موسوعة الفرق

الفصلُ التَّاسعُ: النَّهيُ عن مُشابَهةِ المُشرِكينَ وأهلِ الكتابِ في تفرُّقِهم واختِلافِهم


قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 16-18] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ، أي: حُججًا وبراهينَ وأدلَّةً قاطِعاتٍ، فقامت عليهم الحُججُ، ثُمَّ اختلَفوا بَعدَ ذلك مِن بَعدِ قيامِ الحُجَّةِ، وإنَّما كان ذلك بغيًا منهم على بعضِهم بعضًا، إِنَّ رَبَّكَ يا مُحمَّدُ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، أي: سيفصِلُ بَينَهم بحُكمِه العَدلِ، وهذا فيه تحذيرٌ لهذه الأمَّةِ أن تسلُكَ مَسلَكَهم، وأن تقصِدَ مَنهَجَهم؛ ولهذا قال: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا، أي: اتَّبِع ما أوحِي إليك مِن ربِّك لا إلهَ إلَّا هو، وأعرِضْ عن المُشرِكينَ، وقال هاهنا: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، أي: وماذا تُغني عنهم وِلايتُهم لبعضِهم بعضًا؟ فإنَّهم لا يزيدونَهم إلَّا خَسارًا ودمارًا وهلاكًا، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وهو تعالى يُخرِجُهم مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، والذين كفَروا أولياؤُهم الطَّاغوتُ يُخرِجونَهم مِن النُّورِ إلى الظُّلُماتِ) [134] ((تفسير ابن كثير)) (7/ 267). .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضِي اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكم شِبرًا شِبرًا وذِراعًا ذِراعًا، حتَّى لو دخَلوا جُحرَ ضَبٍّ تَبِعْتُموهم! قالوا يا رسولَ اللهِ: اليهودُ والنَّصارى؟ قال: فمَن؟! )) [135] أخرجه البخاري (7320) واللَّفظُ له، ومسلم (2669). .
وهذا كُلُّه خرَج منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَخرَجَ الخَبرِ عن وُقوعِ ذلك، والذَّمِّ لمَن يفعَلُه، كما كان يُخبِرُ عمَّا يفعَلُه النَّاسُ بَينَ يدَيِ السَّاعةِ مِن الأشراطِ والأمورِ المُحرَّماتِ، فيُعلَمُ أنَّ مُشابهتَها اليهودَ والنَّصارى وفارِسَ والرُّومَ، ممَّا ذمَّه اللهُ ورسولُه [136] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 169) (1/ 102) ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 301). .
وقد جاءت النُّصوصُ ناهيةً عن مُشابَهةِ الكافِرينَ في التَّفرُّقِ بطُرقٍ ثلاثٍ:
1- بيانُ أنَّ التَّفرُّقَ والاختِلافَ مِن شأنِ الكافِرينَ مِن المُشرِكينَ وأهلِ الكتابِ:
قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (ينهى تبارَك وتعالى هذه الأمَّةَ أن يكونوا كالأمَمِ الماضينَ في افتِراقِهم واختِلافِهم وتَركِهم الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ معَ قيامِ الحُجَّةِ عليهم) [137] ((تفسير ابن كثير)) (1/ 368). .
2- بيانُ سَبَبِ تفرُّقِ أهلِ الكتابِ ليحذَرَ المُسلِمُ ولا يسلُكَ سبيلَهم:
فقد وردَت نُصوصٌ كثيرةٌ تذكُرُ اختِلافَ أهلِ الكتابِ في الدِّينِ، وتفرُّقَهم عن الحقِّ، وأنَّ هذا الاختِلافَ والتَّفرُّقَ لم يكنْ عن جَهلٍ منهم للحقِّ، ولم يكنْ عن قُصورٍ في التَّبليغِ، بل بُلِّغوا وبُيِّن لهم أتمَّ البيانِ، وجاءتهم الحُججُ الواضِحاتُ، وقامت عليهم البراهينُ السَّاطِعاتُ بالحقِّ المُبينِ مِن ربِّ العالَمينَ، ولكنَّهم استكبَروا وأعرَضوا عن الحقِّ بغيًا وعُدوانًا وظُلمًا، ولقد أعمَتْهم الدُّنيا عن رُؤيةِ الحقِّ، وأطغاهم طَلبُ المُلكِ وحُبُّ الرِّياسةِ عن العدلِ واتِّباعِ دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فكان حالُهم أن تنكَّبوا الطَّريقَ، وحادوا عن الصِّراطِ المُستقيمِ، ووقَعوا في الفُرقةِ والاختِلافِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/ 196). .
قال اللهُ سبحانَه: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] .
ونَصبُ بغيًا هنا على معنى المفعولِ له؛ فالمعنى: لم يوقِعوا الاختِلافَ إلَّا للبَغيِ؛ لأنَّهم عالِمونَ بحقيقةِ الأمرِ في كُتبِهم [139] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (1/230). .
3- بيانُ أنَّ الفُرقةَ والاختِلافَ كانا سببَ هلاكِ الأمَمِ الماضيةِ:
جاءت نُصوصٌ كثيرةٌ تُحذِّرُ مِن الفُرقةِ بالتَّنبيهِ على أنَّ الفُرقةَ والاختِلافَ سببُ هلاكِ الأمَمِ الماضيةِ، والتَّأكيدِ عليه؛ ليحذَرَ المُسلِمُ مِن ذلك، ويلزَمَ الجماعةَ؛ ففيها العِصمةُ.
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه قال: ((سمعْتُ رجُلًا قرَأ آيةً، وسمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقرَأُ خلافَها، فجئْتُ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبرْتُه، فعرفْتُ في وَجهِه الكراهيَةَ، وقال: كلاكما مُحسِنٌ، ولا تختلِفوا؛ فإنَّ مَن كان قَبلَكم اختلَفوا فهلَكوا )) [140] رواه البخاري (3476). .
وقد فَقِه الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم هذا المعنى عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلِموا أنَّ الفُرقةَ تُؤدِّي إلى الهلاكِ، مُعتبِرينَ بحالِ أهلِ الكتابِ السَّابِقينَ، فلقد قدِم حُذَيفةُ بنُ اليَمانِ على عُثمانَ رضِي اللهُ عنهما، وكان حُذَيفةُ يُغازي أهلَ الشَّامِ في فَتحِ أَرْمِينيَةَ وأَذْرَبِيجانَ معَ أهلِ العراقِ، فأفزَع حُذَيفةَ اختِلافُهم في القراءةِ، فقال حُذَيفةُ لعُثمانَ: (يا أميرَ المُؤمِنينَ، أدرِكْ هذه الأمَّةَ قَبلَ أن يختلِفوا في الكتابِ اختِلافَ اليهودِ والنَّصارى) [141] رواه البخاري (4987) (أنَّ حُذَيفةَ بنَ اليمانِ قَدِم على عُثمان، وكان يغازي أهلَ الشَّامِ في فتحِ أرمِينيَةَ وأَذْرَبِيجانَ...). .
قال ابنُ تيميَّةَ مُعلِّقًا على حديثِ ابنِ مسعودٍ السَّابِقِ وأثرِ حُذَيفةَ: (أفاد ذلك بشيئَينِ: أحدُهما: تحريمُ الاختِلافِ في مِثلِ هذا، والثَّاني: الاعتِبارُ بمَن كان قَبلَنا، والحَذرُ مِن مُشابهتِهم) [142] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 65). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رضِي اللهُ عنه قال: ((هجَّرْتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فسمِع أصواتَ رجُلَينِ اختلَفا في آيةٍ، فخرَج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعرَفُ في وَجهِه الغَضبُ، فقال: إنَّما هلَك مَن كان مِن الأمَمِ باختِلافِهم في الكتابِ )) [143] رواه مسلم (2666). .
وعن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: ((أنَّ نَفرًا كانوا جُلوسًا ببابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال بعضُهم: ألم يقُلِ اللهُ كذا وكذا؟ وقال بعضُهم: ألم يقُلِ اللهُ كذا وكذا؟ فسمِع ذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخرَج، فكأنَّما فُقِئ في وَجهِه حَبُّ الرُّمَّانِ! وقال: أبهذا أُمِرْتُم؟ أو بهذا بُعِثْتُم؟ أن تضرِبوا كتابَ اللهِ بعضَه ببعضٍ! إنَّما ضلَّت الأمَمُ قَبلَكم في مِثلِ هذا؛ إنَّكم لسْتُم ممَّا ههنا في شيءٍ، انظُروا الذي أُمِرْتُم به فاعمَلوا به، والذي نُهيتُم عنه فانتَهوا )) [144] أخرجه ابن ماجه (85)، وأحمد (6845) واللَّفظُ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (85)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6845)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/153). .

انظر أيضا: