موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: موقِفُ المُعتَزِلةِ مِن الصِّفاتِ عامَّةً


بنى المُعتَزِلةُ مذهَبَهم في الصِّفاتِ على النَّفيِ، فكانوا ينفونَ الصِّفاتِ الإلهيَّةَ، وكان هذا في جملةِ ما أخَذوه مِن الجَهميَّةِ، على اختِلافٍ بَينَهم في طريقةِ نَفيِها [441] يُنظر: ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) للمعتق (ص: 83، 100، 101). .
لقد وردَت في القرآنِ الكريمِ آياتٌ قرآنيَّةٌ تُثبِتُ صِفاتِ اللهِ تعالى؛ كصِفةِ القُدرةِ، والعِلمِ، والإرادةِ. وكُلُّ اسمٍ مِن أسمائِه تعالى يدُلُّ على صِفةٍ مِن صفاتِه. وقد كان الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم ومَن أتى بعدَهم يعتقِدونَ هذه الصِّفاتِ مِن غَيرِ أن يسألوا عن كُنهِها أو كيفيَّتِها، ودليلُ ذلك: أنَّه لم يَرِدْ مِن طريقٍ صحيحٍ ولا سقيمٍ عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم -على اختِلافِ طَبَقاتِهم، وكثرةِ عددِهم- أنَّهم سألوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن معنى شيءٍ ممَّا وصَف الرَّبُّ به نَفسَه في كتابِه، أو على لِسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل كُلُّهم فهِموا معنى ذلك وسكَتوا [442] يُنظر: ((المواعظ والاعتبار)) للمَقْريزي (4/181). .
ثُمَّ جاء الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ، فكان أوَّلَ مَن تكلَّم في الصِّفاتِ الإلهيَّةِ في الإسلامِ؛ فإنَّه قد نفاها وقال بخَلقِ القرآنِ [443] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/263). ، وعن الجَعدِ أخَذ الجَهمُ بنُ صَفوانَ هذه المقالةَ ونشَرها في خُراسانَ [444] يُنظر: ((سرح العيون)) لابن نُباتة (ص: 293)، ((المواعظ والاعتبار)) للمَقْريزي (4/182)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/79). .
وقد أنكَر المُسلِمونَ هذا القولَ، ونظَروا إليه بوَصفِه بِدعةً، فضلَّلوا الجَهميَّةَ، وحذَّروا النَّاسَ منهم، وذمُّوا مَن جالَسهم، وكتَبوا في الرَّدِّ عليهم [445] يُنظر: ((المواعظ والاعتبار)) المَقْريزي (4/182). .
إنَّ الجَهميَّةَ هي أوَّلُ فِرقةٍ أحدثَت القولَ بنَفيِ الصِّفاتِ، ومِن جملةِ الأمورِ التي أخذَتها المُعتَزِلةُ عن الجَهميَّةِ نَفيُ الصِّفاتِ، والسَّلفُ كانوا يُطلِقونَ لقبَ "الجَهميَّةِ" على المُعتَزِلةِ، وكانوا يرُدُّونَ على أقوالِهم في كُتبِهم الموسومةِ بـ "الرَّدِّ على الجَهميَّةِ".
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ السَّلفَ يُسمُّونَ مَن قال بخَلقِه -أي: القرآنِ-، ونَفيِ الصِّفاتِ والرُّؤيةِ: جَهميًّا) [446] ((مجموع الفتاوى)) (15/221). ، وهذه هي أسسُ مذهَبِ المُعتَزِلةِ في هذا البابِ.
وكانت بداياتُ الخوضِ في نَفيِ الصِّفاتِ عندَ المُعتَزِلةِ على يدِ رأسِهم الأوَّلِ واصِلِ بنِ عطاءٍ؛ فإنَّه كان يقولُ في إشاراتٍ منه إلى ذلك: (إنَّ مَن أثبَت للهِ معنًى وصفةً قديمةً فقد أثبَت إلهَينِ) [447] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/40). .
ويرى الشَّهْرَسْتانيُّ أنَّ القولَ بنَفيِ الصِّفاتِ الذي قال به واصِلُ بنُ عطاءٍ لم يبلُغْ مرحلةَ الاكتِمالِ بشُبهاتِه وحُججِه حتَّى يكونَ مقالةً مُختصَّةً بالمُعتَزِلةِ، وهو كما قال: (كان واصِلُ بنُ عطاءٍ يُشرِّعُ فيها على قولٍ ظاهِرٍ، وهو الاتِّفاقُ على استِحالةِ وُجودِ إلهَينِ قديمَينِ أزليَّينِ، قال: ومَن أثبَت معنى صفةٍ قديمةٍ فقد ‌أثبَت ‌إلهَينِ) [448] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/40). .
وليس ببعيدٍ أن يكونَ قولُه هذا هو النَّواةَ الأولى التي انطلَق منها تَبنِّي المُعتَزِلةِ لمذهَبِ الجَهميَّةِ في نَفيِ الصِّفاتِ، وتطويرُه على يدِ مَن جاء بَعدَ واصِلٍ مِن أئمَّتِهم الذين عاصَروا حركةَ التَّرجمةِ لكُتبِ الفلسفةِ القديمةِ، واختلاطَ المُسلِمينَ بالشُّعوبِ المُجاوِرةِ لهم بَعدَ توسُّعِ الفَتحِ الإسلاميِّ، الذين كان لهم اشتِغالٌ كبيرٌ بعُلومِ الأوائِلِ، وقد تأثَّر المُعتَزِلةُ بهؤلاء الفلاسِفةِ، واقتبَسوا عنهم مذهَبَهم في الصِّفاتِ [449] يُنظر: ((المنقذ من الضلال)) للغزالي (ص: 107)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/51)، ((نهاية الإقدام)) (ص: 91) كلاهما للشَّهْرَسْتانيِّ، ((الرسالة المدنية، ضمن مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (6/359). ، وكان الفلاسِفةُ يرَونَ أنَّ اللهَ تعالى واجِبُ الوُجودِ بذاتِه، وأنَّه واحِدٌ مِن كُلِّ وَجهٍ [450] يُنظر: ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 90). ؛ فنَفَوا صفاتِ الباري تعالى زائِدةً على الذَّاتِ، وقالوا: إنَّه تعالى عالِمٌ بالذَّاتِ لا يعلَمُ زائِدًا على ذاتِه [451] يُنظر: ((المنقذ من الضلال)) للغزالي (ص: 107)، ((نهاية الإقدام)) للشَّهْرَسْتانيِّ (ص: 100). .
فهذا أفْلُوطينُ الذي تأثَّر به المُسلِمونَ أكثَرَ مِن تأثُّرِهم بغَيرِه مِن فلاسِفةِ اليونانِ، يتحدَّثُ عن تعالِي اللهِ تعالى، ويمنَعُ أن نُطلِقَ عليه صفةً مِن الصِّفاتِ؛ لأنَّنا بذلك نُشبِّهُه تعالى بالأفرادِ، فلا نقولُ: إنَّ للهَ تعالى عِلمًا؛ لأنَّه هو العِلمُ، وليس يحتاجُ تعالى إلى بَصرٍ؛ لأنَّه ذاتُه النُّورُ الذي يُبصِرُ به النَّاسُ [452] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 63). .
ولذا، فإنَّ المُعتَزِلةَ الذين جاؤوا بَعدَ واصِلٍ أخَذوا بتأثيرِ الفلسفةِ يُفسِّرونَ قولَه، ويُضيفونَ إليه بعضَ التَّعديلاتِ التي لا تُؤثِّرُ على الجوهَرِ، ويُؤيِّدونَ ذلك بشُبُهاتٍ عقليَّةٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ عالِمٌ بذاتِه، قادِرٌ بذاتِه.
وقد نقَل ابنُ المُرتضى المُعتَزِليُّ إجماعَ المُعتَزِلةِ على قولِهم في الصِّفاتِ، فقال: (أمَّا ما أجمعَت عليه المُعتَزِلةُ فقد أجمَعوا على أنَّ للعالَمِ مُحدِثًا، قديمًا، قادِرًا، عالِمًا، حيًّا، لا لِمعانٍ) [453] ((المُنْية والأمل)) (ص: 56). .
فالمُعتَزِلةُ تُجمِعُ على نَفيِ إثباتِ أن تكونَ الصِّفاتُ الإلهيَّةُ حقيقيَّةً في الذَّاتِ ومُتميِّزةً عنها؛ وذلك أنَّهم يجعلونَها عَينَ الذَّاتِ؛ فاللهُ عالِمٌ بذاتِه بدونِ عِلمٍ، أو عالِمٌ بعِلمٍ وعِلمُه ذاتُه، وهذا يعني أنَّهم سلَكوا طريقَينِ في موقِفِهم مِن الصِّفاتِ:
الطَّريقُ الأوَّلُ: الذي عليه أغلبيَّتُهم وهو نَفيُها صراحةً، فقالوا: إنَّ اللهَ عالِمٌ، قادِرٌ، حيٌّ بذاتِه، لا بعِلمٍ، ولا قُدرةٍ، ولا حياةٍ، وهكذا في باقي الصِّفاتِ [454] يُنظر: ((المحيط بالتكليف)) (ص: 107، 155)، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 151)، كلاهما لعبد الجبار، ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 6). .
والطَّريقُ الثَّاني: وهو الذي عليه بعضُهم، وهو إثباتُها اسمًا ونَفيُها فِعلًا، فقالوا: إنَّ اللهَ عالِمٌ بعِلمٍ، وعِلمُه ذاتُه، وهكذا بقيَّةُ الصِّفاتِ، فكان مُجتمِعًا معَ الرَّأيِ الأوَّلِ في الغايةِ، وهي نَفيُ الصِّفاتِ حقيقةً [455] يُنظر: ((الانتصار والرد على ابن الرَّاوَنْدي)) للخيَّاط (ص: 75)، ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 183). .
وهناك آراءٌ أخرى للمُعتَزِلةِ لكنَّها تجتمِعُ في الغايةِ معَ الرَّأيَينِ الأوَّلَينِ، وهو نَفيُ إثباتِ الصِّفاتِ حقيقةً في الذَّاتِ ومُتميِّزةً عنها.

انظر أيضا: