موسوعة الفرق

المطلَبُ الثَّاني: مَذهَبُ الماتُريديَّةِ في التَّكليفِ بما لا يُطاقُ


مسألةُ التَّكليفِ بما لا يُطاقُ من المسائِلِ التي وقع فيها الخلافُ بَينَ طوائِفِ المُسلِمين تبعًا للخلافِ الواقِعِ في الاستطاعةِ والتَّحسينِ والتَّقبيحِ؛ فالجَهْميَّةُ قالوا بجوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ مطلقًا، ومنه تكليفُ الأعمى البَصَرَ، والزَّمِنِ أن يسيرَ إلى مكَّةَ [631] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (ص: 36)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/297). .
والمُعتزِلةُ قالوا بعَدَمِ جوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ؛ لأنَّه قبيحٌ، واللهُ تعالى منزَّهٌ عن فِعلِ القبيحِ، فلا يجوزُ صدورُه منه  [632]يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 133، 396- 409)، ((نظرية التكليف)) لعبد الكريم عثمان (ص: 300- 304). .
والأشاعرةُ قالوا بجوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ به عقلًا، وإن لم يقَعْ في الشَّرعِ، فأجازوه عقلًا بناءً على نفيِهم التَّحسينَ والتَّقبيحَ العقليَّينِ  [633]يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (1/98)، ((المطالب العالية)) للرازي (9/267- 271)، ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) للرازي (ص: 297، 298)، ((شرح المواقف)) للجرجاني (1/160، 161).  .
والماتُريديَّةُ وافقوا المُعتزِلةَ في هذه المسألةِ، فقالوا بعدمِ جوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ؛ لأنَّه فاسِدٌ عقلًا، ولعَدَمِ وُجودِ القُدرةِ التي هي مقتضى التَّكليفِ.
قال الماتُريديُّ: (الأصلُ أنَّ تكليفَ من مُنِع عنه الطَّاقةُ فاسِدٌ في العَقلِ) [634] ((التوحيد)) (ص: 266). .
وقال ابنُ الهُمَامِ: (لا أعلَمُ أحدًا منهم «أي الماتُريديَّةِ» جوَّز تكليفَ ما لا يطاقُ) [635] ((المسايرة)) (ص: 156). .
وقال شيخي زاده: (ذهَبَت مشايخُ الحَنَفيَّةِ إلى أنَّ التَّكليفَ بما لا يطاقُ من اللهِ تعالى لا يجوزُ... احتجَّ مشايخُ الحَنَفيَّةِ بأنَّ التَّكليفَ إنما يُتصوَّرُ في أمرٍ لو أتى به يثابُ، ولو امتنع عنه يعاقَبُ عليه، وذلك إنما يكونُ فيما يمكِنُ إتيانُه، لا فيما لا يمكِنُ إتيانُه، وبأنَّ قولَه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] صريحٌ في أنَّ التَّكليفَ به غيرُ واقِعٍ) [636] ((نظم الفرائد)) (ص: 25، 26). .
والصَّوابُ في المسألةِ هو التَّفصيلُ، أمَّا إطلاقُ القولِ فيها فهو من البِدَعِ المحْدَثةِ [637] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/65)، ((مجموع الفتاوى)) (8/469) كلاهما لابن تيمية.  .
قال ابنُ تيميَّةَ: (تكليفُ ما لا يطاقُ ينقَسِمُ إلى قسمينِ:
أحدُهما: ما لا يطاقُ للعَجزِ عنه، كتكليفِ الزَّمِنِ المشيَ، وتكليفِ الإنسانِ الطَّيرانَ، ونحوِ ذلك، فهذا غيرُ واقعٍ في الشَّريعةِ عِندَ جماهيرِ أهلِ السُّنَّةِ المثبِتينَ للقَدَرِ.
والثَّاني: ما لا يُطاقُ للاشتغالِ بضِدِّه، كاشتغالِ الكافِرِ بالكُفرِ؛ فإنَّه هو الذي صدَّه عن الإيمانِ، وكالقاعِدِ في حالِ قُعودِه، فإنَّ اشتغالَه بالقعودِ يمنعُه أن يكونَ قائمًا، والإرادةُ الجازمةُ لأحدِ الضِّدَّينِ تنافي إرادةَ الضِّدِّ الآخَرِ، وتكليفُ الكافِرِ الإيمانَ من هذا البابِ.
ومثلُ هذا ليس بقبيحٍ عَقلًا عِندَ أحدٍ من العُقلاءِ، بل العُقلاءُ متَّفِقون على أمرِ الإنسانِ ونَهْيِه بما لا يقدِرُ عليه حالَ الأمرِ والنَّهيِ؛ لاشتغالِه بضِدِّه، إذا أمكن أن يترُكَ الضِّدَّ ويفعَلَ الضِّدَّ المأمورَ به، وهذا لا يدخُلُ فيما لا يطاقُ... فإنَّه لا يقالُ للمستطيعِ المأمورِ بالحجِّ إذا لم يحُجَّ: إنَّه كُلِّف بما لا يطيقُ، ولا يقالُ لمن أُمِر بالطَّهارةِ والصَّلاةِ فتَرَك ذلك كسلًا: إنَّه كُلِّف ما لا يطيقُ) [638] ((منهاج السنة)) (3/104، 105). .

انظر أيضا: