موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابعُ: بيانُ تناقُضِ المُعتَزِلةِ في إثباتِ الأسماءِ ونَفيِ الصِّفاتِ


الكلامُ هنا حَولَ إظهارِ نوعٍ مِن التَّناقُضِ الذي وقَع فيه المُعتَزِلةُ بإثباتِهم أسماءً للهِ تعالى، وفي الوقتِ ذاتِه ينفونَ ما اشتملَت عليه مِن الصِّفاتِ.
لذا فإنَّ مِن الطُّرقِ التي ردَّ بها أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ على المُعتَزِلةِ مذهَبَهم الباطِلَ: بيانَ تناقُضِهم؛ حيثُ إنَّهم أثبَتوا الأسماءَ، ونفَوا الصِّفاتِ، وقد سبَق نَقلُ ابنِ المُرتضى المُعتَزِليِّ عن إجماعِ المُعتَزِلةِ على قولِهم في الصِّفاتِ، فقال: (وأمَّا ما أجمعَت عليه المُعتَزِلةُ فقد أجمَعوا على أنَّ للعالَمِ مُحدِثًا، قديمًا، قادِرًا، عالِمًا، حيًّا، لا لِمعانٍ...) [458] ((المُنْية والأمل)) (ص: 56). .
ولهم في نَفيِ المعاني القائِمةِ بالأسماءِ مسلَكانِ:
الأوَّلُ: مَن قال: العليمُ والقديرُ ونَحوُ ذلك أعلامٌ محضةٌ مُترادِفةٌ، وليست دالَّةً على أوصافٍ أو مَعانٍ قائِمةٍ باللهِ تعالى، وذلك مِثلُ تسميتِك ذاتًا واحِدةً يَزيد، ومُحمَّدًا، وعليًّا، فهذه أعلامٌ خالِصةٌ لا تدُلُّ على صفةٍ لهذه الذَّاتِ المُسمَّاةِ بها [459] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (2/108)، ((التدمرية)) (ص: 18)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (106) كلاهما لابن تَيميَّة، ((التحفة المهدية)) لآل مهدي (ص: 55). .
الثَّاني: مَن قال: إنَّ كُلَّ عَلَمٍ منها مُستقِلٌّ؛ فاللهُ يُسمَّى عليمًا، وقديرًا، وليست هذه الأسماءُ مُترادِفةً، ولكنَّ كُلَّ اسمٍ لا يدُلُّ على صفةٍ عندَهم؛ فالعليمُ لا يدُلُّ على صفةِ العِلمِ، والقديرُ لا يدُلُّ على صفةِ القُدرةِ، وهكذا، فهو في الحقيقةِ مُرادِفٌ للقولِ الأوَّلِ [460] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تَيميَّة (ص: 18)، ((التحفة المهدية)) لآل مهدي (ص: 55). .
وقد كشَف أبو الحَسنِ الأشعَريُّ -وهو الخبيرُ بهم- حقيقةَ قولِهم هذا، فقال: (زعَمَت الجَهميَّةُ -يعني بهم هنا المُعتَزِلةَ- أنَّ اللهَ تعالى لا عِلمَ له، ولا قُدرةَ، ولا حياةَ، ولا سَمعَ، ولا بَصرَ له، وأرادوا أن ينفوا أنَّ اللهَ تعالى عالِمٌ، قادِرٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ؛ فمَنعهم خوفُ السَّيفِ مِن إظهارِهم نَفيَ ذلك، فأتَوا بمعناه؛ لأنَّهم إذا قالوا: لا عِلمَ للهِ ولا قُدرةَ له، فقد قالوا: إنَّه ليس بعالِمٍ ولا قادِرٍ، ووجَب ذلك عليهم، وهذا إنَّما أخذوه عن أهلِ الزَّندقةِ والتَّعطيلِ؛ لأنَّ الزَّنادِقةَ قد قال كثيرٌ منهم: إنَّ اللهَ تعالى ليس بعالِمٍ، ولا قادِرٍ، ولا حيٍّ، ولا سميعٍ، ولا بصيرٍ، فلم تقدِرِ المُعتَزِلةُ أن تُفصِحَ بذلك، فأتَت بمعناه، وقالت: إنَّ اللهَ عالِمٌ، قادِرٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ مِن طريقِ التَّسميةِ، مِن غَيرِ أن يُثبِتوا له حقيقةَ العِلمِ والقُدرةِ والسَّمعِ والبَصرِ) [461] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 143). ويُنظر: ((النبوات)) لابن تَيميَّة (1/262). .
وقد بيَّن أهلُ العِلمِ وَجهَ تناقُضِهم في مذهَبِهم هذا؛ فقال ابنُ تيميَّةَ: (المقصودُ هنا أنَّ المُعتَزِلةَ لمَّا رأَوا الجَهميَّةَ قد نفَوا أسماءَ اللهِ الحُسنى استعظَموا ذلك، وأقرُّوا بالأسماءِ، ولمَّا رأَوا هذه الطَّريقَ توجِبُ نَفيَ الصِّفاتِ نفَوا الصِّفاتِ؛ فصاروا مُتناقِضينَ؛ فإنَّ إثباتَ حيٍّ، عليمٍ، حكيمٍ، سميعٍ، بصيرٍ، بلا حياةٍ، ولا عِلمٍ، ولا قُدرةٍ، ولا حِكمةٍ، ولا سَمعٍ، ولا بَصرٍ: مُكابَرةٌ للعقلِ؛ كإثباتِ مُصلٍّ بلا صلاةٍ، وصائِمٍ بلا صيامٍ، وقائِمٍ بلا قيامٍ، ونَحوِ ذلك مِن الأسماءِ المُشتقَّةِ، كأسماءِ الفاعِلينَ، والصِّفاتِ المعدولةِ عنها) [462] ((النبوات)) (1/265). .
وذكَر ابنُ القيِّمِ أنَّ نُفاةَ الصِّفاتِ يلزَمُهم نَفيُ الأسماءِ مِن جهةٍ أخرى؛ فإنَّ العليمَ والقديرَ، والسَّميعَ، والبصيرَ أسماءٌ تتضمَّنُ ثُبوتَ الصِّفاتِ في اللَّغةِ فيمَن وُصِف بها؛ فاستعمالُها لغَيرِ مَن وُصِف بها استِعمالٌ للاسمِ في غَيرِ ما وُضِع له، فكما انتفَت عنه حقائِقُها فإنَّه تنتفي عنه أسماؤُها؛ فإنَّ الاسمَ المُشتَقَّ تابِعٌ للمُشتَقِّ منه في النَّفيِ والإثباتِ، فإذا انتفَت حقيقةُ الرَّحمةِ والعِلمِ والقُدرةِ والسَّمعِ والبَصرِ انتفَت الأسماءُ المُشتقَّةُ منها عقلًا ولغةً، فيلزَمُ مِن نَفيِ الحقيقةِ أن تنفيَ الصِّفاتِ والاسمَ جميعًا؛ فالمُعتَزِلةُ لا تُقِرُّ بأنَّ الأسماءَ الحقيقيَّةَ تستلزِمُ الصِّفاتِ، ثُمَّ ينفونَ الصِّفاتِ، ويُثبِتونَ الأسماءَ بطريقِ الحقيقةِ كما قالوا في المُتكلِّمِ والمُريدِ [463] يُنظر: ((مختصر الصواعق)) لابن الموصلي (2/343). .
وهناك أوجُهٌ أخرى للرَّدِّ عليهم ذكَرها أهلُ العِلمِ؛ منها ما يلي:
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يُقالَ لهذا المُعتَزِليِّ الذي يقولُ: إنَّه حيٌّ عليمٌ قديرٌ، ويُنكِرُ أن يتَّصِفَ بالحياةِ والعِلمِ والقُدرةِ: لا فَرقَ إذًا بَينَ إثباتِ الأسماءِ وإثباتِ الصِّفاتِ؛ فإنَّك إن قلْتَ: إثباتُ الحياةِ والعِلمِ والقُدرةِ يقتضي تشبيهًا أو تجسيمًا؛ لأنَّا لا نجِدُ في الشَّاهِدِ مُتَّصِفًا بالصِّفاتِ إلَّا ما هو جسمٌ. قيل لك: ولا تجِدُ أيضًا في الشَّاهِدِ ما هو مُسمًّى بأنَّه: حيٌّ عليمٌ قديرٌ، إلَّا ما هو جِسمٌ، فإن نفَيتَ ما نفَيتَ لكونِك لم تجِدْه في الشَّاهِدِ إلَّا للجسمِ فانفِ الأسماءَ أيضًا، بل وكُلَّ شيءٍ؛ لأنَّك لا تجِدُه في الشَّاهِدِ إلَّا للجسمِ.
فكُلُّ ما يحتَجُّ به مَن نفى الصَّفاتِ يصلُحُ أيضًا أن يحتَجَّ به نافي الأسماءِ الحُسنى؛ فما كان جوابًا لذلك كان جوابًا لمُثبِتي الصِّفاتِ [464] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تَيميَّة (ص: 35)، ((التحفة المهدية)) لآل مهدي (ص: 89)، ((تقريب التدمرية)) لابن عثيمين (ص: 29). .
الوَجهُ الثَّاني: أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى وصَف أسماءَه بأنَّها حُسنى، وأمَرنا بدُعائِه بها، فقال: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] ، وهذا يقتضي أن تكونَ دالَّةً على معانٍ عظيمةٍ تكونُ وسيلةً لنا في دُعائِنا، ولا يصِحُّ خُلوُّها عنها، ولو كانت أعلامًا محضةً لكانت غَيرَ دالَّةٍ على معنًى سِوى تعيينِ المُسمَّى فضلًا عن أن تكونَ حُسنى، ووسيلةً في الدُّعاءِ [465] يُنظر: ((تقريب التدمرية)) لابن عثيمين (ص: 29). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ القولَ بأنَّ أسماءَ اللهِ أعلامٌ محضةٌ مُترادِفةٌ لا تدُلُّ إلَّا على ذاتِ اللهِ فقط: مِن اللَّغوِ والعَبثِ الذي يُنزَّهُ اللهُ تعالى عنه؛ ألا ترى أنَّ اللهَ تعالى يُسمِّي نَفسَه باسمَينِ أو أكثَرَ في موضِعٍ واحِدٍ، كقولِه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر: 23] ، فلو كانت الأسماءُ مُترادفةً ترادُفًا محضًا لكان ذِكرُها هنا مُجتمِعةً لغوًا مِن القولِ عديمَ الفائِدةِ [466] يُنظر: ((تقريب التدمرية)) لابن عثيمين (ص: 30). ويُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 107) لابن تَيميَّة، ((جلاء الأفهام)) (ص: 92)، ((الصواعق المرسلة)) (3/938) كلاهما لابن القيم. .

انظر أيضا: