موسوعة الفرق

الفصلُ الخامسُ: الإخبارُ أنَّ الفُرقةَ واقِعةٌ لا محالةَ ليُعلَمَ هذا ويُحذَرَ


جاءت بعضُ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ التي تُفيدُ بأنَّ الفُرقةَ واقِعةٌ حتمًا بَينَ النَّاسِ، وهذا معَ كونِه إخبارًا عن حُصولِ ذلك هو أيضًا تحذيرٌ للنَّاسِ مِن الوُقوعِ فيه؛ فلْيَحتاطوا لأنفُسِهم ودينِهم، وليلزَموا السُّنَّةَ والجماعةَ، وليحذَروا البِدعةَ والفُرقةَ.    
قال اللهُ تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118 - 119] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (أي: لا يزالُ الخُلفُ بَينَ النَّاسِ في أديانِهم واعتِقاداتِ مِلَلِهم ونِحَلِهم ومذاهِبِهم وآرائِهم) [120] ((تفسير ابن كثير)) (2/ 446). .
وقال اللهُ سبحانَه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] .
قال الشَّوكانيُّ: (بيَّن سبحانَه أنَّ الإيمانَ وضِدَّه كلاهما بمشيئةِ اللهِ وتقديرِه، فقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ؛ بحيثُ لا يخرُجُ عنهم أحدٌ جَمِيعًا مُجتمِعينَ على الإيمانِ، لا يتفرَّقونَ فيه ويختلِفونَ، ولكنَّه لم يشَأْ ذلك) [121] ((تفسير الشوكاني)) (2/ 539). .
ولقد أخبَرَنا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بوُقوعِ الفُرقةِ في هذه الأمَّةِ، فقال: ((إنَّ بَني إسرائيلَ افترقَت على إحدى وسبعينَ فِرقةً، وإنَّ أمَّتي ستفترِقُ على ثِنتينِ وسبعينَ فِرقةً كُلُّها في النَّارِ إلَّا واحِدةً، وهي الجماعةُ ))  [122] أخرجه من طُرُقٍ: ابنُ ماجه (3993) واللَّفظُ له، وأحمد (12208) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3993)، وصحَّحه بشواهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12208)، وصحَّح إسنادَه العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16)، وجَوَّده وقوَّاه على شرط الصحيح: ابنُ كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/27). .
فمِمَّا تقدَّم يتبيَّنُ أنَّ الافتِراقَ واقِعٌ في الأمَّةِ، وحالُ المُسلِمينَ الآنَ خيرُ شاهِدٍ على وُقوعِ هذه الفُرقةِ؛ مِن رَفعِ راياتِ الحزبيَّةِ والعَصبيَّةِ للرَّأيِ، أو الاختِلافِ في أمورِ الدِّينِ، أو بسببِ التَّهالُكِ على أمورِ الدُّنيا، وما أكثَرَها!
وعن العِرْباضِ بنِ سارِيةَ رضِي اللهُ عنه قال: صَلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ، ثُمَّ أقبَل علينا فوعَظنا موعِظةً بليغةً ذرَفَت منها العُيونُ، ووَجِلت منها القُلوبُ، فقال قائِلٌ: يا رسولَ اللهِ، كأنَّ هذه مَوعِظةُ مُودِّعٍ! فماذا تَعهَدُ إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بتقوى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعةِ، وإنْ عَبدًا حَبشيًّا؛ فإنَّه مَن يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ المَهديِّينَ الرَّاشِدينَ، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) [123] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابنِ عبدِ البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5). .
وقال عليٌّ القاريُّ: («تمسَّكوا بها»، أي: بالسُّنَّةِ، «وعَضُّوا»، بفَتحِ العَينِ «عليها»، أي: على السُّنَّةِ، «بالنَّواجِذِ»؛ جَمعُ ناجِذةٍ، بالذَّالِ المُعجَمةِ، وهي الضِّرسُ الأخيرُ...، والعَضُّ كِنايةٌ عن شِدَّةِ مُلازَمةِ السُّنَّةِ والتَّمسُّكِ بها؛ فإنَّ مَن أراد أن يأخُذَ شيئًا أخذًا شَديدًا يأخُذُه بأسنانِه، أو: المُحافَظةِ على هذه الوَصيَّةِ بالصَّبرِ على مُقاساةِ الشَّدائِدِ، كمَن أصابه ألمٌ لا يُريدُ أن يُظهِرَه، فيشتَدُّ بأسنانِه بعضِها على بعضٍ، قال بعضُ المُحقِّقينَ: هذه استِعارةٌ تَمثيليَّةٌ، شَبَّه حالَ المُتمسِّكِ بالسُّنَّة المُحمَّديَّةِ بجميعِ ما يُمكِنُ مِن الأسبابِ المُعينةِ عليه؛ بحالِ مَن يتمسَّكُ بشيءٍ بيدَيه، ثُمَّ يستَعينُ عليه استِظهارًا للمُحافَظةِ في ذلك؛ لأنَّ تحصيلَ السَّعاداتِ الحقيقيَّةِ بَعدَ مُجانَبةِ كُلِّ صاحِبٍ يُفسِدُ الوَقتَ، وكُلِّ سببٍ يفتِنُ القلبَ: مَنُوطٌ باتِّباعِ السُّنَّةِ، بأن يمتثِلَ الأمرَ على مُشاهَدةِ الإخلاصِ، ويُعظِّمَ النَّهيَ على مُشاهَدةِ الخوفِ) [124] ((مرقاة المفاتيح)) (1/253). .
وقال الآجُرِّيُّ: (اعلَموا -رحِمنا اللهُ وإيَّاكم- أنَّ اللهَ تعالى قد أعلَمَنا وإيَّاكم في كتابِه أنَّه لا بُدَّ مِن أن يكونَ الاختِلافُ بَينَ خَلقِه؛ ليُضِلَّ مَن يشاءُ، ويهديَ مَن يشاءُ، جعَل ذلك اللهُ عزَّ وجلَّ موعِظةً يتذكَّرُ بها المُؤمِنونَ، فيحذَرونَ الفُرقةَ، ويلزَمونَ الجماعةَ، ويَدَعونَ المِراءَ والخُصوماتِ في الدِّينِ، ويتَّبِعونَ ولا يبتدِعونَ) [125] ((الشريعة)) (1/ 280). .
وقال ابنُ تيميَّةَ بَعدَ أن ذكَر نُصوصًا كثيرةً تُخبِرُ بوُقوعِ الافتِراقِ في هذه الأمَّةِ: (هذا المعنى محفوظٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن غَيرِ وَجهٍ يُشيرُ إلى أنَّ التَّفرِقةَ والاختِلافَ لا بُدَّ مِن وُقوعِهما في الأمَّةِ، وكان يُحذِّرُ أمَّتَه لينجوَ منه مَن شاء اللهُ له السَّلامةَ) [126] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 143). .

انظر أيضا: