موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: مِن مصادِرِ مذهَبِ المُعتَزِلةِ: بعضُ مُعتقَداتِ وفلسفاتِ الأديانِ الوَضعيَّةِ والوَثنيَّةِ


مِن هذه المصادِرِ استمدَّت الجَهميَّةُ ومَن تبِعهم -كالمُعتَزِلةِ- كثيرًا مِن أُصولِها، أو تأثَّرَت بها، كفلسفةِ الصَّابِئةِ، والبَراهِمةِ، والسُّمَنيَّةِ، واليونانيَّةِ، والرُّومانيَّةِ [126] يُنظر: ((الجهمية والمُعتزِلة)) للعقل (ص: 164). .
فقد ذكَر السَّمعانيُّ الأثرَ الثَّنَويَّ والدَّهريَّ على أحدِ فِرَقِهم، وهُم النَّظَّاميَّةُ، فقال: (وما في القَدَريَّةِ أجمَعُ منه لأنواعِ الكُفرِ، وكان عاشَر في شبابِه قومًا مِن ‌الثَّنَويَّةِ وقومًا مِن الدَّهريَّةِ والخَصريَّةِ القائِلينَ بتكافُؤِ الأدلَّةِ، وشِرذمةً مِن الفلاسِفةِ؛ فأخَذ قولَه بنَفيِ الجُزءِ الذي لا يتجزَّأُ مِن ملاحِدةِ الفلاسِفةِ، وقولَه بأنَّ فاعِلَ العَدلِ لا يقدِرُ على الظُّلمِ مِن ‌الثَّنَويَّةِ، وأخَذ قولَه بأنَّ الألوانَ والطُّعومَ والرَّوائِحَ والأصواتَ أجسامٌ مِن الهِشاميَّةِ، ودلَّس مذاهِبَ ‌الثَّنَويَّةِ والفلاسِفةِ في دينِ المُسلِمينَ) [127] ((الأنساب)) (13/ 139). .
قال البَغداديُّ عن النَّظَّامِ المُعتَزِليِّ: (كان في زمانِ شبابِه قد عاشَر قومًا مِن الثَّنويَّةِ، وقومًا مِن السُّمَنيَّةِ القائِلينَ بتكافُؤِ الأدلَّةِ، وخالَط ‌بَعدَ ‌كِبَرِه قومًا مِن مُلحِدةِ الفلاسفةِ، ثُمَّ خالَط هِشامَ بنَ الحَكمِ الرَّافِضيَّ؛ فأخَذ عن هِشامٍ، وعن مُلحِدةِ الفلاسِفةِ قولَه بإبطالِ الجُزءِ الذي لا يتجزَّأُ، ثُمَّ بنى عليه قولَه بالطَّفرةِ التي لم يَسبِقْ إليها وَهمُ أحدٍ قَبلَه، وأخَذ مِن الثَّنَويَّةِ قولَه بأنَّ فاعِلَ العَدلِ لا يقدِرُ على فِعلِ الجَورِ والكذِبِ، وأخَذ مِن هِشامِ بنِ الحَكمِ أيضًا قولَه بأنَّ الألوانَ والطُّعومَ والرَّوائِحَ والأصواتَ أجسامٌ، وبنى على هذه البِدعةِ قولَه بتداخُلِ الأجسامِ في حيِّزٍ واحِدٍ، ودوَّن مذاهِبَ الثَّنَويَّةِ وبِدَعَ الفلاسِفةِ وشُبَهَ المُلحِدةِ في دينِ الإسلامِ، وأُعجِبَ بقولِ البراهِمةِ بإبطالِ النُّبوَّاتِ، ولم يجسُرْ على إظهارِ هذا القولِ؛ خوفًا مِن السَّيفِ) [128] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 113- 114). .
وأمَّا عن تأثُّرِهم بفلاسِفةِ اليونانِ: فقد تأثَّر المُعتَزِلةُ بفلاسِفةِ اليونانِ في موضوعِ الذَّاتِ والصِّفاتِ؛ فمِن ذلك قولُ أنْبادُقْليسَ الفيلسوفِ اليونانيِّ: (إنَّ البارِيَ تعالى لم يزَلْ هُويَّتَه فقط، وهو العِلمُ المحضُ، وهو الإرادةُ المحضةُ، وهو الجودُ والعِزَّةُ، والقُدرةُ والعَدلُ، والخيرُ والحقُّ، لا أنَّ هناك قُوًى مُسمَّاةً بهذه الأسماءِ، بل هي هو، وهو هذه كُلُّها)، وكذلك قولُ أَرِسُطوطاليسَ في بعضِ كُتبِه: (إنَّ البارِيَ عِلمٌ كُلُّه، قُدرةٌ كُلُّه، حياةٌ كُلُّه، بَصرٌ كُلُّه)، فأخَذ العلَّافُ -وهو مِن شُيوخِ المُعتَزِلةِ- هذه الأفكارَ، وقال: (إنَّ اللهَ عالِمٌ بعِلمٍ، وعِلمُه ذاتُه، قادِرٌ بقُدرةٍ، وقُدرتُه ذاتُه، حيٌّ بحياةٍ، وحياتُه ذاتُه) [129] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (2/ 127). .
وهكذا وضَع المُعتَزِلةُ لأنفُسِهم قواعِدَ عقليَّةً جعَلوها هي الأصلَ في تقريرِ العقيدةِ وأُصولِ الدِّينِ. بالإضافةِ إلى وُجودِ أهواءٍ ونَزعاتٍ شخصيَّةٍ عندَ فِرَقِهم وأفرادِهم [130] يُنظر: ((الجهمية والمُعتزِلة)) للعقل (ص: 165). ؛ فكُلُّ شيخٍ مِن شُيوخِهم يتَّفِقُ معَ البقيَّةِ في الأُصولِ الاعتِزاليَّةِ، ثُمَّ يتفرَّدُ ببعضِ ما يبدو له مِن الآراءِ التي استأنَف القولَ بها، ويستمِدُّ مادَّتَها مِن أوهامٍ عقليَّةٍ، أو يُرتِّبُها على مادَّةٍ فلسفيَّةٍ أو دينيَّةٍ سابِقةٍ، ثُمَّ ينتقِلُ الأمرُ إلى الأتباعِ، فيُعظِّمونَ تلك الآراءَ، ويجعَلونَ لها وَزنًا، ويَعُدُّونَها دليلًا.
وهذا خِلافًا لمَسلَكِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الذين يضعونَ آراءَ الرِّجالِ موضِعَها، ويزِنونَها بميزانِ الوحيِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (الشَّرعُ قولُ المعصومِ الذي لا يُخطِئُ ولا يكذِبُ، وخبرُ الصَّادِقِ الذي لا يقولُ إلَّا حقًّا، وأمَّا آراءُ الرِّجالِ فكثيرةُ التَّهافُتِ والتَّناقُضِ؛ فأنا لا أثِقُ برأيي وعقلي في هذه المطالِبِ العاليةِ الإلهيَّةِ، ولا بخبرِ هؤلاء المُختلِفينَ المُتناقِضينَ الذين كُلٌّ منهم يقولُ بعَقلِه ما يعلَمُ العُقلاءُ أنَّه باطِلٌ، فما مِن هؤلاء أحدٌ إلَّا وقد علِمْتُ أنَّه يقولُ بعَقلِه ما يعلَمُ أنَّه باطِلٌ، بخِلافِ الرُّسُلِ؛ فإنَّهم معصومونَ، فأنا لا أقبَلُ قولَ هؤلاء إنْ لم يُزَكِّ قَولَهم ذلك المعصومُ، ومعلومٌ أنَّ هذا الكلامَ أَولى بالصَّوابِ، وأليقُ بأولي الألبابِ مِن مُعارَضةِ أخبارِ الرَّسولِ الذي علِموا صِدقَه، وأنَّه لا يقولُ إلَّا حقًّا، بما يعرِضُ لهم مِن الآراءِ والمعقولاتِ التي هي في الغالِبِ جَهليَّاتٌ وضلالاتٌ) [131] ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 187). .

انظر أيضا: