موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: الطَّورُ الثَّاني للمُعتَزِلةِ بوَصْفِها فِرقةً مُستقلَّةً


أدخَلَت المُعتَزِلةُ في هذا الطَّورِ المباحِثَ الفلسفيَّةَ والمناهِجَ اليونانيَّةَ بشكلٍ واضِحٍ في الموضوعاتِ التي بحثوها وأضافوها إلى أقوالِ مَن سبَقهم في البِدعةِ.
وقد انقسَم الكلامُ في هذه المرحلةِ إلى قِسمَينِ: جليلِ الكلامِ، ودقيقِ الكلامِ.
فأمَّا جليلُ الكلامِ فهو يبحثُ في صفاتِ اللهِ وكلامِه وقُدرتِه وإرادتِه، وفي الإيمانِ ومعناه، وما يستتبِعُ ذلك مِن كلامٍ في الخَلقِ والآجالِ والأرزاقِ، والثَّوابِ والعقابِ، والخَتْمِ والطَّبعِ، والهُدى والضَّلالِ، وغَيرِ ذلك مِن مباحِثَ، وهو ذو صِلةٍ بالموضوعاتِ المطروحةِ في الطَّورِ الأوَّلِ.
وأمَّا دقيقُ الكلامِ فقد نشأ بأكمَلِه في هذا الطَّورِ، فبَحَث في الجوهَرِ والعَرَضِ، والجسمِ وحُدودِه، والأضدادِ والعِلَلِ، والإرادةِ والتَّولُّدِ، وغَيرِ ذلك مِن مباحِثَ تفوحُ منها رائِحةُ الفلسفةِ اليونانيَّةِ كأوضَحِ ما تكونُ؛ لذلك فالكلامُ فيه منقولٌ عن مُتأخِّري المُعتَزِلةِ؛ كالإِسْكافيِّ، ومَعمَرٍ، وأبي الحُسَينِ الصالِحيِّ، وغَيرِهم، وأمَّا واصِلُ بنُ عطاءٍ ومَن في طَبقتِه فلم يُنسَبْ لهم شيءٌ مِن الكلامِ في تلك المعاني.
أمثلةٌ مِن أقوالِ أبي الهُذَيلِ العلَّافِ أحدِ أئمَّتِهم المُتأخِّرينَ في هذه المرحلةِ؛ للتَّدليلِ بها على تطوُّرِ أقوالِهم وتدهورِها معَ الزَّمَنِ؛ فمِن أقوالِه:
1- القولُ بفَناءِ مقدوراتِ اللهِ حتَّى لا يكونَ بَعدَ فناءِ مقدوراتِه قادِرًا على شيءٍ! أي: إنَّه يخلُقُ ما يشاءُ حتَّى لا يقدِرَ أن يخلُقَ شيئًا بَعدَ ذلك [388] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 102)، ((اعتقادات أهل فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (ص: 41). .
2- قولُه بأنَّ عذابَ أهلِ النَّارِ ونعيمَ أهلِ الجنَّةِ سينتهيانِ إلى نهايةٍ حيثُ يبقى كُلٌّ مِن أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ ساكنًا في مكانٍ لا يتحرَّكُ!
وقال بأنَّ أهلَ الجنَّةِ والنَّارِ مُسيَّرونَ في أقوالِهم وأفعالِهم التي يقولونَها ويفعلونَها في الآخِرةِ، ولا حيلةَ لهم فيها!
وهذا تناقُضٌ عجيبٌ؛ إذ جعَل النَّاسَ في الدُّنيا يفعلونَ ما يشاؤونَ، وفي الآخِرةِ مُسيَّرونَ لا يختارونَ! فهو قَدَريٌّ في الدُّنيا، جَبْريٌّ في الآخِرةِ [389] يُنظر: ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (ص: 133). .
3- قولُه بأنَّ التَّواتُرَ الذي يُعتبَرُ حُجَّةً هو ما يُجمِعُ عليه عِشرونَ شخصًا أحدُهم مِن أهلِ الجنَّةِ!
4- كان أوَّلَ مَن صرَّح بأنَّ اللهَ تعالى عالِمٌ بعِلمٍ هو ذاتُه، وأنَّ قُدرةَ اللهِ هي اللهُ، وهكذا.
أمَّا ما قاله في دقيقِ الكلامِ مُتأثِّرًا بالفلسفةِ اليونانيَّةِ عن الجسمِ، فقد وصَفه بأنَّه "الطَّويلُ العريضُ العميقُ" [390] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/239). .
وقال عن "الجوهَرِ الفردِ": هو الجُزءُ الذي لا يتجزَّأُ، وعرَّفه بأنَّه: لا طولَ ولا عَرضَ ولا عُمقَ ولا اجتِماعَ فيه ولا افتِراقَ، وأنَّه قد يجوزُ أن يُجامِعَ غَيرَه وأن يُفارِقَ غَيرَه، وأنَّ الخَردلةَ يجوزُ أن تتجزَّأَ نِصفَينِ، ثُمَّ أربعةً، ثُمَّ ثمانيةً، إلى أن يصيرَ كُلُّ جُزءٍ منها لا يتجزَّأُ [391] يُنظر: ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (ص: 182). ويُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/243)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (4/ 881). .
وقد خالَفه النَّظَّامُ في ذلك؛ فأنكَر وُجودَ الجُزءِ الذي لا يتجزَّأُ، وقال: إنَّ كُلَّ شيءٍ يقبَلُ التَّجزِئةَ إلى ما لا نهايةَ.
ولا يُنكَرُ البحثُ في معنى الجسمِ مِن النَّاحيةِ الرِّياضيَّةِ، أو تصوُّرِ الأجزاءِ والأقسامِ، إنَّما المُنكَرُ هو الخَلطُ بَينَ ذلك وبَينَ المباحِثِ الخاصَّةِ بالذَّاتِ الإلهيَّةِ، وهو ما أدَّى إلى التَّخبُّطِ والابتِداعِ.
أمَّا عن الأعراضِ فقد قال العلَّافُ: إنَّ منها ما يبقى، ومنها ما يزولُ، فما يزولُ كحركاتِ الأجسامِ، وهو القولُ الذي أدَّاه إلى زوالِ حَركاتِ أهلِ الآخِرةِ، وما يبقى فهو كالسُّكونِ الذي يتحوَّلونَ إليه بَعدَ الحركةِ [392] يُنظر: ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (ص: 190). ويُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تَيميَّة (1/ 310)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (5/ 107). .
وقال: إنَّ الأعراضَ يُمكِنُ رُؤيتُها؛ كالحَركاتِ والسَّكَناتِ، والألوانِ والاجتِماعِ والافتِراقِ، ويُمكِنُ لَمسُها بلَمسِ الجسمِ نَفسِه، وقد خالَفه الجُبَّائيُّ في لَمسِ الأعراضِ، وإن وافَقه في رُؤيتِها. وخالَفهما النَّظَّامُ في رُؤيةِ الأعراضِ ولَمسِها والألوانِ؛ فقال: إنَّها جسمٌ يُمكِنُ رُؤيتُه.
أمَّا عن الخَلقِ: فقد قال العلَّافُ: إنَّ خَلقَ الشَّيءِ غَيرُ الشَّيءِ نَفسِه، وإنَّ إعادةَ الخَلقِ غَيرُ الشَّيءِ المُعادِ، وإنَّ إرادةَ الخَلقِ غَيرُ الشَّيءِ المخلوقِ، وخالَفه النَّظَّامُ؛ فقال: بل الخَلقُ هو نَفسُ الشَّيءِ، وإرادةُ الشَّيءِ المخلوقِ هي الشَّيءُ المخلوقُ، إلَّا إن كانت أمرًا؛ فهي غَيرُه [393] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/ 270)، ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (ص: 191). .

انظر أيضا: