موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابعُ: مِن الفِرَقِ الاعتِزاليَّةِ: فِرقةُ النَّظَّاميَّةِ


وهُم أتباعُ أبي إسحاقَ إبراهيمَ بنِ سيَّارِ بنِ هانِئٍ، المعروفِ بالنَّظَّامِ، سُمِّي بهذا الاسمِ؛ لأنَّه كان ينظِمُ الخَرزَ في سوقِ البَصرةِ، وُلِد سنةَ (185هـ)، وتُوفِّي سنةَ (231هـ)، عاشَر في شبابِه قومًا مِن (الثَّنَويَّةِ) و(السُّمَنِيَّةِ) القائِلينَ بتكافُؤِ الأدلَّةِ، وخالَط بَعدَ كِبَرِه قومًا مِن ملاحِدةِ الفلاسِفةِ، ثُمَّ اتَّصَل بهشامِ بنِ الحَكمِ الرَّافِضيِّ، فأخَذ عنه، وأُعجِب بقولِ البراهِمةِ بإبطالِ النُّبوَّاتِ؛ فأنكَر إعجازَ القرآنِ وما رُوِي مِن مُعجِزاتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليتوصَّل بذلك إلى إنكارِ نبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ إنَّه أبطَل الطُّرُقَ الدَّالَّةَ على أحكامِ الشَّريعةِ؛ فأبطَل حُجِّيَّةَ الإجماعِ والقياسِ في الفُروعِ، وأنكَر الحُجَّةَ مِن الأخبارِ التي لا توجِبُ العِلمَ الضَّروريَّ، وطعَن في فتاوى الصَّحابةِ وجميعِ فِرَقِ الأمَّةِ مِن فريقَي الرَّأيِ والحديثِ، معَ الخوارِجَ والشِّيعةِ، والنَّجَّاريَّةِ، وأكثَرُ المُعتَزِلةِ مُتَّفِقونَ على تكفيرِ النَّظَّامِ، ولم يتبَعْه في ضلالتِه إلَّا شِرذِمةٌ قليلةٌ مِن القَدَريَّةِ كالأسواريِّ، وابنِ حائِطٍ، والجاحِظِ، معَ مُخالَفةِ كُلِّ واحِدٍ منهم له في بعضِ ضلالاتِه.
وممَّن قال بتكفيرِه مِن شُيوخِ المُعتَزِلةِ: أبو الهُذَيلِ، والجُبَّائيُّ، والإسْكافيُّ، وجَعفَرُ بنُ حربٍ، وكُتبُ أهلِ السُّنَّةِ في تكفيرِه تكادُ لا تُحصى [237] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 113- 115)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 71- 73)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/53). .
قال السَّمعانيُّ: (معَ زَيغِه وضلالتِه كان أفسَقَ خَلقِ اللهِ؛ يشرَبُ الخَمرَ، يغدو ويروحُ على السُّكرِ) [238] ((الأنساب)) (13/139). .
وقد انفرَد عن أصحابِه بمسائِلَ؛ منها:
الأولى: قولُه في القَدَرِ، فقال: إنَّ اللهَ تعالى لا يوصَفُ بالقُدرةِ على الشُّرورِ والمعاصي، وليست هي مقدورةٌ له خِلافًا لأصحابِه؛ فإنَّهم قضَوا بأنَّه قادِرٌ عليها، لكنَّه لا يفعَلُها؛ لأنَّها قبيحةٌ، وقال أيضًا: إنَّ اللهَ لا يقدِرُ أن يفعلَ بعِبادِه إلَّا ما فيه صلاحُهم، هذا فيما يتعلَّقُ بقُدرتِه في أمورِ الدُّنيا.
وأمَّا أمورُ الآخِرةِ فقال: لا يوصَفُ الباري تعالى بالقُدرةِ على أن يزيدَ في عذابِ أهلِ النَّارِ شيئًا، ولا على أن يَنقُصَ منه شيئًا، وكذلك لا يَنقُصُ مِن نعيمِ أهلِ الجنَّةِ أو يُخرِجُ أحدًا مِن أهلِها، وليس ذلك مقدورًا له [239] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 115)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/54). ويُنظر أيضًا: ((المواعظ والاعتبار)) للمَقْريزي (4/ 171). .
الثَّانيةُ: قولُه في الإرادةِ: إنَّ الباريَ تعالى ليس موصوفًا بها على الحقيقةِ، فإذا وُصِف بها شَرعًا في أفعالِه فالمُرادُ بذلك أنَّه خالِقُها ومُنشِئُها حسَب ما علِم، وإذا وُصِف بكونِه مُريدًا لأفعالِ العِبادِ فالمعنى أنَّه آمِرٌ بها وناهٍ عنها [240] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/55). .
الثَّالثةُ: زعَم أنْ لا عَرَضَ في الدُّنيا إلَّا الحَركةُ، وأنَّ السُّكونَ حركةُ اعتِمادٍ، والعُلومُ والإراداتُ مِن جملةِ الحَركاتِ؛ لأنَّها حَركاتُ النَّفسِ، وكان يقولُ: إنَّ الإنسانَ لا يقدِرُ إلَّا على الأعراضِ، وبما أنَّه قال: لا عَرَضَ في الدُّنيا إلَّا الحركةُ؛ لذا فإنَّه يَنتِجُ عن ذلك أنَّ أفعالَ الإنسانِ وسائِرِ الحيوانِ جنسٌ واحِدٌ، وأنَّها كُلَّها حَركاتٌ [241] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 137)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/261)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 126). .
الرَّابعةُ: قولُه في الإجماعِ: إنَّه ليس بحُجَّةٍ في الشَّرعِ، وكذلك القياسُ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ لا يجوزُ أن يكونَ حُجَّةً، وإنَّما الحُجَّةُ في قولِ الإمامِ المعصومِ [242] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/57). .
الخامسةُ: قولُه في إعجازِ القرآنِ: إنَّه واقِعٌ مِن جهةِ الإخبارِ عن الأمورِ الماضيةِ والآتيةِ، ومِن جهةِ صَرفِ الدَّواعي عن المُعارَضةِ، ومَنعِ العربِ عن الاهتِمامِ به جَبرًا وتعجيزًا، ولو خلَّاهم لكانوا قادِرينَ على أن يأتوا بسورةٍ مِن مِثلِه بلاغةً وفصاحةً ونَظمًا [243] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/58). .
السَّادسةُ: قولُه بالكُمونِ: وهو أنَّ اللهَ تعالى خلَق الموجوداتِ دَفعةً واحِدةً على ما هي عليه الآنَ؛ مَعادِنَ ونباتًا، وحيوانًا وإنسانًا، ولم يتقدَّمْ خَلقُ آدَمَ عليه السَّلامُ على خَلقِ أولادِه، غَيرَ أنَّ اللهَ تعالى أكمَن بعضَها في بعضٍ؛ فالتَّقدُّمُ والتَّأخُّرُ إنَّما يقعُ في ظُهورِها مِن مكامِنِها دونَ حُدوثِها ووُجودِها، وإنَّما أخَذ هذه المقالةَ مِن أصحابِ الكُمونِ والظُّهورِ مِن الفلاسِفةِ، وأكثَرُ ميلِه إلى تقريرِ مذهَبِ الطَّبيعيِّينَ منهم دونَ الإلهيِّينَ [244] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/56)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 139). ويُنظر أيضًا: ((الحيوان)) للجاحظ (5/5). .
السَّابعةُ: حكى الكَعبيُّ عنه أنَّه قال: (إنَّ كُلَّ ما جاوَز حدَّ القُدرةِ مِن الفِعلِ فهو مِن فِعلِ اللهِ تعالى بإيجابِ الخِلقةِ، أي: إنَّ اللهَ تعالى طبَع الحَجَرَ طبعًا، وخلَقه خِلقةً إذا دفعْتَه اندفَع، وإذا بلغَت قوَّةُ الدَّفعِ مَبلَغَها عاد الحَجَرُ إلى مكانِه طَبعًا) [245] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/55)، ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (9/351). .
الثَّامنةُ: الإنسانُ في الحقيقةِ ليس البَدَنَ، وإنَّما هو الرُّوحُ أو النَّفسُ، والبَدنُ آلتُها، ومال إلى قوَّةِ الفلاسِفةِ الطَّبيعيِّينَ، وهو أنَّ الرَّوحَ جِسمٌ لطيفٌ مُشابِكٌ للبَدنِ، مُداخِلٌ للقالَبِ بأجزائِه مُداخَلةَ المائيَّةِ في الوَردِ، وقال: إنَّ الرُّوحَ هي التي لها قوَّةٌ واستِطاعةٌ وحياةٌ ومشيئةٌ [246] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/55) بتصَرُّفٍ. ، وهي الحاسَّةُ المُدرِكةُ؛ ولذلك كان يقولُ: إنَّ النَّفسَ هي التي تُدرِكُ المحسوساتِ مِن هذه الخُروقِ التي هي الأذُنُ والأنفُ والفمُ والعَينُ، لا أنَّ للإنسانِ سَمعًا أو بَصرًا هو غَيرُه [247] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/257). .
التَّاسعةُ: قولُه في المُفكِّرِ قَبلَ وُرودِ السَّمعِ: إنَّه إذا كان عاقِلًا مُتمكِّنًا مِن النَّظَرِ يجِبُ عليه تحصيلُ معرفةِ الباري تعالى بالنَّظَرِ والاستِدلالِ، وقال بتحسينِ العقل وتقبيحِه في جميعِ ما يتصرَّفُ فيه مِن أفعالِه، وقال: لا بُدَّ مِن خاطِرَينِ: أحدُهما: يأمرُ بالإقدامِ، والآخَرُ: بالكفِّ؛ ليصِحَّ الاختِيارُ [248] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/55- 56). .
العاشرةُ: وافَق الفلاسِفةَ في نَفيِ الجُزءِ الذي لا يتجزَّأُ، وقال بأنَّ الجُزءَ يُمكِنُ تجزِئتُه إلى ما لا نهايةَ، فلا بعضَ إلَّا وله بعضٌ، ولا نِصفَ إلَّا وله نِصفٌ، ويلزَمُ مِن قولِه هذا إنكارُ أن يكونَ اللهُ تعالى مُحيطًا بآخِرِ العالَمِ، عالِمًا به [249] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/57)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 113 و123). ويُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/ 244). ؛ وذلك في قولِه تعالى: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] .
الحاديةَ عَشرةَ: قولُه بالطَّفرةِ [250] خلاصةُ المرادِ بالطَّفرةِ: أنَّ الجِسمَ قد يكونُ في المكانِ الأوَّلِ، ثُمَّ يصيرُ منه إلى ‌المكانِ ‌العاشرِ من غيرِ المرورِ بالأمكنةِ المتوسِّطةِ بينه وبينَ العاشرِ، ومن غيرِ أن يصيرَ معدومًا في الأوَّلِ ومُعادًا في العاشرِ! وبعبارةٍ أُخرى: هي القولُ بأنَّ اللهَ خَلَق هذه الموجوداتِ دُفعةً واحدةً على ما هي عليه الآن من نباتٍ وحيوانٍ، وجبالٍ وبحارٍ، ولم يتقدَّمْ خلقُ آدمَ على ذرِّيَّتِه، غيرَ أنَّ اللهَ أكمل بعضَها في بعضٍ؛ فالتقدُّمُ والتأخُّرُ إنما يقعُ في ظهورِ هذه الموجوداتِ في أماكنِها دونَ حدوثِها ووجودِها. يُنظر: ((مصطلحات في كتب العقائد)) للحمد (ص: 157). : إنَّ قولَ النَّظَّامِ بنَفيِ الجُزءِ الذي لا يتجزَّأُ جرَّه إلى القولِ بالطَّفرةِ، وهي دعواه أنَّ الجِسمَ قد يكونُ في المكانِ الأوَّلِ، ثُمَّ يصيرُ منه إلى المكانِ العاشِرِ مِن غَيرِ المُرورِ بالأمكِنةِ المُتوسِّطةِ بَينَه وبَينَ العاشِرِ، ومِن غَيرِ أن يصيرَ معدومًا في الأوَّلِ، ومُعادًا في العاشِرِ [251] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 113)، ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) لعوَّاد المُعتق (ص: 59). !
 قال البَغداديُّ: (خالَط بَعدَ كِبَرِه قومًا مِن ملاحِدةِ الفلاسِفةِ، ثُمَّ خالَط هشامَ بنَ الحَكمِ الرَّافِضيَّ؛ فأخَذ عن هشامٍ وعن ملاحِدةِ الفلاسِفةِ قولَه بإبطالِ الجُزءِ الذي ‌لا ‌يتجزَّأُ، ثُمَّ بنى عليه قولَه بالطَّفرةِ التي لم يَسبِقْ إليها وَهْمُ أحدٍ قَبلَه) [252] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 113). .
الثَّانيةَ عَشرةَ: تكلَّم في مسائِلِ الوعدِ والوعيدِ، وزعَم أنَّ ‌مَن ‌خان ‌في ‌مائةٍ ‌وتسعةٍ ‌وتسعينَ دِرهمًا بالسَّرقةِ أو الظُّلمِ لم يُفَسَّقْ بذلك حتَّى تبلُغَ خيانتُه نِصابَ الزَّكاةِ، وهو مائتا دِرهَمٍ فصاعِدًا، فحينَئذٍ يُفَسَّقُ، وكذلك في سائِرِ نُصُبِ الزَّكاةِ [253] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/58). .
وقد اعترَض البغداديُّ على هذا القولِ، فقال: (إن كان قد بنى هذا القولَ على ما يُقطَعُ فيه اليدُ في السَّرقةِ؛ فما جعَل أحدٌ نِصابَ القَطعِ في السَّرقةِ مائتَي دِرهَمٍ، بل قال قومٌ في نِصابِ القَطعِ: إنَّه رُبُعُ دينارٍ أو قيمتُه، وبه قال الشَّافِعيُّ وأصحابُه، وقال مالِكٌ: برُبعِ دينارٍ، أو ثلاثةِ دراهِمَ، وقال أبو حَنيفةَ بوُجوبِ القَطعِ في عَشَرةِ دراهِمَ فصاعِدًا، واعتبَره قومٌ بأربعينَ دِرهمًا أو قيمتِها، وأوجَبَت الإباضيَّةُ القَطعَ في قليلِ السَّرقةِ وكثيرِها، وما اعتبَر أحدٌ نِصابَ القَطعِ بمائتَي دِرهَمٍ، ولو كان التَّفسيقُ مُعتبَرًا بنِصابِ القَطعِ لَما فُسِّق الغاصِبُ لأُلوفِ دنانيرَ؛ لأنَّه لا قَطعَ على الغاصِبِ المُجاهِرِ، ولوجَب ألَّا يُفَسَّقَ مَن سرَق الألوفَ مِن غَيرِ حِرزٍ أو مِن الابنِ؛ لأنَّه لا قَطعَ في هذَينِ الوجهَينِ، وإن كان إنَّما بنى تحديدَ المائتَينِ في الفِسقِ على أنَّ المائتَينِ نِصابٌ للزَّكاةِ، لزِمه تفسيقُ مَن سرَق أربعينَ شاةً بوُجوبِ الزَّكاةِ فيها، وإن كانت قيمتُها دونَ مائتَي دِرهَمٍ، وإذا لم يكنْ للقياسِ في تحديدِه مجالٌ، ولم يدُلَّ عليه نصٌّ مِن القرآنِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ؛ لم يكنْ مأخوذًا إلَّا مِن وَسوسةِ شيطانِه الذي دعاه إلى ضلالتِه!) [254] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 130). .
الثَّالثةَ عَشرَةَ: ميلُه إلى الرَّفضِ ووقيعتُه في كِبارِ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم، ونُقِل عنه أنَّه: (قال: أوَّلًا: ‌لا ‌إمامةَ ‌إلَّا ‌بالنَّصِّ ‌والتَّعيينِ ‌ظاهِرًا ‌مكشوفًا، وقد نصَّ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على عليٍّ رضِي اللهُ عنه في مواضِعَ، وأظهَره إظهارًا لم يَشتبِهْ على الجماعةِ، إلَّا أنَّ عُمرَ كتَم ذلك، وهو الذي تولَّى بَيعةَ أبي بكرٍ يومَ السَّقيفةِ، ونسَبه إلى الشَّكِّ يومَ الحُدَيبيَةِ في سُؤالِه الرَّسولَ عليه السَّلامُ حينَ قال: ألسْنا على الحقِّ؟ أليسوا على الباطِلِ؟ قال: نعَم، قال عُمرُ: فلِمَ نُعطِ الدَّنيَّةَ في دينِنا؟ قال: هذا شكٌّ وتردُّدٌ في الدِّينِ، ووِجدانُ حَرَجٍ في النَّفسِ ممَّا قضى وحَكم، وزاد في الفِريةِ فقال: إنَّ عُمرَ ضرَب بطنَ فاطِمةَ يومَ البَيعةِ حتَّى ألقَت الجنينَ مِن بَطنِها، وكان يَصيحُ: أحرِقوا دارَها بمَن فيها، وما كان في الدَّارِ غَيرُ عليٍّ وفاطِمةَ والحَسنِ والحُسَينِ، وقال: تغريبُه نصرَ بنَ الحجَّاجِ مِن المدينةِ إلى البَصرةِ، وإبداعُه التَّراويحَ، ونَهيُه عن مُتعةِ الحجِّ، ومُصادَرتُه العُمَّالَ: كُلُّ ذلك أحداثٌ!
ثُمَّ وقَع في أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ، وذكَر أحداثَه؛ مِن ردِّه الحكَمَ بنَ أميَّةَ إلى المدينةِ وهو طريدُ رسولِ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ونَفيِه أبا ذَرٍّ إلى الرَّبَذةِ، وهو صديقُ رسولِ اللهِ، وتقليدِه الوليدَ بنَ عُقبةَ الكوفةَ وهو مِن أفسَدِ النَّاسِ، ومُعاوِيةَ الشَّامَ، وعبدَ اللهِ بنَ عامِرٍ البَصرةَ، وتزويجِه مَروانَ بنَ الحَكمِ ابنتَه، وهُم أفسَدوا عليه أمرَه، وضَربِه عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ على إحضارِ المُصحَفِ، وعلى القولِ الذي شاقَّه به؛ كُلُّ ذلك أحداثُه!
ثُمَّ زاد على خِزيِه ذلك؛ فإنَّه عاب عليًّا وعبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ لقولِهما: أقولُ فيها برأيي، وكذَّب ابنَ مسعودٍ في روايتِه: ((السَّعيدُ مَن سَعِد في بَطنِ أمِّه، والشَّقيُّ مَن شَقِي في بَطنِ أمِّه)) [255] أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2631) واللَّفظُ له، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1597) موقوفًا على عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وفي روايتِه انشِقاقَ القَمرِ [256] ولفظُه: عن ابنِ مسعودٍ قال: انشقَّ القَمَرُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِرقَتَينِ: فرقةً فوقَ الجبَلِ، وفرقةً دونَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشهَدوا)). أخرجه البُخاريُّ (4864) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2800). ...، وقد أنكَر الجنَّ رأسًا، إلى غَيرِ ذلك مِن الوقيعةِ الفاحِشةِ في الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم أجمعينَ) [257] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 147)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/56- 57). .
رضِي اللهُ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذين قال اللهُ تعالى فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] ، ومَن غضِب على مَن رضِي اللهُ عنهم، فهو المغضوبُ عليه دونَهم.
الرَّابعةَ عَشْرةَ: قولُه في بابِ المَعادِ، قال: إنَّ العقارِبَ والحيَّاتِ والخنافِسَ والذُّبابَ والجُعْلانَ والكِلابَ والخنازيرَ وسائِرَ السِّباعِ والحَشراتِ، تُحشَرُ إلى الجنَّةِ، وزعَم أنَّ كُلَّ مَن تفضَّل اللهُ عليه بالجنَّةِ لا يكونُ لبعضِهم على بعضٍ درجةٌ في التَّفضيلِ...، وزعَم أنَّه لا يتفضَّلُ على الأنبياءِ عليهم السَّلامُ إلَّا بمِثلِ ما يتفضَّلُ به على البهائِمِ؛ لأنَّ بابَ التَّفضيلِ عندَه لا يختلِفُ فيه العالِمونَ وغَيرُهم، وإنَّما يختلِفونَ في الثَّوابِ والجزاءِ؛ لاختِلافِ مراتِبِهم في الأعمالِ [258] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 131). .
الخامِسةَ عَشرَةَ: قولُه في المُتضادَّاتِ والمستحيلِ: يرى النَّظَّامُ في قهرِ المُتضادَّاتِ على الاجتِماعِ دليلًا على وُجودِ الخالِقِ سُبحانَه وتعالى؛ قال: وجدْتُ الحَرَّ مُضادًّا للبردِ، ووجدْتُ أنَّ الضِّدَّينِ لا يجتَمِعانِ مِن ذاتِ أنفُسِهما، فعَلِمْتُ بوُجودي لهما مُجتمِعَينِ أنَّ لهما جامِعًا جمَعهما، وقاهِرًا قهَرهما على خلافِ شأنِهما، وما جرى عليه القهرُ ضعيفٌ، وضَعفُه دليلٌ على حُدوثِه، وعلى أنَّ له مُحدِثًا أحدَثه لا يُشبِهُه، وليس الإنسانُ هو الذي جمَعهما؛ لأنَّه ضعيفٌ مِثلَهما يجري عليه القهرُ الذي يجري عليهما، فيكونُ الذي أوجَدهما وقهَرهما على الاجتِماعِ، وأوجَد الإنسانَ: هو اللهَ تعالى الذي لا يُشبِهُه شيءٌ [259] يُنظر: ((الانتصار)) للخياط (ص: 46)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 127). .
ويُروى أنَّه كان يُحيلُ أن يكونَ اللهُ قادِرًا على فِعلِ المُستحيلِ، كأن يجعَلَ المُبرَّدَ مُسخَّنًا أو العكسِ [260] يُنظر: ((الانتصار)) للخياط (ص: 47). .
السَّادسةَ عَشرَةَ: الجِسمُ والعَرَضُ
الجِسمُ: هو الطَّويلُ العريضُ العميقُ، وليس لأجزائِه عددٌ يُوقَفُ عليه [261] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/ 237). ، وكُلُّ شيءٍ في هذا العالَمِ؛ لأنَّه لا يثبُتُ عَرَضًا إلَّا الحركةُ [262] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/261)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تَيميَّة (6/407). .
وللأعراضِ صفاتٌ؛ منها: أنَّ الأعراضَ فانيةٌ، لأنَّه لا بقاءَ للأجسامِ، وأنَّها لا تُرى بالعَينِ، لأنَّ الإنسانَ مُحالٌ أن يرى منها إلَّا الألوانَ، والألوانُ عندَ النَّظَّامِ أجسامٌ لِطافٌ، وكذلك مُحالٌ أن تُدرَكَ الأعراضُ بالحواسِّ الباقِيةِ؛ لأنَّها حركاتٌ، والحركاتُ ليست أجسامًا، ولا يُدرَكُ بالحواسِّ إلَّا الأجسامُ، وسُمِّيَت الأعراضُ أعراضًا؛ لأنَّها تعترِضُ في الأجسامِ وتقومُ فيها، وأنكَر أن يكونَ العَرضُ لا في مكانٍ، أو أن يحدُثَ عَرضٌ لا في جِسمٍ، وكذلك فإنَّ الأعراضَ عندَه لا تتضادُّ، وإنَّما التَّضادُّ يكونُ بَينَ الأجسامِ كالحرارةِ والبُرودةِ، وأنَّ الأعراضَ جنسٌ واحِدٌ؛ لأنَّها جميعًا حَرَكاتٌ، ويجوزُ أن يُقدِرَ اللهُ عِبادَه على فِعلِ الأعراضِ، فأمَّا الألوانُ والحرارةُ والبُرودةُ والأصواتُ فإنَّه أحال أن يُقدِرَ عِبادَه عليها؛ لأنَّها أجسامٌ عندَه، وليس بجائِزٍ أن يُقدِرَ اللهُ الخلقَ إلَّا على الحَرَكاتِ [263] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 121). .

انظر أيضا: