موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: عَرضٌ ونَقدٌ مُختصَرٌ لبعضِ الشُّبُهاتِ التي احتجَّ بها المُعتَزِلةُ على نَفيِ الصِّفاتِ


كان وراءَ القولِ بنَفيِ الصِّفاتِ عندَ المُعتَزِلةِ عدَّةُ شُبُهاتٍ ودعاوى ظنُّوها أدلَّةً عقليَّةً تدفَعُهم إلى اختِيارِ هذا المذهَبِ الذي ساروا عليه في صفاتِ اللهِ تعالى.
الشُّبهةُ الأولى:
موجَزُ الشُّبهةِ أنَّنا إذا أثبَتْنا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مُتَّصِفٌ بصفةٍ زائِدةٍ على ذاتِه، فإنَّ ذلك يستلزِمُ أن تكونَ هذه الصِّفةُ قديمةً، وهذا يُؤدِّي إلى تعدُّدِ القُدماءِ، وهو مُحالٌ، فلا بُدَّ إذًا أن تكونَ الصِّفةُ التي يتَّصِفُ بها هي عَينَ ذاتِه [467] يُنظر: ((النفي في باب صفات الله عز وجل)) لسعيداني (ص: 561). .
قال أبو الحَسنِ الخيَّاطُ: (إنَّ اللهَ تعالى لو كان عالِمًا بعِلمٍ، فإمَّا أن يكونَ ذلك العِلمُ قديمًا أو يكونَ مُحدَثًا، ولا يُمكِنُ أن يكونَ قديمًا؛ لأنَّ هذا يوجِبُ وُجودَ اثنَينِ قديمَينِ، وهو تعدُّدٌ، وهو قولٌ فاسِدٌ، ولا يُمكِنُ أن يكونَ عِلمًا مُحدَثًا؛ لأنَّه لو كان كذلك يكون قد أحدَثه اللهُ إمَّا في نَفسِه أو في غَيرِه أو لا في محَلٍّ؛ فإن كان أحدَثه اللهُ في نَفسِه أصبَح محَلًّا للحوادِثِ، وما كان محَلًّا للحوادِثِ فهو حادِثٌ، وهذا مُحالٌ، وإذا أحدَثه في غَيرِه كان ذلك الغَيرُ عالِمًا بما حلَّه مِن دونِه، كما أنَّ مَن حلَّه اللَّونُ فهو المُتلوِّنُ به دونَ غَيرِه، ولا يُعقَلُ أن يكونَ أحدَثه لا في محَلٍّ؛ لأنَّ العِلمَ عَرَضٌ لا يقومُ إلَّا في جسمٍ، فلا يبقى إلَّا حالٌ واحِدٌ، وهو أنَّ اللهَ عالِمٌ بذاتِه) [468] ((الانتصار والرد على ابن الرَّاوَنْدي الملحد)) (ص: 82). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ الأولى:
يُقالُ لهم: أمَّا قولُكم: (إنَّ اللهَ تعالى لو كان عالِمًا بعِلمٍ؛ فإمَّا أن يكونَ ذلك العِلمُ قديمًا أو يكونَ مُحدَثًا)، فهذا نُوافِقُكم عليه؛ فإنَّه لا ثالثَ لهذَينِ القِسمَينِ.
وأمَّا قولُكم: (ولا يُمكِنُ أن يكونَ عِلمًا مُحدَثًا) فهذا نُوافِقُكم عليه أيضًا؛ فإنَّ الصِّفةَ ليست حادِثةً بل هي قديمةٌ بقِدَمِ موصوفِها.
بقِي الآنَ قولُكم: (ولا يُمكِنُ أن يكونَ عِلمًا قديمًا؛ لأنَّه يوجِبُ تعدُّدَ القُدَماءِ).
فيقالُ: إنَّ قولَكم هذا فيه إجمالٌ، لا نُجيبُكم عليه حتَّى نعرِفَ مُرادَكم منه؛ إن أردْتُم بقولِكم: (عِلمًا قديمًا) بمعنى القائِمِ بنَفسِه المُستقِلِّ عن موصوفِه؛ فصفةُ العِلمِ ليست قديمةً بهذا الاعتِبارِ، بل هي صفةُ القديمِ.
وإن أردْتُم بقولِكم: (قديمًا) بمعنى أنَّه لا ابتداءَ له، ولم يسبِقْه عَدمٌ مُطلَقٌ، فصفةُ العِلمِ قديمةٌ بقِدَمِ موصوفِها، وإذا كان قِدَمُها تابِعًا لقِدَمِ موصوفِها فليس هناك إذًا تعدُّدُ قُدَماءَ كما تزعُمونَ، بل هناك قديمٌ وصفتُه، ولا يلزَمُ مِن كونِ الصِّفةِ قديمةً لقِدَمِ موصوفِها أن يكونَ هناك تعدُّدٌ، وإلَّا للزِم أن تكونَ صفةُ الإلهِ إلهًا، وصفةُ الإنسانِ إنسانًا [469] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تَيميَّة (2/95). .
وبُطلانُ هذا لا شكَّ فيه عندَ مَن له شيءٌ مِن عقلٍ، وما يُؤدِّي إلى الباطِلِ فهو باطِلٌ، وبذلك يَبطُلُ تعدُّدُ القُدماءِ الذي تزعُمونَه مِن إثباتِ الصِّفاتِ، وعليه فإنَّ شُبهتَكم هذه تنتقِضُ ببُطلانِ إحدى مُقدِّماتِها، وهو قولُكم: (ولا يُمكِنُ أن يكونَ قديمًا ...).
الشُّبهةُ الثَّانيةُ:
قال يحيى بنُ الحُسَينِ -وهو مِن أئمَّةِ الزَّيديَّةِ-: (أمَّا ما ذُكِر مِن العِلمِ فإنَّه لا يخلو مِن أن يكونَ اللهُ العالِمَ بنَفسِه، ويكونَ العِلمُ مِن صِفاتِه في ذاتِه لا صِفتَه لغَيرِه؛ فقد جعَل معَ اللهِ سِواه، ولو كان معَ اللهِ سِواه لكان أحدُهما قديمًا والآخَرُ مُحدَثًا، فيجِبُ على مَن قال بذلك أن يبيِّنَ أيُّهما المُحدِثُ لصاحِبِه، فإن قال: إنَّ العِلمَ أحدَث الخالِقَ، كَفَر، وإن قال: إنَّ اللهَ أحدَث العِلمَ، فقد زعَم أنَّ اللهَ كان غَيرَ عالِمٍ حتَّى أحدَث العِلمَ، ومتى لم يكنِ العِلمُ فضِدُّه لا شكَّ ثابِتٌ، وهو الجَهلُ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا) [470] ((رسائل العدل والتوحيد)) لمجموعة مؤلفين (2/137). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ الثَّانيةِ:
الجوابُ عن هذه الشُّبهةِ مِن وُجوهٍ؛ منها:
الوَجهُ الأوَّلُ: أمَّا قولُكم: (أن يُقالَ: الصِّفةُ عَينُ الذَّاتِ، كالعِلمِ يُقالُ فيه: عَينُ العالِمِ)، فإنَّه يوجِبُ الكثرةَ في الذَّاتِ؛ وذلك لِما يلي:
1- أنَّ هناك فرقًا بَينَ قولِنا: ذاتُه ذاتُه، وبَينَ قولِنا: ذاتُه عِلمُه؛ فإنَّ هذا يوجِبُ التَّغايُرَ، ومِن ثَمَّ يوجِبُ الكثرةَ في الذَّاتِ.
2- أنَّ حقيقةَ العِلمِ مُغايِرةٌ لحقيقةِ القُدرةِ ولحقيقةِ الحياةِ والإرادةِ، فلو كان الكُلُّ عبارةً عن حقيقةِ ذاتِه لزِم القولُ بأنَّ الحقائِقَ الثَّلاثَ حقيقةٌ واحِدةٌ، وذلك باطِلٌ، وأيضًا فإنَّه يوجِبُ الكثرةَ في الذَّاتِ [471] يُنظر: ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 135). ، وهو باطِلٌ، فما يُؤدِّي إليه يكونُ مِثلَه، وبذلك يَبطُلُ الجُزءُ الأوَّلُ مِن الشُّبهةِ.
الوَجهُ الثَّاني: قولُكم: "أو غَيرُها" أي: الذَّاتُ نقولُ: لفظُ (الغَيرِ) مُجمَلٌ إن أُريد به ما هو مُبايِنٌ له تعالى، فلا يدخُلُ عِلمُه وسائِرُ صفاتِه في لفظِ الغَيرِ، كما يدخُلُ في قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حلَف بغَيرِ اللهِ فقد أشرَك )) [472] أخرجه أبو داود (3251) واللَّفظُ له، والترمذي (1535)، وأحمد (6072) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (7814)، وابن تَيميَّة كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189).
وقد ثبَت في السُّنَّةِ جوازُ الحَلِفِ بصفاتِه تعالى، كعزَّتِه وعظَمتِه [473] منها حديثُ: ((ويبقى رَجَلٌ بَينَ الجنَّةِ والنَّارِ، وهو آخِرُ أهلِ النَّارِ دُخولًا الجنَّةَ، مُقبِلٌ بوجهِه قِبَلَ النَّارِ، فيقولُ: يا رَبِّ، اصرِفْ وجهي عن النَّارِ، قد قَشَبني ريحُها، وأحرَقَني ذكاؤُها. فيقولُ: هل عَسَيتَ إن فُعِل ذلك بك أن تسألَ غيرَ ذلك؟ فيقول: لا وعِزَّتِك؛ فيعطي اللهَ ما يشاءُ من عهدٍ وميثاقٍ، فيَصرِفُ اللهُ وَجهَه عن النَّارِ)). أخرجه البُخاريُّ (806)، ومُسلمٌ (182) من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ومنها: (أعوذُ بكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ من شرِّ ما خلَق) أخرجه مسلم (2709) من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فعُلِم أنَّها لا تدخُلُ في مُسمَّى (الغَيرِ) عندَ الإطلاقِ، وإذا أُريد بالغَيرِ أنَّه ليس هو إيَّاه فلا ريبَ أنَّ العِلمَ ليس هو العالِمَ [474] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تَيميَّة (2/433) بتصَرُّفٍ. كما تبيَّن في الرَّدِّ على الجُزءِ الأوَّلِ مِن الشُّبهةِ.
وعلى ذلك فلا نقولُ: الصِّفةُ عَينُ الذَّاتِ -كما تزعُمونَ- لِما فيه مِن اللَّوازِمِ الفاسِدةِ التي سبَق عَرضُ بعضِها؛ وليست الصِّفةُ غَيرَ الذَّاتِ بمعنى: مُبايَنةٍ لها، بل هي صفةُ الذَّاتِ بمعنى أنَّها ليست هي الذَّاتَ، ولا يلزَمُ مِن كونِ الصِّفةِ ليست هي الموصوفَ أن يكونَ معَ اللهِ سِواه؛ لأنَّ الصِّفةَ تابِعةٌ للموصوفِ غَيرُ مُستقِلَّةٍ عنه، كما أنَّها تتبَعُه قِدَمًا وحُدوثًا، وبما أنَّ اللهَ قديمٌ فإنَّ صفاتِه قديمةٌ بقِدَمِه، وبذلك تبطُلُ هذه الشُّبهةُ.
الشُّبهةُ الثَّالثةُ:
قال الرَّازيُّ وهو يحكي شُبُهاتِ المُعتَزِلةِ في نَفيِ الصِّفاتِ، فيذكُرُ عنهم قولَهم: (إنَّ اللهَ تعالى إنَّما كفَّر النَّصارى في قولِه تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73] ؛ فلا يخلو إمَّا أن يُقالَ: إنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم لأنَّهم أثبَتوا ذواتٍ ثلاثةً قديمةً بأنفُسِها، أو لأنَّهم أثبَتوا ذاتًا موصوفةً بصفاتٍ مُتبايِنةٍ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لأنَّ النَّصارى لا يُثبِتونَ ذواتٍ ثلاثةً قديمةً قائِمةً بأنفُسِها، ولمَّا لم يقولوا بذلك استحال أن يُكفِّرَهم اللهُ بسببِ ذلك، ولمَّا بطَل القِسمُ الأوَّلُ ثبَت القِسمُ الثَّاني، وهو أنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم؛ لأنَّهم أثبَتوا ذاتًا موصوفةً بصفاتٍ مُتبايِنةٍ، ولمَّا كفَّر النَّصارى لأجْلِ أنَّهم أثبَتوا صفاتٍ ثلاثةً، فمَن أثبَت الذَّاتَ معَ الصِّفاتِ فقد أثبَت أكثَرَ مِن ثلاثةٍ، وكان كُفرُه أعظَمَ مِن كُفرِ النَّصارى؛ لأنَّه أثبَت أكثَرَ ممَّا أثبَتوا) [475] ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: 159). .
مُناقَشةُ الشُّبهةِ الثَّالثةِ:
يُقالُ لهم: إنَّ استِدلالَكم بهذه الآيةِ باطِلٌ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى إنَّما كفَّر النَّصارى؛ لأنَّهم أثبَتوا صفاتٍ ثلاثةً، هي في الحقيقةِ ذواتٌ بدليلِ اعتِبارِهم إيَّاها آلهةً، ومَن أثبَت كثرةً في الآلهةِ فلا شكَّ في كُفرِه [476] يُنظر: ((التفسير الكبير)) (12/60)، ((الأربعين في أصول الدين)) (165) كلاهما للرَّازي. ، ويدُلُّ على أنَّهم يعتبِرونَها آلهةً قولُه تعالى في آخِرِ الآيةِ: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة: 73] ، فحَصرُه سُبحانَه وتعالى الألوهيَّةَ في واحِدٍ بَعدَ تكفيرِه مَن قال: إنَّ اللهَ ثالِثُ ثلاثةٍ؛ دليلٌ على أنَّ المُرادَ مِن ثلاثةٍ: ثلاثةُ آلهةٍ، وبدليلِ قولِه تعالى: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا [النساء: 171] .
قال القُرطُبيُّ عندَ تفسيرِ هذه الآيةِ: (المعنى: ثلاثةُ آلهةٍ) [477] ((الجامع لأحكام القرآن)) (6/250). .
وقال الرَّازيُّ في ثنايا ردِّه على هذه الشُّبهةِ: (... ألا ترى أنَّهم -أي: النَّصارى- جوَّزوا انتِقالَ أُقْنومِ الكَلِمةِ مِن ذاتِ اللهِ إلى بَدنِ عيسى عليه السَّلامُ؟ والشَّيءُ الذي يكونُ مُستقِلًّا بالانتِقالِ مِن ذاتٍ إلى ذاتٍ أخرى يكونُ مُستقِلًّا بنَفسِه قائِمًا بذاتِه؛ فهُم وإن سمَّوها صفاتٍ فإنَّهم قائِلونَ في الحقيقةِ بكونِها ذواتٍ، ومَن أثبَت كثرةً في الذَّواتِ المُستقِلَّةِ فلا شكَّ في كُفرِه) [478] ((الأربعين في أصول الدين)) (165). .
وعلى ذلك: فإنَّ تكفيرَ اللهِ للنَّصارى ليس لأنَّهم أثبَتوا ثلاثَ صفاتٍ، بل لأنَّهم أثبَتوا ثلاثةَ آلهةٍ، أي ثلاثةَ ذواتٍ ادَّعوا أنَّها آلهةٌ.
وبذلك يَبطُلُ الاستِدلالُ بهذه الآيةِ.

انظر أيضا: