موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: الذين تعرَّضوا للموازنةِ بَينَ الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ


1- أبو اليسر محمَّدُ بنُ محمَّدٍ البَزْدَويُّ الحَنَفيُّ (493هـ).
2- ابنُ عساكِر (571هـ).
3- تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ (771هـ).
4- التَّفْتازانيُّ الحَنَفيُّ (792هـ).
5- المَقْريزيُّ (845هـ).
6- عبدُ الرَّحيمِ -المعروفُ بشيخ زاده- الحَنَفيُّ (944هـ)، فقد أفرد لهذا الموضوعِ كتابَ: (نَظْم الفرائد وجمع الفوائد).
7- عبدُ الوهَّابِ الشَّعرانيُّ الصُّوفيُّ (973هـ).
8- كمالُ الدِّينِ أحمدُ بنُ حَسَن بنِ سِنان البياضيُّ الحَنَفيُّ (1098هـ).
9- الملَّا على القاري الحَنَفيُّ الماتُريديُّ (1014هـ).
10- صالحُ بنُ مهديٍّ المقبليُّ (1108هـ).
11- عبدُ اللهِ بنُ عُثمانَ -المعروفُ بمستحيي زاده- الحَنَفيُّ (1150هـ)، فقد أفرد لذلك رسالةً في الخلافيَّاتِ بَينَ الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ.
12- الحَسَنُ بنُ عبدِ المحسِنِ المعروفُ بأبي عذبة (كان حيًّا سنة 1173هـ)، فقد صنَّف كتابًا أسماه: الرَّوضة البهيَّة فيما بَينَ الأشاعرةِ والماتُريديَّة.
13- مرتضى الزَّبيدي (1205هـ).
14- محمَّد زاهِد الكَوثَريُّ (1371هـ).
15- أحمد أمين المصريُّ (1373هـ).
16- محمَّدُ بنُ أحمَد أبو زهرة (1393هـ).
17- محمَّد يوسُف البنوريُّ الديوبنديُّ (1397هـ).
18- فؤاد سزكين.
19- محمود قاسم.
20- جلال موسى.
21- فتح الله خليف.
22- أبو الخير محمَّد أيُّوب علي البنغلاديشيُّ.
23- علي عبد الفتاح المغربيُّ.
24- أحمد عصام الكاتب.
ومن المُستَشرِقينَ:
1- جولد تسيهر (1340هـ).
2- ماكدونالد (1362هـ).
3- كارْل بُروكْلمان الألمانيُّ (1375هـ).
وحاصِلُ بحوثِ هؤلاء الباحثينَ حولَ موازنتِهم بَينَ الفريقينِ ما يلي:
1- اتِّفاقُ الفريقينِ في المنهَجِ وأصولِ المَذهَبِ.
2- الفريقانِ من أهلِ الكلامِ، ومن أهلِ النَّظَرِ العقليِّ والصِّناعةِ الفِكريَّةِ.
3- الفريقانِ أهلُ التَّوسُّطِ بَينَ طرَفَي إفراطِ المُعتزِلةِ العقليَّةِ المحْضةِ، وبَينَ تفريطِ الحَشَويَّةِ النَّقليَّةِ البَحْتةِ، يعنون أهلَ السُّنَّةِ أصحابَ الحديثِ.
4- الفريقانِ -مع اتِّفاقِهما فيما بينهما في المنهجِ والأصولِ- مخالفانِ في الأصولِ لسائرِ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ مخالفةً كبيرةً.
5- الخِلافُ في المسائلِ العَقَديَّةِ بَينَ الفريقينِ قليلٌ، وهو خلافٌ لَفظيٌّ في غالبِها، وغيرُ جوهريٍّ، بل في التَّفاريعِ دونَ الأصولِ، ولا يستدعي التَّبديعَ والتَّفسيقَ بينهما، فهم كفِرقةٍ واحدةٍ، والخلافُ بينهما كالخِلافِ الذي يكونُ بَينَ أهل المَذهَبِ الواحِدِ.
6- الماتُريديُّ والأشْعَريُّ إماما أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ -على زَعْمِهم- وعقائِدُهما هي أصولُ الأئمَّةِ، فالأشْعَريُّ قام بنصرةِ نُصوصِ مالِكٍ والشَّافعيِّ، والماتُريديُّ قام بنصرةِ أبي حنيفةَ ولم يُبْدِعا مقالةً ولا مَذهَبًا جديدًا، وليس لهما أكثَرُ من بَسطِ مَذهَبِ السَّلَفِ، وشَرْحِه، والتَّأليفِ في نُصرتِه -على زَعمِهم-، وإذا أُطلِق أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فالمرادُ الأشْعَريَّةُ والماتُريديَّةُ، وقد يُطلَقُ مَذهَبُ الأشاعرةِ ويرادُ به مَذهَبُ الأشْعَريَّةِ والماتُريديَّةِ تغليبًا.
تلك أهَمُّ آراءِ من تصدَّى للموازنةِ بَينَ الفريقينِ، وهناك آراءٌ أُخرى، منها ما يلي:
1- يرى الكَوْثَريُّ وأبو زهرةَ ترجيحَ الماتُريديَّةِ على الأشْعَريَّةِ، بأنَّ الماتُريديَّةَ هم الوَسَطُ بَينَ الأشْعَريَّةِ وبَينَ المُعتزِلةِ؛ لأنَّ الماتُريديَّةَ -في زعمِهما- أعطَوا النَّقلَ حَقَّه والعَقلَ حُكمَه، بخلافِ الأشْعَريَّةِ؛ بسببِ ابتعادِهم عن العَقلِ مرَّةً، وعن النَّقلِ أُخرى، فقُربُ الماتُريديَّةِ إلى المُعتزِلةِ أكثَرُ من قُربِ الأشْعَريَّةِ إلى المُعتزِلةِ، ويرى محمود قاسم: أنَّ الماتُريديَّ أكثَرُ تسامحًا مع المُعتزِلةِ، وأقرَبُ إليهم منه إلى الأشاعرةِ، وقال المُستشرِقُ قولد تسيهر: (وعلى العمومِ فإنَّ آراءَ الماتُريديَّةِ أكثَرُ حريَّةً وعقليَّةً من آراءِ زملائِهم الأشاعرةِ؛ فأولئك أدنى إلى المُعتزِلةِ من هؤلاء)  [656] ((العقيدة والشريعة في الإسلام)) (ص: 99). .
2- يرى صالح بنِ مهدي المقبليُّ اليمانيُّ أنَّ الفرقتينِ الرَّئيسيَّتينِ هما المُعتزِلةُ والأشْعَريَّةُ، أمَّا الماتُريديَّةُ فلا وجود لها استقلالًا؛ فهم مُعتزِلةٌ في مهمَّاتِ الدِّينِ؛ بل في محمود مسائلِهم إلَّا مسألةَ الكَسْبِ، وهم أشْعَريَّةٌ في مسألةِ الرُّؤيةِ، وخَلقِ الأفعالِ. وهذا حكمٌ قاسٍ على الماتُريديَّةِ، بل الفريقانِ الماتُريديَّةُ والأشْعَريَّةُ -ولا سيَّما المتأخِّرين منهم- واسطةٌ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ وبَينَ الجَهْميَّةِ الأولى والمُعتزِلةِ؛ فالماتُريديَّةُ والأشْعَريَّةُ من فِرَقِ المعطِّلةِ على اختلافِ دَرَكاتِهم في التَّعطيلِ، ولا يُرى فَضلٌ واضِحٌ لإحدى هاتين الطَّائفتينِ على الأخرى غيرَ أنَّ الأشْعَريَّةَ القُدامى أقرَبُ إلى أهلِ السُّنَّةِ.
والأشْعَريَّةُ -لا سيما المتأخِّرين منهم- بَينَ أهلِ السُّنَّةِ وبينَ الجَهْميَّةِ والمُعتزِلة، وكِلاهما من فِرَقِ المعطِّلةِ، غيرَ أنَّ الأشاعِرةَ القُدامى أقرَبُ إلى أهلِ السُّنَّةِ؛ كأبي الحسَنِ الأشْعَريِّ، والباقِلَّانيِّ.
3- يرى أحمد أمين أنَّ الاعتزالَ أظهَرُ في الأشْعَريَّةِ بالنِّسبةِ إلى الماتُريديَّةِ؛ والماتُريديَّةُ لم يبلغوا مبلَغَ أتباعِ الأشْعَريِّ في العِلمِ، فرجَح مَذهَبُ الأشْعَريِّ، وزاد انتشارُه، وكَثُر أتباعُه. وهذا الرَّأيُ عَكسُ الآراءِ السَّابقةِ التي تقرِّرُ أنَّ الماتُريديَّةَ أقرَبُ إلى المُعتزِلةِ.
4- رجَّح عبدُ العزيزِ الفريهاريُّ الماتُريديُّ مَذهَبَ الأشْعَريَّةِ على الماتُريديَّةِ باعتبارِ أنَّ الأشاعرةَ أرسخُ عُلومًا، ولهم يدٌ طولى في التَّدقيقِ، أمَّا الماتُريديَّةُ فأكثَرُ أدِلَّتِهم من قبيلِ الإقناعاتِ؛ ولذلك يسمَّى مجموعُ الفريقينِ الأشاعرةَ؛ تغليبًا لاسمِ الأشْعَريِّ؛ لأنَّه أشهَرُ، وأكثَرُ عِلمًا بالدَّقائِقِ والدَّلائِلِ  [657] يُنظر: ((النبراس)) (ص: 183، 229). ويُنظر: ((اليواقيت)) للشعراني (1/3). .
5- يرى أحمد عصام الكاتب أنَّ موقِفَ أبي منصورٍ الماتُريديِّ وموقِفَ أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ وموقِفَ أصحابِ الحديثِ من آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ: مَوقِفٌ واحِدٌ  [658] يُنظر: ((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (ص: 106، 100). .
وهذه التَّسويةُ لا يشُكُّ مُنصِفٌ في بعدِها عن الواقِعِ؛ فجَعْلُ مَذهَبِ أبي منصورٍ الماتُريديِّ كمَذهَبِ أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ في بابِ الصِّفاتِ خَطَأٌ؛ فأبو الحسَنِ الأشْعَريُّ تابعَ السَّلَفَ في إثباتِ الصِّفاتِ، وانتسب إليهم صراحةً، كما يظهَرُ ذلك في كتابَيه "الإبانة عن أصول الدِّيانة" و"مقالات الإسلاميِّينَ"، وإن كان متأخِّرو الأشاعرةِ يخالفون إمامَهم، وقرَّروا في مَذهَبِهم ما تبرَّأ أبو الحسَنِ الأشْعَريُّ منه؛ كنفي الصِّفاتِ الخَبَريَّة -كالوَجهِ والعَينِ واليدينِ-، وإنكارِ وَصفِ اللهِ بالاستواءِ على عَرشِه كما يليقُ بجَلالِه [659] يُنظر فرقة الأشاعرة من هذه الموسوعة. .
وأما أبو منصورٍ الماتُريديُّ فهو يُنكِرُ عُلوَّ اللهِ تعالى صراحةً  [660] يُنظر: ((التوحيد)) (ص: 67 - 69). ، ويُؤَوِّلُ صِفةَ العُلوِّ والفوقيَّةِ إلى فوقيَّةِ القَهرِ والاستيلاءِ، وتعاليه عن الأمكنةِ، وعُلوِّ القَهرِ، ويُؤَوِّلُ صفةَ الاستواءِ إلى الاستيلاءِ كما هو قولُ المُعتزِلةِ  [661] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (1/ 410 – 412) و (4/ 451 - 454). ، ويؤَوِّلُ صِفةَ العينِ إلى الحِفظِ والرِّعايةِ والإعلامِ والأمرِ والوَحيِ والنَّظَرِ  [662] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (7/ 280، 282، 285). ، ويُؤَوِّلُ صِفةَ اليدِ إلى النِّعمةِ أو القُدرةِ  [663] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/ 538، 636، 646، 647). ، ويزعُمُ أنَّ موسى عليه السَّلام لم يسمَعْ كلامَ اللهِ سُبحانَه، وإنما أسمعه بلسانِ موسى وبحروفٍ خلَقَها، وصوتٍ أنشأه  [664] يُنظر: ((التوحيد)) (ص: 59). ، وقال في مسألةِ رُؤيةِ المؤمنينَ لرَبِّهم: (يُرى بلا وصفِ قيامٍ وقعودٍ، واتِّكاءٍ وتعَلُّقٍ، واتِّصالٍ وانفصالٍ، ومقابَلةٍ ومُدابرةٍ، وقصيرٍ وطويلٍ، ونورٍ وظُلمةٍ، وساكِنٍ ومتحَرِّكٍ، ومماسٍّ ومُباينٍ، وخارجٍ وداخِلٍ)  [665] ((التوحيد)) (ص: 85). ويُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (5/ 31). .
فلازمُ كلامِ أبي منصورٍ الماتُريديِّ نَفيُ حقيقةِ الرُّؤيةِ، وجَعْلُها مستحيلةً، كما يتضمَّنُ كلامُه صراحةً نَفْيَ عُلوِّ اللهِ تعالى، وأنَّه لا داخِلَ العالمِ ولا خارِجَه، ولا متَّصِلًا به ولا منفَصِلًا عنه!
فلا يصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ موقِفَ أبي منصورٍ الماتُريديِّ من الصِّفاتِ مِثلُ مَوقِفِ السَّلَفِ، وهو إثباتُها بلا كيفٍ.
نعم، اقترب متأخِّرو الأشاعِرةِ من المُعتزِلةِ والجَهْميَّةِ، كما هو الحالُ في مَذهَبِ الماتُريديَّةِ، فصار الفريقانِ في الحقيقةِ فِرقةً واحِدةً في المنهَجِ والأُصولِ.
والخلافُ بينهما في بَعضِ المسائِلِ لا يَنفي كونَهما فرقةً واحِدةً؛ لوُجوهٍ:
1- أنَّ الخلافَ بَينَ الفريقينِ ليس جوهريًّا، بل في التَّفريعاتِ دونَ الأصولِ.
2- أنَّ ذلك لا يستلزِمُ التَّفسيقَ والتَّضليلَ والتَّبديعَ عِندَهم.
3- أنَّ الخِلافَ لفظيٌّ في جُلِّ تلك المسائِلِ.
4- لا بدَّ من الاختلافِ اليسيرِ فيما بَينَ المنتسبينِ إلى أيِّ فرقةٍ، كالخلافِ الواقِعِ بَينَ المُعتزِلةِ من البغداديِّينَ والبصريِّينَ وغَيرِهم، ولكِنْ لكَونِ الماتُريديَّةِ ينتَسِبونَ إلى أبي منصورٍ الماتُريديِّ، والأشاعِرةِ ينتَسِبون إلى أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ، اشتَهَرا كفرقتَينِ مستقِلَّتينِ، وإن كانتا في الحقيقةِ فرقةً واحدةً باعترافِ كثيرٍ من عُلَماءِ الماتُريديَّةِ والأشاعرةِ، حتَّى إنَّ بعضَهم يدرُسون ويشرَحون كتُبَ بَعضٍ.
قال التَّاجُ السُّبكيُّ الأشْعَريُّ: (الحَنَفيَّةُ أكثَرُهم أشاعرةٌ، أعني يعتَقِدونَ عَقدَ الأشْعَريِّ... تفحَّصْتُ كُتُبَ الحَنَفيَّةِ فوجدتُ جميعَ المسائِلِ التي بيننا وبينَ الحَنَفيَّةِ خِلافٌ، فيها ثلاثَ عَشرةَ مسألةً، منها معنويٌّ سِتُّ مسائِلَ، والباقي لفظيٌّ، وتلك السِّتُّ المعنويَّةُ لا تقتضي مخالفَتُهم لنا ولا مخالفَتُنا لهم فيها تكفيرًا ولا تبديعًا، صرَّح بذلك الأستاذُ أبو منصورٍ البغداديُّ وغيرُه من أئمَّتِنا وأئمَّتِهم، وهو غنيٌّ عن التَّصريحِ لظُهورِه... وما مِثلُ هذه المسائِلِ -يعني مسائِلَ الخلافِ بَينَ الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ- إلَّا مِثلُ مَسائِلَ كثيرةٍ اختلف الأشاعرةُ فيها، وكلُّهم عن حِمى أبي الحَسَنِ يُناضِلونَ، وبسَيفِه يقاتلونَ، أفتراهم يُبَدِّعُ بعضُهم بعضًا؟!) [666] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 378). .
وقال كمالُ الدِّينِ البَياضيُّ الحَنَفيُّ الماتُريديُّ: (الخامِسةُ: أنَّهم -يعني الماتُريديَّةَ والأشْعَريَّةَ- متَّحِدو الأفرادِ في أصولِ الاعتقادِ، وإن وقع الاختلافُ في التَّفاريعِ بينهما؛ إذ لا يُعَدُّ كُلُّ من خالف غيرَه في مسألةٍ ما صاحِبَ مقالةٍ عُرفًا، وما من مَذهَبٍ من المذاهِبِ إلَّا ولأصحابِه اختلافٌ في التَّفاريعِ، فلو اعتُبر مانِعًا عن اتحادِ الفِرقةِ لم تُعَدَّ واحِدةٌ منها فِرقةً، كما في النِّحَلِ وغَيرِها) [667] ((إشارات المرام)) (ص: 52). .
واصطلح المتأخِّرون من الماتُريديَّةِ والأشاعرةِ على تسميةِ الفريقَينِ الأشاعرةَ تغليبًا للأشْعَريَّةِ على الماتُريديَّةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ الخلافَ بَينَ الفريقينِ لا يمنَعُ أن يكونا فِرقةً واحدةً، وقد صرَّح الحَنَفيَّةُ الماتُريديَّةُ الدَّيوبنديَّةُ أنَّهم أشْعَريَّةٌ وماتُريديَّةٌ في آنٍ واحدٍ.
وهذا يدُلُّ على أنَّ الفريقينِ في الحقيقةِ فِرقةٌ واحدةٌ في المنهجِ وأصولِ المعتَقَدِ، ولا عبرةَ بالخلافيَّاتِ اليسيرةِ بينهما، قال الحسَنُ بنُ عبدِ المحسِنِ أبو عذبةَ: (إنَّ طَعْنَ بعضِهم في بعضٍ لأجلِ هذه المسائِلِ الخلافيَّةِ إنَّما صدر من المقَصِّرينَ المتعَصِّبينَ الذين لا اعتدادَ بأقوالهم، ولم يصدُرْ عن أساطينِهم وعُظَمائِهم) [668] ((الروضة البهية)) (ص: 71). .
فالحاصِلُ: أنَّ الماتُريديَّةَ والأشْعَريَّةَ فِرقةٌ واحِدةٌ في المنهَجِ وأصولِ العقائِدِ، وهم مخالِفون لسائرِ الفِرَقِ مخالفةً جوهريَّةً، وما بينهما من الخلافِ لا يمنعُ من اتحادِهما، وكلا الفريقينِ الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ يدَّعون أنَّهم أهلُ السُّنَّةِ، وأنَّهم على مَذهَبِ السَّلَفِ الصَّالحِ، وأنَّهم الفِرقةُ النَّاجيةُ التي يجبُ على المُسلِمين اتِّباعُها، والنَّاظِرُ في كتُبِ عقائِدِهم بعِلمٍ وإنصافٍ يتبيَّنُ له أنَّه لا صِلةَ لهم بالسَّلَفِ الصَّالحِ في كثيرٍ من أبوابِ العقيدةِ، وأنَّ الأشْعَريَّة لا تصِحُّ نسبتُهم إلى الإمامِ أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ، كما أنَّ الماتُريديَّةَ لا صلةَ لهم بعقيدةِ الإمامِ أبي حنيفةَ.
فأبو الحسَنِ الأشْعَريُّ كان على مَذهَبِ المُعتزِلةِ، ثمَّ رجع عنه، وألَّف كتابَ: الإبانة عن أصولِ الدِّيانة، الذي هو آخِرُ كُتُبِه، واستقرَّ مَذهَبُه على ما في كتابِ الإبانة، الذي صرَّح فيه أنَّه على طريقةِ السَّلَفِ في إثباتِ الصِّفاتِ دونَ تأويلٍ.
وقد ذكر أبو الحسَنِ الأشْعَريُّ في كتابِه: مقالات الإسلاميِّين، عقيدةَ أهلِ الحديثِ والسُّنَّةِ، ثمَّ قال: (وبكُلِّ ما ذكَرْنا من قولِهم نقولُ، وإليه نذهَبُ، فأمَّا أصحابُ عبدِ اللهِ بنِ سعيدٍ القَطَّانِ وهو ابنُ كُلَّابٍ فإنَّهم يقولون بأكثَرِ ما ذكَرْناه عن أهلِ السُّنَّةِ)  [669] ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 229). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (ابنُ كُلَّابٍ إمامُ الأَشْعَريَّةِ أَكثَرُ مُخالَفةً لجَهْمٍ، وأَقرَبُ إلى السَّلَفِ مِن الأَشْعَرِيِّ نفْسِه، والأَشْعَرِيُّ أَقرَبُ إلى السَّلَفِ مِن القاضي أبي بَكرٍ الباقِلَّانيِّ، والقاضي أبو بَكرٍ وأمْثالُه أَقرَبُ إلى السَّلَفِ مِن أبي المَعالي وأتباعِه؛ فإنَّ هؤلاء نَفَوا الصِّفاتِ؛ كالاستِواءِ، والوَجْهِ، واليَدَينِ، ثُمَّ اخْتَلَفوا: هل تُتأوَّلُ أو تُفوَّضُ؟ على قَولَينِ أو طَريقَينِ، فأوَّلُ قَولَي أبي المَعالي هو تَأويلُها كما ذَكَرَ ذلك في الإرْشادِ، وآخِرُ قَولَيه تَحْريمُ التَّأويلِ، ذَكَرَ ذلك في الرِّسالةِ النِّظاميَّةِ، واسْتَدلَّ بإجْماعِ السَّلَفِ على أنَّ التَّأويلَ ليس بسائِغٍ ولا واجِبٍ، وأمَّا الأَشْعَرِيُّ نفْسُه وأئِمَّةُ أصْحابِه فلم يَخْتلِفْ قَولُهم في إثْباتِ الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، وفي الرَّدِّ على مَن يَتَأوَّلُها كمَن يقولُ: اسْتَوى بمَعْنى: اسْتَولى، وهذا مَذْكورٌ في كُتُبِه كلِّها؛ كالمُوجَزِ الكَبيرِ، والمَقالاتِ الصَّغيرةِ والكَبيرةِ، والإبانةِ، وغَيرِ ذلك، وهكذا نَقَلَ سائِرُ النَّاسِ عنه حتَّى المُتَأخِّرونَ؛ كالرَّازِيِّ، والآمِدِيِّ، يَنقُلونَ عنه إثْباتَ الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، ولا يَحْكونَ عنه في ذلك قَولَينِ؛ فمَن قال: إنَّ الأَشْعَرِيَّ كانَ يَنْفيها، وأنَّ له في تَأويلِها قَولَينِ فقدِ افْتَرى عليه، ولكنَّ هذا فِعْلُ طائِفةٍ مِن مُتَأخِّري أصْحابِه كأبي المَعالي ونَحْوِه؛ فإنَّ هؤلاء أَدخَلوا في مَذهَبِه أشْياءَ مِن أُصولِ المُعْتَزِلةِ) [670] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 202، 203) باختصار.      .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (كثيرٌ من أصحابِ الأشْعَريِّ المتأخِّرين خرَجوا عن كثيرٍ مِن قَولِه إلى قولِ المُعتزِلةِ أو الجَهْميَّةِ أو الفلاسِفةِ) [671] ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 127). .
وقال أيضًا: (أمَّا مَن قال مِنهم بكِتابِ الإبانةِ الَّذي صَنَّفَه الأشْعَريُّ في آخِرِ عُمُرِه، ولم يُظهِرْ مَقالةً تُناقِضُ ذلك؛ فهذا يُعَدُّ مِن أهْلِ السُّنَّةِ، لكِنْ مجرَّدُ الانتسابِ إلى الأشْعَريَّةِ بِدعةٌ، لا سيَّما وأنَّه بذلك يوهِمُ حُسنًا بكُلِّ من انتسب هذه النِّسبةَ، وينفتِحُ بذلك أبوابُ الشَّرِّ) [672] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 359). ويُنظر: ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (ص: 417)، ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (2/209)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (2/96)، ((منهج الأشاعرة)) للحوالي (ص: 13-22). .
الأدِلَّةُ على أنَّ الماتُريديَّةَ فِرقةٌ كلاميَّةٌ ليس لها صِلةٌ في كثيرٍ من مسائِلِ الاعتقادِ بأبي حنيفةَ خاصَّةً ولا بأهلِ السُّنَّةِ المحضةِ عامَّةً:
1- تقدَّم أنَّ الماتُريديَّةَ والأشْعَريَّةَ فِرقةٌ واحِدةٌ، متَّفِقةٌ في المنهَجِ وأصولِ العقائِدِ، وأنهما مخالفتان لبقيَّةِ الفِرَقِ الكلاميَّةِ في الأصولِ مخالفةً كبيرةً، ومن أعظَمِ ما يميِّزُهما إنكارُ صفةِ العُلوِّ للهِ، بمعنى استواءِ اللهِ على عَرشِه استواءً يليقُ بجلالِه، وقولُهم بالكلامِ النَّفسيِّ.
2- يقولُ الماتُريديَّةُ كالأشاعرةِ: إنَّ اللهَ لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، ولا متَّصِلًا به ولا منفَصِلًا عنه، ولا فوقَ ولا تحتَ.
3- يتَّفِقُ الماتُريديَّةُ على إثباتِ أربَعِ صِفاتٍ لله سُبحانَه، وهي: الحياةُ، والعِلمُ، والقُدرةُ، والإرادةُ، ولهم خِلافٌ في إثباتِ السَّمعِ والبَصَرِ، ويزيدون صِفةً أخرى يُسمُّونها التَّكوينَ، وهي عندَهم مرجِعُ جميعِ صفاتِ الأفعالِ المتعَدِّية، وهم لا يَعُدُّونَ الصِّفاتِ الفعليَّةَ صفاتٍ حقيقيَّةً، ويُؤَوِّلون أو يفَوِّضون غالِبَ الصِّفاتِ الثَّابتةِ في القرآنِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، أمَّا صفةُ الكلامِ فعطَّلوها وحرَّفوا نصوصَها، وقالوا بالكلامِ النَّفسيِّ، وأنكروا أن يكونَ كلامُ اللهِ بحَرفٍ وصوتٍ، وقالوا متابعةً للمُعتزِلةِ بخَلقِ القرآنِ الكريمِ.
4- يدَّعي الماتُريديَّةُ كالأشاعرةِ أنَّ السَّلَفَ الصَّالحَ كانوا مفَوِّضةً في الصِّفاتِ، ويخوضون في تأويلِ الصِّفاتِ، ويقولون: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ أسلَمُ، وطريقةَ الخلَفِ أحكَمُ وأعلَمُ.
5- أبو حنيفةَ يُثبِتُ للهِ الوَجهَ، واليَدَ والنَّفْسَ وغَيرَها من الصِّفاتِ، ويُصَرِّح بأنَّ تأويلَها تعطيلٌ لها، لكِنَّ الماتُريديَّةَ خالفوا إمامَهم الذي ينتَسِبون إليه في الفِقهِ، واختاروا مَذهَبَ المُعتزِلةِ، فعطَّلوا تلك الصِّفاتِ، وحرَّفوا نصوصَها.
6- أبو حنيفةَ يُثبِتُ للهِ تعالى صِفَتَي الغضَبِ والرِّضا، ولكِنَّ الماتُريديَّةَ يُعَطِّلون ذلك، ويحَرِّفون نصوصَهما.
7- أبو حنيفةَ صَرَّح بأنَّ موسى عليه السَّلامُ سَمِع كلامَ اللهِ تعالى، أمَّا الماتُريديَّةُ فيَنفون ذلك، ويقولون: إنَّما سمع صوتًا مخلوقًا بحروفٍ مخلوقةٍ.
8- الماتُريديَّةُ مُرجِئةٌ في الإيمانِ؛ فالإيمانُ عندهم هو التَّصديقُ فقط، والإقرارُ والأعمالُ خارجانِ عن الإيمانِ، والإقرارُ باللِّسانِ شَرطٌ لإجراءِ الأحكامِ في الدُّنيا فقط، فعِندَهم أنَّ من صدَّق بقَلبِه ولم يُقِرَّ بلسانِه فهو مؤمِنٌ ناجٍ عِندَ اللهِ، وعندَهم أنَّ الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقُصُ.
9- زَعَم غُلاةُ الماتُريديَّةِ أنَّ عقيدةَ السَّلَفِ الصَّالحِ وعقيدةَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ المتَّبِعينَ لهم عقيدةُ تَشبيهٍ وتجسيمٍ ووثَنيَّةٍ!
وبناءً على هذه الأمورِ يَصِحُّ وَصفُ الماتُريديَّةِ بأنَّهم جَهْميَّةٌ، بمعنى أنَّهم معطِّلةٌ؛ لأنَّ أئمَّةَ السُّنَّةِ أطلقوا لفظَ الجَهْميَّةِ على المعَطِّلةِ، سواءٌ كانت الجَهْميَّةُ الأُولى، أو المُعتزِلةُ، أو الأشْعَريَّةُ، أو الماتُريديَّةُ، أو غيرُهم.
قال يزيدُ بنُ هارونَ: (من زعم أنَّ الرَّحمنَ على العَرْشِ استوى على خِلافِ ما يَقِرُّ في قلوبِ العامَّةِ، فهو جَهْميٌّ)  [673] رواه أبو داود في ((مسائل الإمام أحمد)) (ص: 268 - 269)، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/123)، وذكره البخاري تعليقا بالجزم في ((خلق أفعال العباد)) (ص: 24). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (السَّلَفُ كانوا يسمُّون كُلَّ من نفى الصِّفاتِ، وقال: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وإنَّ اللهَ لا يُرى في الآخرةِ- جَهميًّا)  [674] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/427). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (الجَهْميَّةُ من ينفي صفاتِ اللهِ تعالى التي أثبتها الكِتابُ والسُّنَّةُ، ويقولُ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ)  [675] ((هدي الساري)) (ص: 459). .
لكنْ مَذهَبُ الماتُريديَّةِ ليس جَهْميًّا محْضًا؛ فالماتُريديَّةُ يوافقون أهلَ السُّنَّةِ في إثباتِ الأسماءِ الحُسنى، وفي إثباتِ بعضِ الصِّفاتِ لله سُبحانَه، وفي بابِ الإيمانِ بالقَدَرِ، والإيمانِ باليومِ الآخِرِ، وفي بابِ الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم وترتيبِ الخلافةِ، فهم أهلُ سُنَّةٍ في مقابلةِ الرَّوافِضِ والخوارجِ، لكنهم ليسوا من أهلِ السُّنَّةِ المحْضةِ المتَّبِعينَ للسَّلَفِ الصَّالحِ.
فلفظُ أهلِ السُّنَّةِ يُطلَقُ اصطِلاحًا على معنيينِ: معنًى عامٍّ، ومعنًى خاصٍّ؛ فبالمعنى العامِّ: يدخُلُ فيه كثيرٌ من الفِرَقِ المبتَدِعةِ إلَّا الرَّافِضةَ، وبالمعنى الخاصِّ: لا يدخُلُ فيه إلَّا أهلُ السُّنَّةِ المحْضةِ، وهم السَّلَفُ الصَّالحُ ومن اتَّبَعهم بإحسانٍ، بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، وبلا غُلُوٍّ وطغيانٍ ولا جفاءٍ وإعراضٍ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (لفظُ أهلِ السُّنَّةِ يرادُ به من أثبت خلافةَ الخُلَفاءِ الثَّلاثةِ، فيدخُلُ في ذلك -أي معنى أهلِ السُّنَّةِ- جميعُ الطَّوائفِ إلَّا الرَّافِضةَ، وقد يرادُ به أهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ المحْضةِ، فلا يدخُلُ فيه إلَّا من يُثبِتُ الصِّفاتِ للهِ تعالى، ويقولُ: إنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، وإنَّ اللهَ يُرى في الآخرةِ، وغيرَ ذلك من الأمورِ المعروفةِ عِندَ أهلِ الحديثِ والسُّنَّةِ)  [676] ((منهاج السنة)) (2/221). .

انظر أيضا: