كان؛ لحصولِ الافتِراقِ، فبحصولِه زال الاجتِماعُ، وإذا كانَ زائِلًا فلا يخلو:
- إمَّا أن يكونَ زائِلًا بطريقةِ الانتِقالِ.
- وإمَّا أن يكونَ زائِلًا بطريقةِ العَدمِ.
ولا يجوزُ أن يكونَ زائِلًا بطريقةِ الانتِقالِ؛ لأنَّ الانتِقالَ مُحالٌ على الأعراضِ؛ فالعَرَضُ يُفارِقُ الجوهَرَ تمامًا، لا ينتقِلُ منه إلى آخَرَ.
فلم يبقَ إلَّا أن يكونَ زائِلًا بطريقةِ العَدمِ [536] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (104). .
وأمَّا الأصلُ الثَّاني الذي ذكَره عبدُ الجبَّارِ، وهو قولُه: (القديمُ لا يجوزُ عليه العَدمُ)
فالدَّليلُ عليه -كما زعَم-: أنَّ القديمَ قديمٌ لنَفسِه، والموصوفُ بصفةٍ مِن صفاتِ النَّفسِ لا يجوزُ خُروجُه عنها بحالٍ مِن الأحوالِ [537] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 107). .
فهذه الدَّلالةُ إذًا مبنيَّةٌ على هذَينِ الأصلَينِ:
الأصلُ الأوَّلُ: أنَّ القديمَ قديمٌ لنَفسِه
لأنَّه لو لم يكنْ كذلك -على حدِّ قولِ عبدِ الجبَّارِ- لكان:
إمَّا قديمًا بالفاعِلِ، وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ مِن حقِّ الفاعِلِ أن يكونَ مُتقدِّمًا على فِعلِه، وما تقدَّمه غَيرُه لا يجوزُ أن يكونَ قديمًا؛ لأنَّ القديمَ هو ما لا أوَّلَ لوُجودِه.
أو قديمًا بالمعنى، وهو مُحالٌ أيضًا؛ لأنَّ المعنى لا يخلو إمَّا أن يكونَ قديمًا أو مُحدَثًا.
ولا يجوزُ أن يكونَ مُحدَثًا؛ لأنَّ العِلَّةَ لا تتراخى عن المعلولِ.
ولو كان المعنى قديمًا لشارَكَت العِلَّةُ معلولَها، فلم تتميَّزْ عنه، ومِن شأنِ العِلَّةِ أن تتميَّزَ مِن المُعلَّلِ، وعَدمُ تميُّزِها يدُلُّ على فسادِها.
فاستحال أن يكونَ المعنى قديمًا.
وانتفى بذلك أن يكونَ القديمُ قديمًا بالمعنى، فلم يبقَ إلَّا أن يُقالَ: إنَّه قديمٌ لنَفسِه [538] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 107). .
الأصلُ الثَّاني: الموصوفُ بصفةٍ مِن صفاتِ النَّفسِ لا يجوزُ خُروجُه عنها بحالٍ مِن الأحوالِ
لأنَّ الذَّاتَ أو النَّفسَ -كما ذكَر عبدُ الجبَّارِ- لمَّا اختصَّت بصفةٍ صارت ذاتًا معلومةً، فلو خرجَت عن هذه الصِّفةِ لخرجَت عن أن تكونَ ذاتًا معلومةً أصلًا، ومِن هنا لم يجُزْ على الموصوفِ بصفةٍ مِن صفاتِ الذَّاتِ خُروجُه عن هذه الصِّفةِ بحالٍ مِن الأحوالِ؛ إذ صفةُ الذَّاتِ معَ الذَّاتِ تجري مجرى صفةِ العِلَّةِ معَ العِلَّةِ؛ فكما أنَّ صفةَ العِلَّةِ تجِبُ ما دامت العِلَّةُ، فكذلك صفةُ الذَّاتِ تجِبُ ما دامت الذَّاتُ [539] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 108). .
وغايةُ مُرادِ القاضي عبدِ الجبَّارِ مِن كُلِّ هذا الكلامِ أن يُدلِّلَ على حُدوثِ الأعراضِ، وينفيَ قِدَمَها؛ لأنَّ القِدَمَ باقٍ، والباقي لا ينتفي إلَّا بضِدٍّ، أو ما يجري مجرى الضِّدِّ، فيجِبُ ألَّا ينقضيَ القديمُ أصلًا؛ لأنَّه لا ضدَّ له، ولا ما يجري مجرى الضِّدِّ [540] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 108). .
وكذا الأعراضُ تشتمِلُ على نِسَبِ التَّخالُفِ والتَّماثُلِ والتَّضادِّ؛ إذ يُمكِنُ اجتِماعُ المُتخالِفَينِ، ويُمكِنُ ارتِفاعُهما معَ اتِّحادِ المكانِ والزَّمانِ.
ويُمكِنُ ارتِفاعُ المُتضادَّينِ معًا، لكن لا يُمكِنُ اجتِماعُهما معَ اتِّحادِ الزَّمانِ والمكانِ [541] يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 58). .
وهذه مِن صفاتِ المُحدَثاتِ، والقديمُ لا يجوزُ عليه ذلك [542] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 109). .
وأمَّا الدَّعوى الثَّالثةُ، وهي أنَّ الأجسامَ لا يجوزُ خُلوُّها مِن الأكوانِ التي هي: الاجتِماعُ والافتِراقُ، والحركةُ والسُّكونُ
فقد دلَّل عليها عبدُ الجبَّارِ بما يلي:
1- الجسمُ لو جاز خُلوُّه عن هذه المعاني لجاز أن يخلوَ عنها الآنَ، بأن يبقى على ما كان عليه مِن الخُلوِّ.
قال عبدُ الجبَّارِ: (ألا ترى أنَّ الجسمَ لمَّا صحَّ أن يكونَ مُجتمِعًا أو مُفترِقًا الآنَ صحَّ أن يكونَ مُجتمِعًا أو مُفترِقًا في كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ زمانٍ؟ ولمَّا استحال أن يكونَ مُجتمِعًا مُفترِقَا دَفعةً الآنَ استحال أن يكونَ في كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ زمانٍ؟ ولمَّا وجَب كونُه مُجتمِعًا أو مُفترِقًا الآنَ وجَب ذلك في كُلِّ زمانٍ وفي كُلِّ مكانٍ؟ فوجَب لو جاز خُلوُّه عنها في كُلِّ حالٍ مِن الأحوالِ أن يجوزَ خُلوُّه عنها الآنَ؛ بأن يبقى على ما كان عليه مِن الخُلوِّ، وهذا يوجِبُ لو أخبَرَنا مُخبِرٌ بأنَّ في أقصى بلادِ العالَمِ جسمًا ليس بمُجتمِعٍ ولا مُفترِقٍ ولا مُتحرِّكٍ ولا ساكِنٍ- أن نُصدِّقَه، والعُلومُ خلافُه؛ فثبَت بهذا أنَّ الجسمَ لا يخلو عن الأكوانِ في وقتٍ مِن الأوقاتِ) [543] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 111). .
2- كُلُّ جسمَينِ، إمَّا أن يكونَ بَينَهما مسافةٌ أو لا يكونَ؛ فإن كان بَينَهما مسافةٌ كانا مُفترِقَينِ، وإن لم يكنْ بَينَهما مسافةٌ فهما مُجتمِعانِ؛ فصحَّ أنَّ الجسمَ لم ينفكَّ عن هذه المعاني [544] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 113). .
3- لو خلا الجسمُ عن الاجتِماعِ والافتِراقِ فالسَّابِقُ إليه لا يخلو: إمَّا أن يكونَ الاجتِماعَ أو الافتِراقَ.
فلو قيل: إنَّ الذي سبَق إليه هو الاجتِماعُ، لقُلْنا: كيف يصِحُّ تجميعُ ما لم يكنْ مُفترِقًا مِن قَبلُ؟
وإن قيل: إنَّ السَّابِقُ إليه هو الافتِراقُ، نقولُ: كيف يصِحُّ تفريقُ ما لم يكنْ مُجتمِعًا؟ [545] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 113). .
فدلَّ ذلك على أنَّ الجسمَ لا ينفكُّ عن هذه المعاني.
وأمَّا الدَّعوى الرَّابعةُ، وهي قولُه: الجسمُ إذا لم ينفكَّ عن هذه الحوادِثِ التي هي الاجتِماعُ والافتِراقُ والحركةُ والسُّكونُ، وجَب أن يكونَ مُحدَثًا مِثلَها
فقد دلَّل عبدُ الجبَّارِ عليها: بأنَّ (الجسمَ إذا لم يخْلُ مِن هذه الحوادِثِ ولم يتقدَّمْها وجَب أن يكونَ حظُّه في الوُجودِ كحظِّها، وحظُّ هذه المعاني في الوُجودِ أن تكونَ حادِثةً وكائِنةً بَعدَ أن لم تكنْ؛ فوجَب في الجسمِ أن يكونَ مُحدَثًا أيضًا وكائِنًا بَعدَ أن لم يكنْ، كالتَّوأَمَينِ إذا وُلِدا معًا، وكان لأحدِهما عَشرُ سنينَ؛ فإنَّه يجِبُ أن يكونَ للآخَرِ أيضًا عَشرُ سنينَ) [546] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 113). .
وهذا الدَّليلُ الذي ساقه عبدُ الجبَّارِ المُعتَزِليُّ، والدَّعاوى الأربعُ التي قام عليها، أوَّلُ مَن قال بها أبو الهُذَيلِ العلَّافُ، وهو أوَّلُ مَن سلَك هذا المسلَكَ مِن المُعتَزِلةِ، وعلى مسلَكِه هذا سار المُعتَزِلةُ كُلُّهم [547] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 95). .
وذكَر مُحمَّدُ بنُ الحَسنِ الطُّوسيُّ [548] إمامٌ من أئمَّةِ الرَّافضةِ الاثْنَي عَشريَّة، يُلَقَّبُ بشيخِ الطَّائفةِ، ووافق المُعتزِلةَ في أكثَرِ أصولِهم. تُوُفِّي سنة (460هـ). يُنظر ترجمته في: ((الفهرست)) للنجاشي (ص: 287)، ((رجال الحلي)) (ص: 248)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/135)، ((روضات الجنات)) للخوانساري (6/216)، ((الكنى والألقاب)) لعباس القمي (2/357)، ((تنقيح المقال)) للمامقاني (3/104)، ((الأعلام)) للزِّرِكْلي (6/84). الدَّعاوى الأربعَ التي سبَقه إلى بيانِها أسلافُه مِن المُعتَزِلةِ:
الأولى: أنَّ في الأجسامِ معانيَ غَيرَها، أي: إنَّها لا تنفكُّ عن الأعراضِ والأكوانِ الأربعةِ: الاجتِماعِ والافتِراقِ، والحركةِ والسُّكونِ.
الثَّانيةُ: أنَّ تلك المعانيَ مُحدَثةٌ؛ إذ الأعراضُ زائِلةٌ، والأكوانُ مُتغيِّرةٌ، وما كان كذلك كان حادِثًا.
الثَّالثةُ: أنَّ الجسمَ لم يسبِقْها في الوُجودِ؛ فهو لم يتقدَّمْها، وحالُه أنَّه لا ينفكُّ عنها، ولا يخلو منها.
الرَّابعةُ: أنَّ ما لم يسبِقِ المُحدَثَ يجِبُ أن يكونَ مُحدَثًا؛ فالأجسامُ لم تسبِقِ المعانيَ المُحدَثةَ، فحُكمُها في الحُدوثِ كحُكمِها؛ فالأجسامُ حادِثةٌ [549] يُنظر: ((الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد)) للطوسي (43- 46). .

انظر أيضا: