موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: مِن أبرَزِ ملامِحِ الاعتِزالِ: تقديمُ العقلِ على النَّقلِ


إنَّ يَنبوعَ المعرفةِ عندَ المُعتَزِلةِ يتلخَّصُ في تقديمِ العقلِ على الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وجَعلِ العقلِ حاكمًا عليها لا محكومًا بها.
اشتمَل هذا المنهَجُ العقليُّ على خُطوتَينِ:
الخُطوةُ الأولى: قصَدوا بها تطهيرَ الفِكرِ، وضرورةَ تجرُّدِه عن الإلْفِ والعادةِ.
الخُطوةُ الثَّانيةُ: تحكيمُ العقلِ تحكيمًا مُطلَقًا؛ إذ آمَن المُعتَزِلةُ بالعقلِ ورفَعوا شأنَه، وجعَلوه الحَكمَ الذي يحكُمُ في كُلِّ شيءٍ، والنُّورَ الذي يجلو كُلَّ ظُلمةٍ، فحكَّموه في إيمانِهم، وفي جميعِ شُؤونِهم العامَّةِ والخاصَّةِ [427] يُنظر: ((الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم)) لميلاد (ص: 114). .
لقد حكَّموا العقلَ أكثَرَ مِن تحكيمِهم للشَّرعِ، بل جعَلوا الأدلَّةَ العقليَّةَ مُقدَّمةً على الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ، فكذَّبوا ما لا يُوافِقُ العقلَ مِن الحديثِ الشَّريفِ -وإن صحَّ- وأوَّلوا ما لا يُوافِقُه مِن الآياتِ، وحاوَلوا إخضاعَ عباراتِ القرآنِ لآرائِهم، وتفسيرَهم لها تفسيرًا يتَّفِقُ معَ مبادِئِهم [428] يُنظر: ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (1/ 372-373). .
فقد كانوا يطرحونَ المسألةَ، ثُمَّ يَعرِضونَها على العقلِ -أي عقلِ الواحِدِ منهم- فيستجمِعُ لها الأدلَّةَ، كما تتراءى له؛ لإثباتِها على وَجهٍ مِن الوُجوهِ، وحينَ يصِلُ إلى نتيجةٍ ما يعمِدُ إلى الأدلَّةِ السَّمعيَّةِ، فيُؤوِّلُ منها ما لا يُوافِقُ نتيجتَه إن كان مِن آياتِ الكتابِ، أو يرُدُّ الحديثَ بدَعوى تناقُضِه معَ العقلِ، أو أنَّه مبنيٌّ على الظَّنِّ.
وبسببِ أنَّهم كانوا يتحاكَمونَ إلى عقلِ الواحِدِ منهم لذلك اختلفَت مناهِجُهم اختِلافًا كبيرًا في كُلِّ جُزئيَّاتِ مذهَبِهم، وتناطَحوا وكفَّر بعضُهم بعضًا [429] يُنظر: ((المُعتزِلة بين القديم والحديث)) للعبده وعبد الحليم (ص: 26-28). .
وقد اتَّخَذوا الجَدلَ والِمراءَ وسيلةً للبحثِ في الدِّينِ؛ ذلك أنَّ منهَجَ عِلمِ الكلامِ أصلًا قد بُنِي على "إن قالوا... وقُلْنا"، وذلك لازِمُ مذهَبِهم، وعليه بُنِيَت أُصولُهم، ولا شكَّ أنَّ هذا مُخالِفٌ لدينِ اللهِ المُطهَّرِ المُوافِقِ للفِطرةِ السَّليمةِ دونَ تعقيدٍ أو تكلُّفٍ [430] يُنظر: ((المُعتزِلة بين القديم والحديث)) للعبده وعبد الحليم (ص:30) وما بعدها. .
قال الأوزاعيُّ: (إذا أراد اللهُ بقومٍ شرًّا ألزَمهم الجَدلَ ومنَعهم العَملَ) [431] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للَّالَكائي (1/164). .
وقد أدَّى بهم منهَجُهم هذا إلى أن شطَحوا بعُقولِهم، ووضَعوا الأنبياءَ عليهم السَّلامُ تحتَ مِجهَرِ العقلِ ناقِدينَ لهم؛ لكونِهم بَشرًا مِثلَهم!

انظر أيضا: